ثم قال تعالى : ( ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ) واختلف العلماء في هذه الآية مع الإجماع على أنه لا يجوز أن يقال : الرسل كانوا قبل الوحي على الكفر ، وذكروا في الجواب وجوها :
الأول : ( ما كنت تدري ما الكتاب ) أي القرآن ( ولا الإيمان ) أي الصلاة ، لقوله تعالى : ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) [البقرة : [ ص: 164 ] 143 ] أي صلاتكم .
الثاني : أن يحمل هذا على حذف المضاف ، أي ( ما كنت تدري ما الكتاب ) ومن أهل الإيمان ، يعني من الذي يؤمن ، ومن الذي لا يؤمن .
الثالث : ( ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ) حين كنت طفلا في المهد .
الرابع : ( الإيمان ) عبارة عن الإقرار بجميع ما كلف الله تعالى به ، وإنه [صلى الله عليه وسلم] قبل النبوة ما كان عارفا بجميع تكاليف الله تعالى ، بل إنه كان عارفا بالله تعالى ، وذلك لا ينافي ما ذكرناه .
الخامس : صفات الله تعالى على قسمين :
منها ما يمكن معرفته بمحض دلائل العقل ، ومنها ما لا يمكن معرفته إلا بالدلائل السمعية . فهذا القسم الثاني لم تكن معرفته حاصلة قبل النبوة .
ثم قال تعالى : ( ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا ) واختلفوا في الضمير في قوله ( ولكن جعلناه ) منهم من قال إنه راجع إلى القرآن دون الإيمان ؛ لأنه هو الذي يعرف به الأحكام ، فلا جرم شبه بالنور الذي يهتدى به ، ومنهم من قال إنه راجع إليهما معا ، وحسن ذلك لأن معناهما واحد كقوله تعالى : ( وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها ) [الجمعة : 11] .
ثم قال : ( نهدي به من نشاء من عبادنا ) وهذا يدل على أنه تعالى بعد أن جعل القرآن نفسه في نفسه هدى كما قال : ( هدى للمتقين ) فإنه قد يهدي به البعض دون البعض ، وهذه الهداية ليست إلا عبارة عن الدعوة وإيضاح الأدلة ؛ لأنه تعالى قال في صفة محمد صلى الله عليه وسلم ( وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ) وهو يفيد العموم بالنسبة إلى الكل ، وقوله ( نهدي به من نشاء من عبادنا ) يفيد الخصوص ، فثبت أن الهداية بمعنى الدعوة عامة ، والهداية في قوله ( نهدي به من نشاء من عبادنا ) خاصة ، والهداية الخاصة غير الهداية العامة ، فوجب أن يكون المراد من قوله ( نهدي به من نشاء من عبادنا ) أمرا مغايرا لإظهار الدلائل ولإزالة الأعذار ، ولا يجوز أيضا أن يكون عبارة عن الهداية إلى طريق الجنة ؛ لأنه تعالى قال : ( ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا ) أي : ، وهذا لا يليق إلا بالهداية التي تحصل في الدنيا ، وأيضا فالهداية إلى الجنة عندكم في حق البعض واجب ، وفي حق الآخرين محظور ، وعلى التقديرين فلا يبقى لقوله ( جعلنا القرآن نورا نهدي به من نشاء من نشاء من عبادنا ) فائدة ، فثبت أن المراد أنه تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، ولا اعتراض عليه فيه .
ثم قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : ( وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ) فبين تعالى أنه كما أن القرآن يهدي فكذلك الرسول يهدي ، وبين أنه " يهدي إلى صراط مستقيم " وبين أن ذلك الصراط هو ( صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ) نبه بذلك على أن الذي تجوز عبادته هو الذي يملك السماوات والأرض ، والغرض منه إبطال قول من يعبد غير الله .
ثم قال : ( ألا إلى الله تصير الأمور ) وذلك كالوعيد والزجر ، فبين أن أمر من لا يقبل هذه التكاليف يرجع إلى الله تعالى ، أي إلى حيث لا حاكم سواه ، فيجازي كلا منهم بما يستحقه من ثواب أو عقاب .
قال رضي الله عنه : تم تفسير هذه السورة آخر يوم الجمعة الثامن من شهر ذي الحجة سنة ثلاث وستمائة ، يا مدبر الأمور ، ويا مدهر الدهور ، ويا معطي كل خير وسرور ، ويا دافع البلايا والشرور ، أوصلنا إلى منازل النور ، في ظلمات القبور بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين .