( وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون )
ثم قال تعالى : ( وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون ) في اتصال الكلام وجهان :
أحدهما : متصل بقوله تعالى : ( فذرهم ) [ الطور : 45] وذلك لأنه يدل على عدم جواز القتال ، وقد قيل إنه نازل قبل شرع القتال ، وحينئذ كأنه قال فذرهم ولا تذرهم مطلقا من غير قتال ، بل يوم لهم قبل يوم القيامة عذاب بدر حيث تؤمر بقتالهم ، فيكون بيانا وعدا ينسخ فذرهم بالعذاب يوم بدر .
ثانيهما : هو متصل بقوله تعالى : ( لا يغني ) وذلك لأنه لما بين أن كيدهم لا يغني عنهم قال ولا يقتصر على عدم الإغناء بل لهم مع أن كيدهم لا يغني ويل آخر وهو العذاب المعد لهم ، ولو قال لا يغني عنهم كيدهم كان يوهم أنه لا ينفع ، ولكن لا يضر ، ولما قال مع ذلك ( وإن للذين ظلموا عذابا ) زال ذلك ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : هم الذين ظلموا أهل مكة إن قلنا العذاب هو عذاب يوم بدر ، وإن قلنا العذاب هو عذاب القبر فالذين ظلموا عام في كل ظالم .
المسألة الثانية : ما المراد من الظلم هاهنا ؟ نقول فيه وجوه:
الأول : هو كيدهم نبيهم .
والثاني : عبادتهم الأوثان .
والثالث : كفرهم وهذا مناسب للوجه الثاني .
المسألة الثالثة : " دون ذلك " ، على قول أكثر المفسرين معناه ( قبل ) ويؤيده قوله تعالى : ( ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر ) [ السجدة : 21] ويحتمل وجهين آخرين :
أحدهما : دون ذلك ، أي أقل من ذلك في الدوام والشدة ، يقال الضرب دون القتل في الإيلام ، ولا شك أن عذاب الدنيا دون عذاب الآخرة [ ص: 236 ] على هذا المعنى ، وعلى هذا ففيه فائدة التنبيه على عذاب الآخرة العظيم ، وذلك لأنه إذا قال عذابا دون ذلك أي قتلا وعذابا في القبر فيتفكر المتفكر ويقول ما يكون القتل دونه لا يكون إلا عظيما ، فإن قيل فهذا المعنى لا يمكن أن يقال في قوله تعالى : ( ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر ) قلنا نسلم ذلك ولكن لا مانع من أن يكون المراد هاهنا هذا الثاني على طريقة قول القائل : تحت لجاجك مفاسد ودون غرضك متاعب ، وبيانه هو أنهم لما عبدوا غير الله ظلموا أنفسهم حيث وضعوها في غير موضعها الذي خلقت له ، فقيل لهم إن لكم دون ذلك الظلم عذابا .
المسألة الرابعة : ذلك إشارة إلى ماذا ؟ نقول الظاهر أنه إشارة إلى اليوم ، وفيه وجهان آخران :
أحدهما : في قوله يصعقون ، وقوله ( يغني عنهم ) إشارة إلى عذاب واقع ، فقوله ( ذلك ) إشارة إليه ، ويمكن أن يقال قد تقدم قوله ( إن عذاب ربك لواقع ) [ الطور : 7] وقوله دون ذلك ، أي دون ذلك العذاب .
ثانيهما : دون ذلك ، أي كيدهم فذلك إشارة إلى الكيد ، وقد بينا وجهه في المثال الذي مثلنا وهو قول القائل : تحت لجاجك حرمانك ، والله أعلم .
المسألة الخامسة : ( ولكن أكثرهم لا يعلمون ) ذكرنا فيه وجوها :
أحدها : أنه جرى على عادة العرب حيث تعبر عن الكل بالأكثر كما قال تعالى : ( أكثرهم بهم مؤمنون ) [ سبأ : 41] ثم إن الله تعالى تكلم على تلك العادة ليعلم أن الله استحسنها من المتكلم حيث يكون ذلك بعيدا عن الخلف .
ثانيها : منهم من آمن فلم يكن ممن لا يعلم .
ثالثها : هم في أكثر الأحوال لم يعلموا وفي بعض الأحوال علموا وأقله أنهم علموا حال الكشف وإن لم ينفعهم .
المسألة السادسة : مفعول "لا يعلمون" جاز أن يكون هو ما تقدم من الأمر : وهو أن لهم عذابا دون ذلك ، وجاز أن لا يكون له مفعول أصلا ، فيكون المراد أكثرهم غافلون جاهلون .