أما قوله تعالى : ( لا تسفكون دماءكم ) ففيه إشكال ، وهو الإنسان ملجأ إلى أن لا يقتل نفسه ، وإذا كان كذلك فلا فائدة في النهي عنه .
والجواب عنه من أوجه :
أحدها : أن هذا الإلجاء قد يتغير كما ثبت في أهل الهند أنهم يقدرون في التخلص من عالم الفساد واللحوق بعالم النور والصلاح ، أو كثير ممن صعب عليه الزمان ، وثقل عليه أمر من الأمور ، فيقتل نفسه ، فإذا انتفى كون الإنسان ملجأ إلى ترك قتله نفسه صح كونه مكلفا به . قتل النفس
وثانيها : المراد لا يقتل بعضكم بعضا ، وجعل غير الرجل نفسه إذا اتصل به نسبا ودينا وهو كقوله تعالى : ( فاقتلوا أنفسكم ) [ البقرة : 54 ] .
وثالثها : أنه إذا قتل غيره فكأنما قتل نفسه لأنه يقتص منه .
[ ص: 156 ]
ورابعها : لا تتعرضوا لمقاتلة من يقتلكم فتكونوا قد قتلتم أنفسكم .
وخامسها : لا تسفكون دماء من قوامكم في مصالح الدنيا بهم فتكونون مهلكين لأنفسكم .
أما قوله تعالى : ( ولا تخرجون أنفسكم ) ففيه وجهان :
الأول : لا تفعلوا ما تستحقون بسببه أن تخرجوا من دياركم .
الثاني : المراد النهي عن إخراج بعضهم بعضا من ديارهم لأن ذلك مما يعظم فيه المحنة والشدة حتى يقرب من الهلاك .
أما قوله تعالى : ( ثم أقررتم وأنتم تشهدون ) ففيه وجوه :
أحدها : وهو الأقوى ، أي : ثم أقررتم بالميثاق واعترفتم على أنفسكم بلزومه وأنتم تشهدون عليها كقولك فلان مقر على نفسه بكذا أي شاهد عليها .
وثانيها : اعترفتم بقبوله وشهد بعضكم على بعض بذلك لأنه كان شائعا فيما بينهم مشهورا .
وثالثها : وأنتم تشهدون اليوم يا معشر اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق .
ورابعها : الإقرار الذي هو الرضاء بالأمر والصبر عليه كأن يقال : فلان لا يقر على الضيم فيكون المعنى أنه تعالى يأمركم بذلك ورضيتم به فأقمتم عليه وشهدتم بوجوبه وصحته ، فإن قيل : لم قال : ( أقررتم وأنتم تشهدون ) والمعنى واحد ، قلنا فيه ثلاثة أقوال :
الأول : أقررتم يعني أسلافكم وأنتم تشهدون الآن يعني على إقرارهم .
الثاني : أقررتم في وقت الميثاق الذي مضى وأنتم بعد ذلك تشهدون .
الثالث : أنه للتأكيد .