[ ص: 160 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=51وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=52وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشـاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=53صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور )
قوله تعالى (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=51وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=52وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=53صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور )
اعلم أنه تعالى لما بين كمال قدرته وعلمه وحكمته أتبعه ببيان أنه كيف يخص أنبياءه بوحيه وكلامه ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=51وما كان لبشر ) وما صح لأحد من البشر (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=51أن يكلمه الله ) إلا على أحد ثلاثة أوجه : إما على الوحي وهو الإلهام والقذف في القلب ، أو المنام كما أوحى الله إلى أم
موسى وإبراهيم - عليه السلام - في ذبح ولده ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد : أوحى الله تعالى الزبور إلى
داود - عليه السلام - في صدره ، وإما على أن يسمعه كلامه من غير واسطة مبلغ ، وهذا أيضا وحي بدليل أنه تعالى أسمع
موسى كلامه من غير واسطة مع أنه سماه وحيا ، قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=13فاستمع لما يوحى ) وإما على أن يرسل إليه رسولا من الملائكة فيبلغ ذلك الملك ذلك الوحي إلى الرسول البشري . فطريق الحصر أن يقال :
nindex.php?page=treesubj&link=28857وصول الوحي من الله إلى البشر إما أن يكون من غير واسطة مبلغ أو يكون بواسطة مبلغ ، وإذا كان الأول وهو أن يصل إليه وحي الله لا بواسطة شخص آخر فههنا إما أن يقال إنه لم يسمع عين كلام الله ، أو يسمعه ، أما الأول وهو أنه وصل إليه الوحي لا بواسطة شخص آخر وما سمع عين كلام الله فهو المراد بقوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=51إلا وحيا ) .
وأما الثاني : وهو أنه وصل إليه الوحي لا بواسطة شخص آخر ولكنه سمع عين كلام الله فهو المراد من قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=51أو من وراء حجاب ) .
وأما الثالث : وهو أنه وصل إليه الوحي بواسطة شخص آخر ، فهو المراد بقوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=51أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء )
واعلم أن كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة وحي ، إلا أنه تعالى خصص القسم الأول باسم الوحي ، لأن ما يقع في القلب على سبيل الإلهام فهو يقع دفعة ، فكان تخصيص لفظ الوحي به أولى ، فهذا هو الكلام في تمييز هذه الأقسام بعضها عن بعض .
المسألة الثانية : القائلون بأن الله في مكان احتجوا بقوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=51أو من وراء حجاب ) وذلك لأن التقدير : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا على أحد ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون الله من وراء حجاب ، وإنما يصح ذلك لو كان مختصا بمكان معين وجهة معينة . والجواب : أن ظاهر اللفظ وإن أوهم ما ذكرتم إلا أنه دلت الدلائل العقلية والنقلية على
nindex.php?page=treesubj&link=28730أنه تعالى يمتنع حصوله في المكان والجهة ، فوجب حمل هذا اللفظ على التأويل ، والمعنى أن الرجل إذا سمع كلاما مع أنه لا يرى ذلك المتكلم كان ذلك شبيها بما إذا تكلم من وراء حجاب ، والمشابهة سبب لجواز المجاز .
[ ص: 161 ]
المسألة الثالثة : قالت
المعتزلة : هذه الآية تدل على أنه تعالى لا يرى ، وذلك لأنه تعالى حصر أقسام وحيه في هذه الثلاثة ، ولو صحت
nindex.php?page=treesubj&link=28725رؤية الله تعالى لصح من الله تعالى أنه يتكلم مع العبد حال ما يراه العبد ، فحينئذ يكون ذلك قسما رابعا زائدا على هذه الأقسام الثلاثة ، والله تعالى نفى القسم الرابع بقوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=51وما كان لبشر أن يكلمه الله ) إلا على هذه الأوجه الثلاثة . والجواب : نزيد في اللفظ قيدا ، فيكون التقدير : وما كان لبشر أن يكلمه الله في الدنيا إلا على أحد هذه الأقسام الثلاثة ، وحينئذ لا يلزم ما ذكرتموه ، وزيادة هذا القيد وإن كانت على خلاف الظاهر لكنه يجب المصير إليها للتوفيق بين هذه الآيات وبين الآيات الدالة على حصول الرؤية في يوم القيامة ، والله أعلم .
المسألة الرابعة : أجمعت الأمة على أن الله تعالى متكلم ، ومن سوى
الأشعري وأتباعه أطبقوا على أن كلام الله هو هذه الحروف المسموعة والأصوات المؤلفة ، وأما
الأشعري وأتباعه فإنهم زعموا أن كلام الله تعالى صفة قديمة يعبر عنها بهذه الحروف والأصوات .
أما الفريق الأول : وهم الذين قالوا : كلام الله تعالى هو هذه الحروف والكلمات ، فهم فريقان : أحدهما : الحنابلة الذين قالوا بقدم هذه الحروف ، وهؤلاء أخس من أن يذكروا في زمرة العقلاء ، واتفق أني قلت يوما لبعضهم : لو تكلم الله بهذه الحروف إما أن يتكلم بها دفعة واحدة أو على التعاقب والتوالي ، والأول باطل ؛ لأن التكلم بجملة هذه الحروف دفعة واحدة لا يفيد هذا النظم المركب على هذا التعاقب والتوالي ، فوجب أن لا يكون هذا النظم المركب من هذه الحروف المتوالية كلام الله تعالى ، والثاني باطل ، لأنه تعالى لو تكلم بها على التوالي والتعاقب كانت محدثة ، ولما سمع ذلك الرجل هذا الكلام قال : الواجب علينا أن نقر ونمر ، يعني نقر بأن القرآن قديم ، ونمر على هذا الكلام على وفق ما سمعناه ، فتعجبت من سلامة قلب ذلك القائل ، وأما العقلاء من الناس فقد أطبقوا على أن هذه الحروف والأصوات كائنة بعد أن لم تكن ، حاصلة بعد أن كانت معدومة ، ثم اختلفت عباراتهم في أنها هل هي مخلوقة ، أو لا يقال ذلك ، بل يقال إنها حادثة أو يعبر عنها بعبارة أخرى ؟ واختلفوا أيضا في أن هذه الحروف هل هي قائمة بذات الله تعالى أو يخلقها في جسم آخر ، فالأول : هو قول
الكرامية ، والثاني : قول
المعتزلة ، وأما
الأشعرية الذين زعموا أن كلام الله صفة قديمة تدل عليها هذه الألفاظ والعبارات فقد اتفقوا على أن قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=51أو من وراء حجاب ) هو أن الملك والرسول يسمع ذلك الكلام المنزه عن الحرف والصوت من وراء حجاب ، قالوا : وكما لا يبعد أن ترى ذات الله مع أنه ليس بجسم ولا في حيز ، فأي بعد في أن يسمع كلام الله مع أنه لا يكون حرفا ولا صوتا ؟ وزعم
أبو منصور الماتريدي السمرقندي أن تلك الصفة القائمة يمتنع كونها مسموعة ، وإنما المسموع حروف وأصوات يخلقها الله تعالى في الشجرة ، وهذا القول قريب من قول
المعتزلة ، والله أعلم .
المسألة الخامسة : قال القاضي : هذه الآية تدل على حدوث كلام الله تعالى من وجوه :
الأول : أن قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=51أن يكلمه الله ) يدل عليه ؛ لأن كلمة " أن " مع المضارع تفيد الاستقبال .
الثاني : أنه وصف الكلام بأنه وحي ؛ لأن لفظ الوحي يفيد أنه وقع على أسرع الوجوه .
الثالث : أن قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=51أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء ) يقتضي أن يكون الكلام الذي يبلغه الملك إلى الرسول البشر مثل الكلام الذي سمعه من الله ، والذي يبلغه إلى الرسول البشري حادث ، فلما كان الكلام الذي سمعه من الله مماثلا لهذا الذي بلغه إلى الرسول
[ ص: 162 ] البشري ، وهذا الذي بلغه إلى الرسول البشري حادث ، ومثل الحادث حادث - وجب أن يقال : إن الكلام الذي سمعه من الله حادث .
الرابع : أن قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=51أو يرسل رسولا فيوحي ) يقتضي كون الوحي حاصلا بعد الإرسال ، وما كان حصوله متأخرا عن حصول غيره كان حادثا .
والجواب : أنا نصرف جملة هذه الوجوه التي ذكرتموها إلى الحروف والأصوات ونعترف بأنها حادثة كائنة بعد أن لم تكن ، وبديهة العقل شاهدة بأن الأمر كذلك ، فأي حاجة إلى إثبات هذا المطلوب الذي علمت صحته ببديهة العقل وبظواهر القرآن ؟ والله أعلم .
[ ص: 160 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=51وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=52وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشـاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=53صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ )
قَوْلُهُ تَعَالَى (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=51وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=52وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=53صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ )
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ كَمَالَ قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ أَتْبَعَهُ بِبَيَانِ أَنَّهُ كَيْفَ يَخُصُّ أَنْبِيَاءَهُ بِوَحْيِهِ وَكَلَامِهِ ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=51وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ ) وَمَا صَحَّ لِأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=51أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ ) إِلَّا عَلَى أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : إِمَّا عَلَى الْوَحْيِ وَهُوَ الْإِلْهَامُ وَالْقَذْفُ فِي الْقَلْبِ ، أَوِ الْمَنَامُ كَمَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَى أُمِّ
مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي ذَبْحِ وَلَدِهِ ، وَعَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=16879مُجَاهِدٍ : أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى الزَّبُورَ إِلَى
دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي صَدْرِهِ ، وَإِمَّا عَلَى أَنْ يُسْمِعَهُ كَلَامَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ مُبَلِّغٍ ، وَهَذَا أَيْضًا وَحْيٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى أَسْمَعَ
مُوسَى كَلَامَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ مَعَ أَنَّهُ سَمَّاهُ وَحْيًا ، قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=13فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ) وَإِمَّا عَلَى أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ رَسُولًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَيُبَلِّغَ ذَلِكَ الْمَلَكُ ذَلِكَ الْوَحْيَ إِلَى الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ . فَطَرِيقُ الْحَصْرِ أَنْ يُقَالَ :
nindex.php?page=treesubj&link=28857وُصُولُ الْوَحْيِ مِنَ اللَّهِ إِلَى الْبَشَرِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ مُبَلِّغٍ أَوْ يَكُونَ بِوَاسِطَةِ مُبَلِّغٍ ، وَإِذَا كَانَ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ وَحْيُ اللَّهِ لَا بِوَاسِطَةِ شَخْصٍ آخَرَ فَهَهُنَا إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ عَيْنَ كَلَامِ اللَّهِ ، أَوْ يَسْمَعُهُ ، أَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنَّهُ وَصَلَ إِلَيْهِ الْوَحْيُ لَا بِوَاسِطَةِ شَخْصٍ آخَرَ وَمَا سَمِعَ عَيْنَ كَلَامِ اللَّهِ فَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=51إِلَّا وَحْيًا ) .
وَأَمَّا الثَّانِي : وَهُوَ أَنَّهُ وَصَلَ إِلَيْهِ الْوَحْيُ لَا بِوَاسِطَةِ شَخْصٍ آخَرَ وَلَكِنَّهُ سَمِعَ عَيْنَ كَلَامِ اللَّهِ فَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=51أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ) .
