واعلم أنه سبحانه لما شرح صفات القهر في ذلك اليوم أردفه ببيان صفات العدل والفضل في ذلك اليوم فقال : ( اليوم تجزى كل نفس بما كسبت ) وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : هذا الكلام اشتمل على أمور ثلاثة ؛ أولها : إثبات الكسب للإنسان . والثاني : أن كسبه يوجب الجزاء . والثالث : أن ذلك الجزاء إنما يستوفى في ذلك اليوم ، فهذه الكلمة على اختصارها مشتملة على هذه الأصول الثلاثة في هذا الكتاب ، وهي أصول عظيمة الموقع في الدين ، وقد سبق تقرير هذه الأصول مرارا ، ولا بأس بذكر بعض النكت في تقرير هذه الأصول . أما الأول : فهو إثبات الكسب للإنسان وهو عبارة عن كون أعضائه سليمة صالحة للفعل والترك ، فما دام يبقى على هذا الاستواء امتنع صدور الفعل والترك عنه ، فإذا انضاف إليه الداعي إلى الفعل أو الداعي إلى الترك وجب صدور ذلك الفعل أو الترك عنه .
وأما الثاني : وهو بيان ترتب الجزاء عليه ، فاعلم أن الأفعال على قسمين ، منها ما يكون الداعي إليه طلب الخيرات الجسمانية الحاصلة في عالم الدنيا ، ومنها ما يكون الداعي إليه طلب الخيرات الروحانية التي لا يظهر كمالها إلا في عالم الآخرة ، وقد ثبت بالتجربة أن كثرة الأفعال سبب لحصول الملكات الراسخة ، فمن غلب عليه القسم الأول استحكمت رغبته في الدنيا وفي الجسمانيات ، فعند الموت يحصل الفراق بينه وبين مطلوبه على أعظم الوجوه ، ويعظم عليه البلاء ، ومن غلب عليه القسم الثاني فعند الموت يفارق المبغوض ويتصل بالمحبوب فتعظم الآلاء والنعماء ، فهذا هو معنى الكسب ومعنى كون ذلك الكسب موجبا للجزاء ، فظهر بهذا أن كمال الجزاء لا يحصل إلا في يوم القيامة ، فهذا قانون كلي عقلي ، والشريعة الحقة أتت بما يقوي هذا القانون الكلي في تفاصيل الأعمال والأقوال . والله أعلم .
المسألة الثانية : هذه الآية أصل عظيم في أصول الفقه ، وذلك لأنا نقول : لو كان شيء من أنواع الضرر [ ص: 43 ] مشروعا لكان إما أن يكون مشروعا لكونه جزاء على شيء من الجنايات أو لا لكونه جزاء ، والقسمان باطلان ، فبطل القول بكونه مشروعا ، أما بيان أنه لا يجوز أن يكون مشروعا ليكون جزاء على شيء من الأعمال ، فلأن هذا النص يقتضي تأخير الأجزية إلى يوم القيامة ، فإثباته في الدنيا يكون على خلاف هذا النص ، وأما بيان أنه لا يجوز أن يكون مشروعا للجزاء لقوله تعالى : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) [البقرة : 185] ولقوله تعالى : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) [الحج : 78] ولقوله صلى الله عليه وسلم : " " عدلنا عن هذه العمومات فيما إذا كانت المضار أجزية ، وفيما ورد نص في الإذن فيه كذبح الحيوانات ، فوجب أن يبقى على أصل الحرمة فيما عداه ، فثبت بما ذكرنا أن لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ، فإن وجدنا نصا خاصا يدل على الشرعية قضينا به تقديما للخاص على العام ، وإلا فهو باق على أصل التحريم ، وهذا أصل كلي منتفع به في الشريعة . والله أعلم . الأصل في المضار والآلام التحريم
الصفة السادسة من صفات ذلك اليوم قوله : ( لا ظلم اليوم ) والمقصود أنه لما قال : ( اليوم تجزى كل نفس بما كسبت ) أردفه بما يدل على أنه لا يقع في ذلك نوع من أنواع الظلم ، قال المحققون : وقوع الظلم في الجزاء يقع على أربعة أقسام ، أحدها : أن يستحق الرجل ثوابا فيمنع منه . وثانيها : أن يعطي بعض بعض حقه ولكنه لا يوصل إليه حقه بالتمام . وثالثها : أن يعذب من لا يستحق العذاب . ورابعها : أن يكون الرجل مستحقا للعذاب فيعذب ويزاد على قدر حقه ، فقوله تعالى : ( لا ظلم اليوم ) يفيد نفي هذه الأقسام الأربعة ، قال القاضي : هذه الآية قوية في إبطال قول المجبرة ; لأن على قولهم لا ظلم غالبا وشاهدا إلا من الله ، ولأنه تعالى إذا خلق فيه الكفر ثم عذبه عليه فهذا هو عين الظلم ، والجواب عنه معلوم .
ثم قال تعالى : ( إن الله سريع الحساب ) وذكر هذا الكلام في هذا الموضع لائق جدا ; لأنه تعالى لما بين أنه لا ظلم بين أنه سريع الحساب . وذلك يدل على أنه يصل إليهم ما يستحقونه في الحال . والله أعلم .