ولما حكى الله تعالى أقوال الذي أنعم عليه بعد وقوعه في الآفات حكى أفعاله أيضا ، فقال : ( وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ) عن التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله ( ونأى بجانبه ) أي ذهب بنفسه وتكبر وتعظم ، ثم إن مسه الضر والفقر أقبل على دوام الدعاء وأخذ في الابتهال والتضرع ، وقد استعير العرض لكثرة الدماء ودوامه وهو من صفات الأجرام ويستعار به الطول أيضا كما استعير الغلظ لشدة العذاب .
واعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد العظيم على الشرط وبين أن المشركين يرجعون عن القول بالشرك في يوم القيامة ، ويظهرون من أنفسهم الذلة والخضوع بسبب استيلاء الخوف عليهم ، وبين أن ، فإن وجد لنفسه قوة بالغ في التكبر والتعظم ، وإن أحس بالفتور والضعف بالغ في إظهار الذلة والمسكنة ذكر عقيبه كلاما آخر يوجب على هؤلاء الكفار أن لا يبالغوا في إظهار النفرة من قبول التوحيد ، وأن لا يفرطوا في إظهار العداوة مع الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : ( الإنسان جبل على التبدل قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد ) وتقرير هذا الكلام أنكم كلما سمعتم هذا القرآن أعرضتم عنه وما تأملتم فيه وبالغتم في النفرة عنه حتى قلتم : ( قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ) .
ثم من المعلوم بالضرورة أنه ليس العلم بكون القرآن باطلا علما بديهيا ، وليس العلم بفساد القول بالتوحيد والنبوة علما بديهيا ، فقبل الدليل يحتمل أن يكون صحيحا وأن يكون فاسدا ، بتقدير أن يكون صحيحا كان إصراركم على دفعه من أعظم موجبات العقاب ، فهذا الطريق يوجب عليكم أن تتركوا هذه الثغرة ، وأن ترجعوا إلى النظرة والاستدلال ، فإن دل الدليل على صحته قبلتموه ، وإن دل على فساده تركتموه ، فأما قبل الدليل فالإصرار على الدفع والإعراض بعيد عن العقل ، وقوله : ( ممن هو في شقاق بعيد ) موضوع موضع منكم بيانا بحالهم وصفاتهم ، ولما ذكر هذه الوجوه الكثيرة في تقرير التوحيد والنبوة ، وأجاب عن شبهات المشركين وتمويهات الضالين قال [ ص: 120 ] : ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) قال الواحدي : واحد الآفاق أفق وهو الناحية من نواحي الأرض ، وكذلك آفاق السماء ونواحيها وأطرافها ، وفي تفسير قوله : ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ) قولان الأول : أن الآيات الفلكية والكوكبية وآيات الليل والنهار وآيات الأضواء والإضلال والظلمات وآيات عالم العناصر الأربعة وآيات المواليد الثلاثة ، وقد أكثر الله منها في القرآن ، وقوله : ( المراد بآيات الآفاق وفي أنفسهم ) المراد منها ، كما قال تعالى : ( الدلائل المأخوذة من كيفية تكون الأجنة في ظلمات الأرحام وحدوث الأعضاء العجيبة والتركيبات الغريبة وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) [ الذاريات : 21 ] يعني نريهم من هذه الدلائل مرة بعد أخرى إلى أن تزول الشبهات عن قلوبهم ، ويحصل فيها الجزم والقطع بوجود الإله القادر الحكيم العليم المنزه عن المثل والضد ، فإن قيل : هذا الوجه ضعيف ؛ لأن قوله تعالى : ( سنريهم ) يقتضي أنه تعالى ما أطلعهم على تلك الآيات إلى الآن وسيطلعهم عليها بعد ذلك .
