قوله تعالى : ( تنزيل من رب العالمين ) .
اعلم أن نظير هذه الآية قوله في الشعراء : ( وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين ) [الشعراء : 193] فهو ؛ لأنه تنزيله ، وهو قول كلام رب العالمين جبريل ؛ لأنه نزل به ، وهو قول محمد لأنه أنذر الخلق به ، فههنا أيضا لما قال فيما تقدم : ( إنه لقول رسول كريم ) أتبعه بقوله : ( تنزيل من رب العالمين ) حتى يزول الإشكال ، وقرأ أبو السمال : تنزيلا ، أي نزل تنزيلا .
ثم قال تعالى : ( ولو تقول علينا بعض الأقاويل ) قرئ " ولو تقول " على البناء للمفعول ، التقول افتعال القول ؛ لأن فيه تكلفا من المفتعل ، وسمى الأقوال المنقولة أقاويل تحقيرا لها ، كقولك : الأعاجيب والأضاحيك ، كأنها جمع أفعولة من القول ، والمعنى ولو نسب إلينا قولا لم نقله .
ثم قال تعالى : ( لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين ) وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في الآية وجوه :
الأول : معناه لأخذنا بيده ، ثم لضربنا رقبته ، وهذا ذكره على سبيل التمثيل بما يفعله الملوك بمن يتكذب عليهم ، فإنهم لا يمهلونه ، بل يضربون رقبته في الحال ، وإنما خص اليمين بالذكر ؛ لأن القتال إذا أراد أن يوقع الضرب في قفاه أخذ بيساره ، وإذا أراد أن يوقعه في جيده وأن يلحقه بالسيف ، وهو أشد على المعمول به ذلك العمل لنظره إلى السيف أخذ بيمينه ، ومعناه : لأخذنا بيمينه ، [ ص: 105 ] كما أن قوله : ( لقطعنا منه الوتين ) لقطعنا وتينه وهذا تفسير بين وهو منقول عن . الحسن البصري
القول الثاني : أن اليمين بمعنى القوة والقدرة وهو قول الفراء والمبرد والزجاج ، وأنشدوا قول الشماخ :
إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين
والمعنى لأخذ منه اليمين ، أي سلبنا عنه القوة ، والباء على هذا التقدير صلة زائدة ، قال : وإنما قام اليمين مقام القوة ؛ لأن قوة كل شيء في ميامنه . ابن قتيبة
والقول الثالث : قال مقاتل : ( لأخذنا منه باليمين ) [الصافات : 28] يعني انتقمنا منه بالحق ، واليمين على هذا القول بمعنى الحق ، كقوله تعالى : ( إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين ) [الصافات : 28] أي : من قبل الحق .
اعلم أن حاصل هذه الوجوه أنه لو نسب إلينا قولا لم نقله لمنعناه عن ذلك . إما بواسطة إقامة الحجة فإنا كنا نقيض له من يعارضه فيه ، وحينئذ يظهر للناس كذبه فيه ، فيكون ذلك إبطالا لدعواه وهدما لكلامه ، وإما بأن نسلب عنده القدرة على التكلم بذلك القول ، وهذا هو الواجب في حكمة الله تعالى ؛ لئلا يشتبه الصادق بالكاذب .
المسألة الثانية : الوتين هو العرق المتصل من القلب بالرأس الذي إذا قطع مات الحيوان, قال أبو زيد : وجمعه الوتن و[يقال] ثلاثة أوتنة والموتون الذي قطع وتينه ، قال : ولم يرد أنا نقطعه بعينه بل المراد أنه لو كذب لأمتناه ، فكان كمن قطع وتينه ، ونظيره قوله عليه السلام : " ابن قتيبة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري " والأبهر عرق يتصل بالقلب ، فإذا انقطع مات صاحبه ، فكأنه قال : هذا, أو أن يقتلني السم وحينئذ صرت كمن انقطع أبهره . ما زالت أكلة