أما
nindex.php?page=treesubj&link=28973_29752_29755قوله تعالى : ( nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=97فإنه نزله على قلبك ) ففيه سؤالات :
السؤال الأول : الهاء في قوله تعالى : " فإنه " وفي قوله : " نزله " إلى ماذا يعود ؟ الجواب فيه قولان :
أحدهما : أن الهاء الأولى تعود على
جبريل ، والثانية على القرآن وإن لم يجر له ذكر لأنه كالمعلوم كقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=45ما ترك على ظهرها من دابة ) [ فاطر : 45 ] يعني على الأرض وهذا قول
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس وأكثر أهل العلم . أي إن كانت عداوتهم لأن
جبريل ينزل القرآن فإنما ينزله بإذن الله . قال صاحب " الكشاف " : إضمار ما لم يسبق ذكره فيه فخامة لشأن صاحبه حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه ويكتفي عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته .
وثانيهما : المعنى فإن الله نزل
جبريل عليه السلام لا أنه نزل نفسه .
السؤال الثاني :
nindex.php?page=treesubj&link=20754_31011القرآن إنما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم فما السبب في قوله نزله على قلبك ؟ الجواب : هذه المسألة ذكرناها في سورة الشعراء في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=193نزل به الروح الأمين nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=194على قلبك ) [ الشعراء : 193 ] وأكثر الأمة على أنه أنزل القرآن عليه لا على قلبه إلا أنه خص القلب بالذكر لأجل أن الذي نزل به ثبت في قلبه حفظا حتى أداه إلى أمته ، فلما كان سبب تمكنه من الأداء ثباته في قلبه حفظا جاز أن يقال : نزله على قلبك وإن كان في الحقيقة نزله عليه لا على قلبه .
السؤال الثالث : كان حق الكلام أن يقال على قلبي ، والجواب : جاءت على حكاية كلام الله كما تكلم به كأنه قيل : قل ما تكلمت به من قولي ، من كان عدوا
لجبريل فإنه نزله على قلبك .
السؤال الرابع : كيف استقام قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=97فإنه نزله ) جزاء للشرط ؟ والجواب فيه وجهان :
الأول : أنه سبحانه وتعالى بين أن هذه العداوة فاسدة لأنه ما أتى إلا أنه أمر بإنزال كتاب فيه الهداية والبشارة فأنزله ، فهو من حيث إنه مأمور وجب أن يكون معذورا ، ومن حيث إنه أتى بالهداية والبشارة يجب أن يكون مشكورا فكيف تليق به العداوة .
والثاني : أنه تعالى بين أن
اليهود إن كانوا يعادونه فيحق لهم ذاك ، لأنه نزل عليك الكتاب برهانا على نبوتك ، ومصداقا لصدقك وهم يكرهون ذلك فكيف لا يبغضون من أكد عليهم الأمر الذي يكرهونه .
أما قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=97بإذن الله ) فالأظهر بأمر الله وهو أولى من تفسيره بالعلم لوجوه :
أولها : أن الإذن حقيقة في الأمر مجاز في العلم ، واللفظ واجب الحمل على حقيقته ما أمكن .
وثانيها : أن إنزاله كان من الواجبات ، والوجوب مستفاد من الأمر لا من العلم .
وثالثها : أن ذلك الإنزال إذا كان عن أمر لازم كان أوكد في الحجة .
أما قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=97مصدقا لما بين يديه ) فمحمول على ما أجمع عليه أكثر المفسرين من أن المراد ما قبله من كتب الأنبياء ولا معنى لتخصيص كتاب ، ومنهم من خصه بالتوراة وزعم أنه أشار إلى أن
[ ص: 180 ] nindex.php?page=treesubj&link=29778_30588_30589_29629القرآن يوافق التوراة في الدلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . فإن قيل : أليس أن شرائع القرآن مخالفة لشرائع سائر الكتب ، فلم صار بأن يكون مصدقا لها لكونها متوافقة في الدلالة على التوحيد ونبوة
محمد أولى بأن يكون غير مصدق لها ؟ قلنا : الشرائع التي تشتمل عليها سائر الكتب كانت مقدرة بتلك الأوقات ومنتهية في هذا الوقت بناء على أن النسخ بيان انتهاء مدة العبادة ، وحينئذ لا يكون بين القرآن وبين سائر الكتب اختلاف في الشرائع .
أما قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=97وهدى ) فالمراد به أن القرآن مشتمل على أمرين :
أحدهما : بيان ما وقع التكليف به من أعمال القلوب وأعمال الجوارح وهو من هذا الوجه هدى .
وثانيهما : بيان أن الآتي بتلك الأعمال كيف يكون ثوابه وهو من هذا الوجه بشرى ، ولما كان الأول مقدما على الثاني في الوجود لا جرم قدم الله لفظ الهدى على لفظ البشرى ، فإن قيل : ولم خص كونه هدى وبشرى بالمؤمنين مع أنه كذلك بالنسبة إلى الكل ؟ الجواب من وجهين :
الأول : أنه تعالى إنما خصهم بذلك ، لأنهم هم الذين اهتدوا بالكتاب فهو كقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2هدى للمتقين ) [ البقرة : 2 ] .
والثاني : أنه لا يكون بشرى إلا للمؤمنين ، وذلك لأن البشرى عبارة عن الخبر الدال على حصول الخير العظيم وهذا لا يحصل إلا في حق المؤمنين ، فلهذا خصهم الله به .
أما الآية الثانية وهي قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=98من كان عدوا لله وملائكته ) فاعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=97من كان عدوا لجبريل ) لأجل أنه نزل القرآن على قلب
محمد ، وجب أن يكون عدوا لله تعالى ، بين في هذه الآية أن من كان عدوا لله كان عدوا له ، فبين أن في مقابلة عداوتهم ما يعظم ضرر الله عليهم وهو عداوة الله لهم ، لأن عداوتهم لا تؤثر ولا تنفع ولا تضر ، وعداوته تعالى تؤدي إلى العذاب الدائم الأليم الذي لا ضرر أعظم منه ، وههنا سؤالات :
السؤال الأول : كيف يجوز أن يكونوا أعداء الله ومن حق العداوة الإضرار بالعدو ، وذلك محال على الله تعالى ؟ والجواب : أن معنى العداوة على الحقيقة لا يصح إلا فينا لأن العدو للغير هو الذي يريد إنزال المضار به ، وذلك محال على الله تعالى ، بل المراد منه أحد وجهين ، إما أن يعادوا أولياء الله فيكون ذلك عداوة لله كقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=33إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ) [ المائدة : 33 ] وكقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=57إن الذين يؤذون الله ورسوله ) [ الأحزاب : 57 ] لأن المراد بالآيتين أولياء الله دونه لاستحالة المحاربة والأذية عليه ، وإما أن يراد بذلك كراهتهم القيام بطاعته وعبادته وبعدهم عن التمسك بذلك فلما كان العدو لا يكاد يوافق عدوه أو ينقاد له شبه طريقتهم في هذا الوجه بالعداوة ، فأما عداوتهم
لجبريل والرسل فصحيحة لأن الإضرار جائز عليهم لكن عداوتهم لا تؤثر فيهم لعجزهم عن الأمور المؤثرة فيهم ، وعداوتهم مؤثرة في
اليهود لأنها في العاجل تقتضي الذلة والمسكنة ، وفي الآجل تقتضي العذاب الدائم .
السؤال الثاني :
nindex.php?page=treesubj&link=21164لما ذكر الملائكة فلم أعاد ذكر جبريل وميكائيل مع اندراجهما في الملائكة ؟ الجواب لوجهين :
الأول : أفردهما بالذكر لفضلهما كأنهما لكمال فضلهما صارا جنسا آخر سوى جنس الملائكة .
الثاني : أن الذي جرى بين الرسول
واليهود هو ذكرهما والآية إنما نزلت بسببهما ، فلا جرم نص على اسميهما ، واعلم أن هذا يقتضي كونهما أشرف من جميع الملائكة وإلا لم يصح هذا التأويل ، وإذا ثبت هذا فنقول : يجب أن يكون
nindex.php?page=treesubj&link=29654جبريل عليه السلام أفضل من ميكائيل لوجوه :
أحدها : أنه تعالى قدم
جبريل عليه السلام في الذكر ، وتقديم المفضول على الفاضل في الذكر مستقبح عرفا فوجب أن يكون مستقبحا شرعا
[ ص: 181 ] لقوله عليه السلام : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011229ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن " .
وثانيها :
nindex.php?page=treesubj&link=29752أن جبريل عليه السلام ينزل بالقرآن والوحي والعلم وهو مادة بقاء الأرواح ،
وميكائيل ينزل بالخصب والأمطار وهي مادة بقاء الأبدان ، ولما كان العلم أشرف من الأغذية وجب أن يكون
جبريل أفضل من
ميكائيل .
وثالثها : قوله تعالى في صفة
جبريل : (
nindex.php?page=tafseer&surano=81&ayano=21مطاع ثم أمين ) [ التكوير : 21 ] ذكره بوصف المطاع على الإطلاق ، وظاهره يقتضي كونه مطاعا بالنسبة إلى
ميكائيل فوجب أن يكون أفضل منه .
المسألة الثانية : قرأ
أبو عمرو وحفص عن
عاصم ميكال بوزن قنطار ،
ونافع ميكائل مختلسة ليس بعد الهمزة ياء على وزن ميكاعل ، وقرأ الباقون ميكائيل على وزن ميكاعيل ، وفيه لغة أخرى ميكيئل على وزن ميكيعل ، وميكئيل كميكعيل ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=13042ابن جني : العرب إذا نطقت بالأعجمي خلطت فيه .
المسألة الثالثة : الواو في
جبريل وميكال ، قيل : واو العطف ، وقيل : بمعنى أو يعني من كان عدوا لأحد من هؤلاء فإن الله عدو لجميع الكافرين .
المسألة الرابعة : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=98عدو للكافرين ) أراد عدو لهم إلا أنه جاء بالظاهر ليدل على أن الله تعالى إنما عاداهم لكفرهم وأن
nindex.php?page=treesubj&link=29755_10014عداوة الملائكة كفر .
أَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=28973_29752_29755قَوْلُهُ تَعَالَى : ( nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=97فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ ) فَفِيهِ سُؤَالَاتٌ :
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ : الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : " فَإِنَّهُ " وَفِي قَوْلِهِ : " نَزَّلَهُ " إِلَى مَاذَا يَعُودُ ؟ الْجَوَابُ فِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْهَاءَ الْأُولَى تَعُودُ عَلَى
جِبْرِيلَ ، وَالثَّانِيَةَ عَلَى الْقُرْآنِ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ لِأَنَّهُ كَالْمَعْلُومِ كَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=45مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ ) [ فَاطِرٍ : 45 ] يَعْنِي عَلَى الْأَرْضِ وَهَذَا قَوْلُ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ . أَيْ إِنْ كَانَتْ عَدَاوَتُهُمْ لِأَنَّ
جِبْرِيلَ يُنَزِّلُ الْقُرْآنَ فَإِنَّمَا يُنَزِّلُهُ بِإِذْنِ اللَّهِ . قَالَ صَاحِبُ " الْكَشَّافِ " : إِضْمَارُ مَا لَمْ يَسْبِقْ ذِكْرُهُ فِيهِ فَخَامَةٌ لِشَأْنِ صَاحِبِهِ حَيْثُ يُجْعَلُ لِفَرْطِ شُهْرَتِهِ كَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى نَفْسِهِ وَيَكْتَفِي عَنِ اسْمِهِ الصَّرِيحِ بِذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ .
وَثَانِيهِمَا : الْمَعْنَى فَإِنَّ اللَّهَ نَزَّلَ
جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا أَنَّهُ نَزَّلَ نَفْسَهُ .
السُّؤَالُ الثَّانِي :
nindex.php?page=treesubj&link=20754_31011الْقُرْآنُ إِنَّمَا نَزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا السَّبَبُ فِي قَوْلِهِ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ ؟ الْجَوَابُ : هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ذَكَرْنَاهَا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=193نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=194عَلَى قَلْبِكَ ) [ الشُّعَرَاءِ : 193 ] وَأَكْثَرُ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَلَيْهِ لَا عَلَى قَلْبِهِ إِلَّا أَنَّهُ خَصَّ الْقَلْبَ بِالذِّكْرِ لِأَجْلِ أَنَّ الَّذِي نَزَلَ بِهِ ثَبَتَ فِي قَلْبِهِ حِفْظًا حَتَّى أَدَّاهُ إِلَى أُمَّتِهِ ، فَلَمَّا كَانَ سَبَبُ تَمَكُّنِهِ مِنَ الْأَدَاءِ ثَبَاتَهُ فِي قَلْبِهِ حِفْظًا جَازَ أَنْ يُقَالَ : نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ وَإِنْ كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ نَزَّلَهُ عَلَيْهِ لَا عَلَى قَلْبِهِ .
السُّؤَالُ الثَّالِثُ : كَانَ حَقُّ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ عَلَى قَلْبِي ، وَالْجَوَابُ : جَاءَتْ عَلَى حِكَايَةِ كَلَامِ اللَّهِ كَمَا تَكَلَّمَ بِهِ كَأَنَّهُ قِيلَ : قُلْ مَا تَكَلَّمْتُ بِهِ مِنْ قَوْلِي ، مَنْ كَانَ عَدُوًّا
لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ .
السُّؤَالُ الرَّابِعُ : كَيْفَ اسْتَقَامَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=97فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ ) جَزَاءً لِلشَّرْطِ ؟ وَالْجَوَابُ فِيهِ وَجْهَانِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْعَدَاوَةَ فَاسِدَةٌ لِأَنَّهُ مَا أَتَى إِلَّا أَنَّهُ أُمِرَ بِإِنْزَالِ كِتَابٍ فِيهِ الْهِدَايَةُ وَالْبِشَارَةُ فَأَنْزَلَهُ ، فَهُوَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَأْمُورٌ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَتَى بِالْهِدَايَةِ وَالْبِشَارَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَشْكُورًا فَكَيْفَ تَلِيقُ بِهِ الْعَدَاوَةُ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ
الْيَهُودَ إِنْ كَانُوا يُعَادُونَهُ فَيَحِقُّ لَهُمْ ذَاكَ ، لِأَنَّهُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بُرْهَانًا عَلَى نُبُوَّتِكَ ، وَمِصْدَاقًا لِصِدْقِكَ وَهُمْ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ فَكَيْفَ لَا يُبْغِضُونَ مَنْ أَكَّدَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرَ الَّذِي يَكْرَهُونَهُ .
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=97بِإِذْنِ اللَّهِ ) فَالْأَظْهَرُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَفْسِيرِهِ بِالْعِلْمِ لِوُجُوهٍ :
أَوَّلُهَا : أَنَّ الْإِذْنَ حَقِيقَةٌ فِي الْأَمْرِ مَجَازٌ فِي الْعِلْمِ ، وَاللَّفْظُ وَاجِبُ الْحَمْلِ عَلَى حَقِيقَتِهِ مَا أَمْكَنَ .
وَثَانِيهَا : أَنَّ إِنْزَالَهُ كَانَ مِنَ الْوَاجِبَاتِ ، وَالْوُجُوبُ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْأَمْرِ لَا مِنَ الْعِلْمِ .
وَثَالِثُهَا : أَنَّ ذَلِكَ الْإِنْزَالَ إِذَا كَانَ عَنْ أَمْرٍ لَازِمٍ كَانَ أَوْكَدَ فِي الْحُجَّةِ .
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=97مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ) فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ مَا قَبْلَهُ مِنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِ كِتَابٍ ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّهُ بِالتَّوْرَاةِ وَزَعَمَ أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ
[ ص: 180 ] nindex.php?page=treesubj&link=29778_30588_30589_29629الْقُرْآنَ يُوَافِقُ التَّوْرَاةَ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ أَنَّ شَرَائِعَ الْقُرْآنِ مُخَالِفَةٌ لِشَرَائِعِ سَائِرِ الْكُتُبِ ، فَلِمَ صَارَ بِأَنْ يَكُونَ مُصَدِّقًا لَهَا لِكَوْنِهَا مُتَوَافِقَةً فِي الدَّلَالَةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَنُبُوَّةُ
مُحَمَّدٍ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُصَدِّقٍ لَهَا ؟ قُلْنَا : الشَّرَائِعُ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا سَائِرُ الْكُتُبِ كَانَتْ مُقَدَّرَةً بِتِلْكَ الْأَوْقَاتِ وَمُنْتَهِيَةً فِي هَذَا الْوَقْتِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّسْخَ بَيَانُ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْعِبَادَةِ ، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ بَيْنَ الْقُرْآنِ وَبَيْنَ سَائِرِ الْكُتُبِ اخْتِلَافٌ فِي الشَّرَائِعِ .
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=97وَهُدًى ) فَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَمْرَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : بَيَانُ مَا وَقَعَ التَّكْلِيفُ بِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ وَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ هُدًى .
وَثَانِيهِمَا : بَيَانُ أَنَّ الْآتِيَ بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ كَيْفَ يَكُونُ ثَوَابُهُ وَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بُشْرَى ، وَلَمَّا كَانَ الْأَوَّلُ مُقَدَّمًا عَلَى الثَّانِي فِي الْوُجُودِ لَا جَرَمَ قَدَّمَ اللَّهُ لَفْظَ الْهُدَى عَلَى لَفْظِ الْبُشْرَى ، فَإِنْ قِيلَ : وَلِمَ خَصَّ كَوْنَهُ هُدًى وَبُشْرَى بِالْمُؤْمِنِينَ مَعَ أَنَّهُ كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُلِّ ؟ الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَصَّهُمْ بِذَلِكَ ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِالْكِتَابِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ) [ الْبَقَرَةِ : 2 ] .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَكُونُ بُشْرَى إِلَّا لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبُشْرَى عِبَارَةٌ عَنِ الْخَبَرِ الدَّالِّ عَلَى حُصُولِ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ وَهَذَا لَا يَحْصُلُ إِلَّا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ ، فَلِهَذَا خَصَّهُمُ اللَّهُ بِهِ .
أَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=98مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ ) فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=97مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ ) لِأَجْلِ أَنَّهُ نَزَّلَ الْقُرْآنَ عَلَى قَلْبِ
مُحَمَّدٍ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَدُوًّا لِلَّهِ تَعَالَى ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ كَانَ عَدُوًّا لَهُ ، فَبَيَّنَ أَنَّ فِي مُقَابَلَةِ عَدَاوَتِهِمْ مَا يُعَظِّمُ ضَرَرَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ عَدَاوَةُ اللَّهِ لَهُمْ ، لِأَنَّ عَدَاوَتَهُمْ لَا تُؤَثِّرُ وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ ، وَعَدَاوَتُهُ تَعَالَى تُؤَدِّي إِلَى الْعَذَابِ الدَّائِمِ الْأَلِيمِ الَّذِي لَا ضَرَرَ أَعْظَمَ مِنْهُ ، وَهَهُنَا سُؤَالَاتٌ :
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ : كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ وَمِنْ حَقِّ الْعَدَاوَةِ الْإِضْرَارُ بِالْعَدُوِّ ، وَذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ؟ وَالْجَوَابُ : أَنَّ مَعْنَى الْعَدَاوَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا يَصِحُّ إِلَّا فِينَا لِأَنَّ الْعَدُوَّ لِلْغَيْرِ هُوَ الَّذِي يُرِيدُ إِنْزَالَ الْمَضَارِّ بِهِ ، وَذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَحَدُ وَجْهَيْنِ ، إِمَّا أَنْ يُعَادُوا أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فَيَكُونَ ذَلِكَ عَدَاوَةً لِلَّهِ كَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=33إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) [ الْمَائِدَةِ : 33 ] وَكَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=57إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) [ الْأَحْزَابِ : 57 ] لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَتَيْنِ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ دُونَهُ لِاسْتِحَالَةِ الْمُحَارَبَةِ وَالْأَذِيَّةِ عَلَيْهِ ، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ كَرَاهَتُهُمُ الْقِيَامَ بِطَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَبُعْدَهُمْ عَنِ التَّمَسُّكِ بِذَلِكَ فَلَمَّا كَانَ الْعَدُوُّ لَا يَكَادُ يُوَافِقُ عَدُوَّهُ أَوْ يَنْقَادُ لَهُ شَبَّهَ طَرِيقَتَهُمْ فِي هَذَا الْوَجْهِ بِالْعَدَاوَةِ ، فَأَمَّا عَدَاوَتُهُمْ
لِجِبْرِيلَ وَالرُّسُلِ فَصَحِيحَةٌ لِأَنَّ الْإِضْرَارَ جَائِزٌ عَلَيْهِمْ لَكِنَّ عَدَاوَتَهُمْ لَا تُؤَثِّرُ فِيهِمْ لِعَجْزِهِمْ عَنِ الْأُمُورِ الْمُؤَثِّرَةِ فِيهِمْ ، وَعَدَاوَتُهُمْ مُؤَثِّرَةٌ فِي
الْيَهُودِ لِأَنَّهَا فِي الْعَاجِلِ تَقْتَضِي الذِّلَّةَ وَالْمَسْكَنَةَ ، وَفِي الْآجِلِ تَقْتَضِي الْعَذَابَ الدَّائِمَ .
السُّؤَالُ الثَّانِي :
nindex.php?page=treesubj&link=21164لَمَّا ذَكَرَ الْمَلَائِكَةَ فَلِمَ أَعَادَ ذِكْرَ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ مَعَ انْدِرَاجِهِمَا فِي الْمَلَائِكَةِ ؟ الْجَوَابُ لِوَجْهَيْنِ :
الْأَوَّلُ : أَفْرَدَهُمَا بِالذِّكْرِ لِفَضْلِهِمَا كَأَنَّهُمَا لِكَمَالِ فَضْلِهِمَا صَارَا جِنْسًا آخَرَ سِوَى جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ .
الثَّانِي : أَنَّ الَّذِي جَرَى بَيْنَ الرَّسُولِ
وَالْيَهُودِ هُوَ ذِكْرُهُمَا وَالْآيَةُ إِنَّمَا نَزَلَتْ بِسَبَبِهِمَا ، فَلَا جَرَمَ نَصَّ عَلَى اسْمَيْهِمَا ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي كَوْنَهُمَا أَشْرَفَ مِنْ جَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ هَذَا التَّأْوِيلُ ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ : يَجِبُ أَنْ يَكُونَ
nindex.php?page=treesubj&link=29654جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَفْضَلَ مِنْ مِيكَائِيلَ لِوُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ
جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الذِّكْرِ ، وَتَقْدِيمُ الْمَفْضُولِ عَلَى الْفَاضِلِ فِي الذِّكْرِ مُسْتَقْبَحٌ عُرْفًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقْبَحًا شَرْعًا
[ ص: 181 ] لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011229مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ " .
وَثَانِيهَا :
nindex.php?page=treesubj&link=29752أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَنْزِلُ بِالْقُرْآنِ وَالْوَحْيِ وَالْعِلْمِ وَهُوَ مَادَّةُ بَقَاءِ الْأَرْوَاحِ ،
وَمِيكَائِيلُ يَنْزِلُ بِالْخِصْبِ وَالْأَمْطَارِ وَهِيَ مَادَّةُ بَقَاءِ الْأَبْدَانِ ، وَلَمَّا كَانَ الْعِلْمُ أَشْرَفَ مِنَ الْأَغْذِيَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ
جِبْرِيلُ أَفْضَلَ مِنْ
مِيكَائِيلَ .
وَثَالِثُهَا : قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ
جِبْرِيلَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=81&ayano=21مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ) [ التَّكْوِيرِ : 21 ] ذَكَرَهُ بِوَصْفِ الْمُطَاعِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي كَوْنَهُ مُطَاعًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى
مِيكَائِيلَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَرَأَ
أَبُو عَمْرٍو وَحَفَصٌ عَنْ
عَاصِمٍ مِيكَالَ بِوَزْنِ قِنْطَارٍ ،
وَنَافِعٌ مِيكَائِلَ مُخْتَلَسَةً لَيْسَ بَعْدَ الْهَمْزَةِ يَاءٌ عَلَى وَزْنِ مِيكَاعِلَ ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ مِيكَائِيلَ عَلَى وَزْنِ مِيكَاعِيلَ ، وَفِيهِ لُغَةٌ أُخْرَى مِيكَيْئِلُ عَلَى وَزْنِ مِيكَيْعِلَ ، وَمِيكَئِيلُ كَمِيكَعِيلَ ، قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13042ابْنُ جِنِّي : الْعَرَبُ إِذَا نَطَقَتْ بِالْأَعْجَمِيِّ خَلَطَتْ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الْوَاوُ فِي
جِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ، قِيلَ : وَاوُ الْعَطْفِ ، وَقِيلَ : بِمَعْنَى أَوْ يَعْنِي مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِأَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِجَمِيعِ الْكَافِرِينَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=98عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ) أَرَادَ عَدُوٌّ لَهُمْ إِلَّا أَنَّهُ جَاءَ بِالظَّاهِرِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا عَادَاهُمْ لِكُفْرِهِمْ وَأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29755_10014عَدَاوَةَ الْمَلَائِكَةِ كُفْرٌ .