والآيات الموجودة في العالم الأعلى والأسفل قد كان الله أطلعهم عليها قبل ذلك فثبت أنه تعذر حمل هذا اللفظ على هذا الوجه ، قلنا : إن القوم وإن كانوا قد رأوا هذه الأشياء إلا أن العجائب التي أودعها الله تعالى في هذه الأشياء مما لا نهاية لها ، فهو تعالى يطلعهم على تلك العجائب زمانا فزمانا ، ومثاله كل أحد رأى بعينه بنية الإنسان وشاهدها ، إلا أن العجائب التي أبدعها الله في تركيب هذا البدن كثيرة وأكثر الناس لا يعرفونها ، والذي وقف على شيء منها فكلما ازداد وقوفا على تلك العجائب والغرائب فصح بهذا الطريق قوله : ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ) .
والقول الثاني : أن المراد بآيات الآفاق فتح البلاد المحيطة بمكة وبآيات أنفسهم فتح مكة والقائلون بهذا القول رجحوه على القول الأول لأجل أن قوله : ( سنريهم ) يليق بهذا الوجه ولا يليق بالأول ، إلا أنا أجبنا عنه بأن قوله ( سنريهم ) لائق بالوجه الأول كما قررناه ، فإن قيل حمل الآية على هذا الوجه بعيد لأن أقصى ما في الباب أن محمدا صلى الله عليه وسلم استولى على بعض البلاد المحيطة بمكة ، ثم استولى على مكة إلا أن الاستيلاء على بعض البلاد لا يدل على كون المستولي محقا ، فإنا نرى أن الكفار قد يحصل لهم استيلاء على بلاد الإسلام وعلى ملوكهم ، وذلك لا يدل على كونهم محقين ، ولهذا السبب قلنا : إن حمل الآية على الوجه الأول أولى .
ثم نقول : إن أردنا تصحيح هذا الوجه ، قلنا : إنا لا نستدل بمجرد استيلاء محمد صلى الله عليه وسلم على تلك البلاد على كونه محقا في ادعاء النبوة ، بل نستدل به من حيث إنه صلى الله عليه وسلم أخبر عن مكة أنه يستولي عليها ويقهر أهلها ويصير أصحابه قاهرين للأعداء ، فهذا إخبار عن الغيب ، وقد وقع مخبره مطابقا لخبره ، فيكون هذا إخبارا صدقا عن الغيب ، والإخبار عن الغيب معجزة ، فبهذا الطريق يستدل بحصول هذا الاستيلاء على كون هذا الدين حقا .
ثم قال : ( أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ) وقوله : ( بربك ) في موضع الرفع على أنه فاعل : ( يكف ) و ( أنه على كل شيء شهيد ) بدل منه ، وتقديره : أولم يكفهم أن ربك على كل شيء شهيد ، أنه خلق الدلائل عليها ، وقد استقصينا ذلك في تفسير قوله : ( ومعنى كونه تعالى شهيدا على الأشياء قل أي شيء أكبر شهادة قل الله ) [ الأنعام : 19 ] والمعنى ألم تكفهم هذه الدلائل الكثيرة التي أوضحها الله تعالى وقررها في هذه السورة وفي كل سور القرآن الدالة على التوحيد والتنزيه والعدل والنبوة .
ثم ختم السورة بقوله : ( ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ) أي إن القوم في شك عظيم وشبهة شديدة من البعث والقيامة ، وقرئ ( في مرية ) بالضم .
[ ص: 121 ] ثم قال : ( ألا إنه بكل شيء محيط ) أي عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها فيعلم بواطن هؤلاء الكفار وظواهرهم ، ويجازي كل أحد على فعله بحسب ما يليق به إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، فإن قيل قوله : ( ألا إنه بكل شيء محيط ) يقتضي أن تكون علومه متناهية ، قلنا قوله : ( بكل شيء محيط ) يقتضي أن يكون علمه محيطا بكل شيء من الأشياء ، فهذا يقتضي كون كل واحد منها متناهيا ، لا كون مجموعها متناهيا ، والله أعلم بالصواب .