وَأَمَّا الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنَّهُ وَصَلَ إِلَيْهِ الْوَحْيُ بِوَاسِطَةِ شَخْصٍ آخَرَ ، فَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=51أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ )
وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ وَحْيٌ ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّصَ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ بِاسْمِ الْوَحْيِ ، لِأَنَّ مَا يَقَعُ فِي الْقَلْبِ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْهَامِ فَهُوَ يَقَعُ دُفْعَةً ، فَكَانَ تَخْصِيصُ لَفْظِ الْوَحْيِ بِهِ أَوْلَى ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي تَمْيِيزِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْقَائِلُونَ بِأَنَّ اللَّهَ فِي مَكَانٍ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=51أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ) وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ : وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا عَلَى أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :
أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مُخْتَصًّا بِمَكَانٍ مُعَيَّنٍ وَجِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ . وَالْجَوَابُ : أَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ وَإِنْ أَوْهَمَ مَا ذَكَرْتُمْ إِلَّا أَنَّهُ دَلَّتِ الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ وَالنَّقْلِيَّةُ عَلَى
nindex.php?page=treesubj&link=28730أَنَّهُ تَعَالَى يَمْتَنِعُ حُصُولُهُ فِي الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ ، فَوَجَبَ حَمْلُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى التَّأْوِيلِ ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا سَمِعَ كَلَامًا مَعَ أَنَّهُ لَا يَرَى ذَلِكَ الْمُتَكَلِّمَ كَانَ ذَلِكَ شَبِيهًا بِمَا إِذَا تَكَلَّمَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ، وَالْمُشَابَهَةُ سَبَبٌ لِجَوَازِ الْمَجَازِ .
[ ص: 161 ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَتِ
الْمُعْتَزِلَةُ : هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرَى ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَصَرَ أَقْسَامَ وَحْيِهِ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ ، وَلَوْ صَحَّتْ
nindex.php?page=treesubj&link=28725رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى لَصَحَّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ مَعَ الْعَبْدِ حَالَ مَا يَرَاهُ الْعَبْدُ ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ ذَلِكَ قِسْمًا رَابِعًا زَائِدًا عَلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى نَفَى الْقِسْمَ الرَّابِعَ بِقَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=51وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ ) إِلَّا عَلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ . وَالْجَوَابُ : نَزِيدُ فِي اللَّفْظِ قَيْدًا ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ : وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا إِلَّا عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ ، وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرْتُمُوهُ ، وَزِيَادَةُ هَذَا الْقَيْدِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ لَكِنَّهُ يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهَا لِلتَّوْفِيقِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَبَيْنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى حُصُولِ الرُّؤْيَةِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُتَكَلِّمٌ ، وَمَنْ سِوَى
الْأَشْعَرِيِّ وَأَتْبَاعِهِ أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ هُوَ هَذِهِ الْحُرُوفُ الْمَسْمُوعَةُ وَالْأَصْوَاتُ الْمُؤَلَّفَةُ ، وَأَمَّا
الْأَشْعَرِيُّ وَأَتْبَاعُهُ فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى صِفَةٌ قَدِيمَةٌ يُعَبَّرُ عَنْهَا بِهَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ .
أَمَّا الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ : وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا : كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ هَذِهِ الْحُرُوفُ وَالْكَلِمَاتُ ، فَهُمْ فَرِيقَانِ : أَحَدُهُمَا : الْحَنَابِلَةُ الَّذِينَ قَالُوا بِقِدَمِ هَذِهِ الْحُرُوفِ ، وَهَؤُلَاءِ أَخَسُّ مِنْ أَنْ يُذْكَرُوا فِي زُمْرَةِ الْعُقَلَاءِ ، وَاتَّفَقَ أَنِّي قُلْتُ يَوْمًا لِبَعْضِهِمْ : لَوْ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ إِمَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ وَالتَّوَالِي ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ التَّكَلُّمَ بِجُمْلَةِ هَذِهِ الْحُرُوفِ دُفْعَةً وَاحِدَةً لَا يُفِيدُ هَذَا النَّظْمَ الْمُرَكَّبَ عَلَى هَذَا التَّعَاقُبِ وَالتَّوَالِي ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ هَذَا النَّظْمُ الْمُرَكَّبُ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ الْمُتَوَالِيَةِ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ تَكَلَّمَ بِهَا عَلَى التَّوَالِي وَالتَّعَاقُبِ كَانَتْ مُحْدَثَةً ، وَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ هَذَا الْكَلَامَ قَالَ : الْوَاجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُقِرَّ وَنَمُرَّ ، يَعْنِي نُقِرُّ بِأَنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ ، وَنَمُرُّ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ عَلَى وَفْقِ مَا سَمِعْنَاهُ ، فَتَعَجَّبْتُ مِنْ سَلَامَةِ قَلْبِ ذَلِكَ الْقَائِلِ ، وَأَمَّا الْعُقَلَاءُ مِنَ النَّاسِ فَقَدْ أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ كَائِنَةٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ ، حَاصِلَةٌ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً ، ثُمَّ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فِي أَنَّهَا هَلْ هِيَ مَخْلُوقَةٌ ، أَوْ لَا يُقَالُ ذَلِكَ ، بَلْ يُقَالُ إِنَّهَا حَادِثَةٌ أَوْ يُعَبَّرُ عَنْهَا بِعِبَارَةٍ أُخْرَى ؟ وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ هَلْ هِيَ قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ يَخْلُقُهَا فِي جِسْمٍ آخَرَ ، فَالْأَوَّلُ : هُوَ قَوْلُ
الْكَرَّامِيَّةِ ، وَالثَّانِي : قَوْلُ
الْمُعْتَزِلَةِ ، وَأَمَّا
الْأَشْعَرِيَّةُ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ تَدُلُّ عَلَيْهَا هَذِهِ الْأَلْفَاظُ وَالْعِبَارَاتُ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=51أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ) هُوَ أَنَّ الْمَلَكَ وَالرَّسُولَ يَسْمَعُ ذَلِكَ الْكَلَامَ الْمُنَزَّهَ عَنِ الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ، قَالُوا : وَكَمَا لَا يَبْعُدُ أَنْ تَرَى ذَاتَ اللَّهِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا فِي حَيِّزٍ ، فَأَيُّ بُعْدٍ فِي أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حَرْفًا وَلَا صَوْتًا ؟ وَزَعَمَ
أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ أَنَّ تِلْكَ الصِّفَةَ الْقَائِمَةَ يَمْتَنِعُ كَوْنُهَا مَسْمُوعَةً ، وَإِنَّمَا الْمَسْمُوعُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ يَخْلُقُهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الشَّجَرَةِ ، وَهَذَا الْقَوْلُ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ
الْمُعْتَزِلَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ الْقَاضِي : هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ وُجُوهٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=51أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ ) يَدُلُّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ " أَنْ " مَعَ الْمُضَارِعِ تُفِيدُ الِاسْتِقْبَالَ .
الثَّانِي : أَنَّهُ وَصَفَ الْكَلَامَ بِأَنَّهُ وَحْيٌ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْوَحْيِ يُفِيدُ أَنَّهُ وَقَعَ عَلَى أَسْرَعِ الْوُجُوهِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ قَوْلَهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=51أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ) يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الَّذِي يُبَلِّغُهُ الْمَلَكُ إِلَى الرَّسُولِ الْبَشَرِ مِثْلَ الْكَلَامِ الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ ، وَالَّذِي يُبَلِّغُهُ إِلَى الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ حَادِثٌ ، فَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ مُمَاثِلًا لِهَذَا الَّذِي بَلَّغَهُ إِلَى الرَّسُولِ
[ ص: 162 ] الْبَشَرِيِّ ، وَهَذَا الَّذِي بَلَّغَهُ إِلَى الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ حَادِثٌ ، وَمِثْلُ الْحَادِثِ حَادِثٌ - وَجَبَ أَنْ يُقَالَ : إِنَّ الْكَلَامَ الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ حَادِثٌ .
الرَّابِعُ : أَنَّ قَوْلَهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=51أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ ) يَقْتَضِي كَوْنَ الْوَحْيِ حَاصِلًا بَعْدَ الْإِرْسَالِ ، وَمَا كَانَ حُصُولُهُ مُتَأَخِّرًا عَنْ حُصُولِ غَيْرِهِ كَانَ حَادِثًا .
وَالْجَوَابُ : أَنَّا نَصْرِفُ جُمْلَةَ هَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا إِلَى الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَنَعْتَرِفُ بِأَنَّهَا حَادِثَةٌ كَائِنَةٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ ، وَبَدِيهَةُ الْعَقْلِ شَاهِدَةٌ بِأَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ ، فَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى إِثْبَاتِ هَذَا الْمَطْلُوبِ الَّذِي عَلِمْتَ صِحَّتَهُ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ وَبِظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ ؟ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .