( ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين ) .
وقوله تعالى : ( ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم ) وفيه مباحث :
الأول : في إعرابه وفيه وجهان :
أحدهما : نصب على أنه صفة الريح بعد صفة العقيم ذكر الواحدي أنه وصف فإن قيل كيف يكون وصفا والمعرفة لا توصف بالجمل وما تذر جملة ولا يوصف بها إلا النكرات ؟ نقول الجواب فيه من وجهين .
أحدهما : أنه يكون بإعادة الريح تقديرا كأنه يقول : وأرسلنا عليهم الريح العقيم ريحا ما تذر .
ثانيهما : هو أن المعرف نكرة لأن تلك الريح منكرة كأنه يقول : وأرسلنا الريح التي لم تكن من الرياح التي تقع ولا وقع مثلها فهي لشدتها منكرة ، ولهذا أكثر ما ذكرها في القرآن ذكرها منكرة ووصفها بالجملة من جملتها قوله تعالى : ( بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم ) [ الأحقاف : 24 ] إلى غير ذلك .
الوجه الثاني : وهو الأصح أنه نصب على الحال تقول جاءني ما يفهم شيئا فعلمته وفهمته أي حاله كذا ، فإن قيل لم تكن حال الإرسال ما تذر والحال ينبغي أن يكون موجودا مع ذي الحال وقت الفعل فلا يجوز أن يقال جاءني زيد أمس راكبا غدا ، والريح بعدما أرسلت بزمان صارت ما تذر شيئا . نقول المراد به البيان بالصلاحية أي أرسلناها وهي على قوة وصلاحية أن لا تذر ، نقول لمن جاء وأقام عندك أياما ثم سألك شيئا ، جئتني سائلا أي قبل السؤال بالصلاحية والإمكان ، هذا إن قلنا إنه نصب وهو المشهور ، ويحتمل أنه رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هي ما تذر .
البحث الثاني : ( ما تذر ) للنفي حال التكلم يقال ما يخرج زيد أي الآن ، وإذا أردت المستقبل تقول لا يخرج أو لن يخرج ، وأما الماضي تقول ما خرج ولم يخرج ، والريح حالة الكلام مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت ما تركت شيئا إلا جعلته كالرميم فكيف قال بلفظ الحالة: ( ما تذر ) ؟ نقول الحكاية مقدرة على أنها محكية حال الوقوع ، ولهذا قال تعالى : ( وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد ) [ الكهف : 18 ] مع أن اسم الفاعل الماضي لا يعمل وإنما يعمل ما كان منه بمعنى الحال والاستقبال .
البحث الثالث : هل في قوله تعالى : ( ما تذر من شيء أتت عليه ) مبالغة ودخول تخصيص كما في قوله تعالى : ( تدمر كل شيء بأمر ربها ) [ الأحقاف : 25 ] ؟ نقول هو كما وقع لأن قوله : ( أتت عليه ) وصف لقوله : ( شيء ) كأنه قال كل شيء أتت عليه أو كل شيء تأتي عليه جعلته كالرميم ولا يدخل فيه السماوات لأنها ما أتت عليها وإنما يدخل فيه الأجسام التي تهب عليها الرياح ، فإن قيل فالجبال والصخور أتت عليها وما جعلتها كالرميم ؟ نقول المراد أتت عليه قصدا وهو عاد وأبنيتهم وعروشهم وذلك لأنها كانت مأمورة بأمر من عند الله فكأنها كانت قاصدة إياهم فما تركت شيئا من تلك الأشياء إلا جعلته كالرميم مع أن الصر الريح الباردة والمكرر لا ينفك عن المعنى الذي في اللفظ من غير تكرير ، تقول حث وحثحث وفيه ما في حث نقول [ ص: 192 ] فيه قولان :
أحدهما : أنها كانت باردة فكانت في أيام العجوز وهي ثمانية أيام من آخر شباط وأول أذار ، والريح الباردة من شدة بردها تحرق الأشجار والثمار وغيرهما وتسودهما .
والثاني : أنها كانت حارة والصر هو الشديد لا البارد وبالشدة فسر قوله تعالى : ( في صرة ) أي في شدة من الحر .
البحث الرابع : في قوله تعالى : ( ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم ) لأن في قوله تعالى : ( ما تذر ) نفي الترك مع إثبات الإتيان فكأنه تعالى قال تأتي على أشياء وما تتركها غير محرقة وقول القائل : ما أتى على شيء إلا جعله كذا يكون نفي الإتيان عما لم يجعله كذلك .
قوله تعالى : ( وفي ثمود ) والبحث فيه وفي عاد هو ما تقدم في قوله تعالى : ( وفي موسى ) .
وقوله تعالى : ( إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين ) قال بعض المفسرين : المراد منه هو ما أمهلهم الله ثلاثة أيام بعد قتلهم الناقة وكانت في تلك الأيام تتغير ألوانهم فتصفر وجوههم وتسود ، وهو ضعيف لأن قوله تعالى : ( فعتوا عن أمر ربهم ) [ الذاريات : 44 ] بحرف الفاء دليل على أن العتو كان بعد قوله : ( تمتعوا ) فإذن الظاهر أن المراد هو ما قدر الله للناس من الآجال ، يقول له تمتع إلى آخر أجلك فإن أحسنت فقد حصل لك التمتع في الدارين وإلا فما لك في الآخرة من نصيب . فما من أحد إلا وهو ممهل مدة الأجل