( فذوقوا عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ولقد جاء آل فرعون النذر كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر )
ثم قال تعالى : ( فذوقوا عذابي ونذر ) مرة أخرى ؛ لأن العذاب كان مرتين ؛ أحدهما خاص بالمراودين ، والآخر عام .
( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) قد فسرناه مرارا وبينا ما لأجله تكرارا .
ثم قال تعالى : ( ولقد جاء آل فرعون النذر كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ما الفائدة في لفظ : " آل فرعون " بدل قوم فرعون ؟ نقول : القوم أعم من الآل ، فالقوم كل من يقوم الرئيس بأمرهم أو يقومون بأمره ، والآل كل من يؤول إلى الرئيس خيرهم وشرهم ، أو يؤول إليهم خيره وشره ، فالبعيد الذي لا يعرفه الرئيس ولا يعرف هو عين الرئيس وإنما يسمع اسمه ، فليس هو بآله ، إذا عرفت الفرق ، نقول : قوم الأنبياء الذين هم غير موسى عليهم السلام ، لم يكن فيهم قاهر يقهر الكل ويجمعهم على كلمة واحدة ، وإنما كانوا هم رؤساء وأتباعا ، والرؤساء إذا كثروا لا يبقى لأحد منهم حكم نافذ على أحد ، أما على من هو مثله فظاهر ، وأما على الأراذل فلأنهم يلجئون إلى واحد منهم ويدفعون به الآخر ، فيصير كل واحد برأسه ، فكأن الإرسال إليهم جميعا ، وأما فرعون فكان قاهرا يقهر الكل ، وجعلهم بحيث لا يخالفونه في قليل ولا كثير ، فأرسل الله إليه الرسول وحده ، غير أنه كان عنده جماعة من التابعين المقربين مثل قارون تقدم عنده لماله العظيم ، وهامان لدهائه ، فاعتبرهم الله في الإرسال ، حيث قال في مواضع : ( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه ) [ الزخرف : 46 ] وقال تعالى : ( بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون ) [ غافر : 24 ] وقال في العنكبوت : ( وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى ) [ العنكبوت : 39 ] لأنهم إن آمنوا آمن الكل بخلاف الأقوام الذين كانوا قبلهم وبعدهم ، فقال : ( ولقد جاء آل فرعون النذر ) وقال كثيرا مثل هذا كما في قوله : ( أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ) [ غافر : 46 ] ، ( وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه ) [ غافر : 28 ] وقال : بلفظ الملأ أيضا كثيرا .
المسألة الثانية : قال : ( ولقد جاء ) ولم يقل في غيرهم جاء ؛ لأن موسى عليه السلام ما جاءهم ، كما جاء المرسلون أقوامهم ، بل جاءهم حقيقة حيث كان غائبا عن القوم فقدم عليهم ، ولهذا قال تعالى : ( فلما جاء آل لوط المرسلون ) [ الحجر : 61 ] وقوله تعالى : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) [ التوبة : 128 ] حقيقة أيضا ؛ لأنه جاءهم من الله من السماوات بعد المعراج ، كما جاء موسى قومه من الطور حقيقة .
المسألة الثالثة : النذر إن كان المراد منها الإنذارات وهو الظاهر ، فالكلام الذي جاءهم على لسان موسى ويده تلك ، وإن كان المراد الرسل فهو لأن موسى وهارون عليهما السلام جاءه وكل مرسل تقدمهما جاء لأنهم كلهم قالوا ما قالا من التوحيد وعبادة الله ، وقوله بعد ذلك : ( كذبوا بآياتنا ) من غير فاء تقتضي ترتب التكذيب على المجيء ، فيه وجهان :
أحدهما : أن الكلام تم عند قوله : ( ولقد جاء آل فرعون النذر ) وقوله : ( كذبوا ) كلام مستأنف والضمير عائد إلى كل من تقدم ذكرهم من قوم نوح إلى آل فرعون .
ثانيهما : أن الحكاية مسوقة [ ص: 58 ] على سياق ما تقدم ، فكأنه قال : ( فكيف كان عذابي ونذر ) [ القمر : 16 ] وقد كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم ، وعلى الوجه الأول آياتنا كلها ظاهرة .
وعلى الوجه الثاني المراد آياته التي كانت مع موسى عليه السلام ، وهي التسع في قول أكثر المفسرين ، ويحتمل أن يقال : المراد أنهم فإن في كل شيء له آية تدل على أنه واحد . وقوله تعالى : ( فأخذناهم ) إشارة إلى أنهم كانوا كالآبقين أو إلى أنهم عاصون ، يقال : أخذ الأمير فلانا إذا حبسه ، وفي قوله : ( كذبوا بآيات الله كلها السمعية والعقلية عزيز مقتدر ) لطيفة وهي أن لكن العزيز قد يكون الذي يغلب على العدو ويظفر به ، وفي الأول يكون غير متمكن من أخذه لبعده إن كان هاربا ولمنعته إن كان محاربا ، فقال : أخذ غالب لم يكن عاجزا وإنما كان ممهلا . العزيز المراد منه الغالب