أما قوله تعالى : ( حسدا من عند أنفسهم ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى بين أن حبهم لأن يرجعوا عن الإيمان - إنما كان لأجل الحسد . قال الجبائي : عنى بقوله : ( كفارا حسدا من عند أنفسهم ) أنهم لم يؤتوا ذلك من قبله تعالى ، وأن كفرهم هو فعلهم ، لا من خلق الله فيهم ، والجواب : أن قوله : ( من عند أنفسهم ) فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلق بـ" ود " على معنى أنهم أحبوا ذلك من بعد ما تبين لهم أنكم على الحق ، فكيف يكون تمنيهم من قبل طلب الحق ؟ .
الثاني : أنه متعلق بـ " حسدا " ، أي : حسدا عظيما منبعثا من عند أنفسهم .
أما قوله تعالى : ( فاعفوا واصفحوا ) فهذا يدل على أن اليهود بعدما أرادوا صرف المؤمنين عن الإيمان [ ص: 221 ] احتالوا في ذلك بإلقاء الشبه على ما بيناه ، ولا يجوز أن يأمرهم تعالى بالعفو والصفح على وجه الرضا بما فعلوا ؛ لأن ذلك كفر ، فوجب حمله على أحد أمرين :
الأول : أن المراد ترك المقابلة والإعراض عن الجواب ؛ لأن ذلك أقرب إلى تسكين الثائرة في الوقت ، فكأنه تعالى أمر الرسول بالعفو والصفح عن اليهود ، فكذا أمره بالعفو والصفح عن مشركي العرب بقوله تعالى : ( قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ) [ الجاثية : 14 ] وقوله : ( واهجرهم هجرا جميلا ) [ المزمل : 10 ] ولذلك لم يأمر بذلك على الدوام ، بل علقه بغاية فقال : ( حتى يأتي الله بأمره ) وذكروا فيه وجوها :
أحدها : أنه المجازاة يوم القيامة عن الحسن .
وثانيها : أنه قوة الرسول وكثرة أمته .
وثالثها : وهو قول أكثر الصحابة والتابعين ، أنه الأمر بالقتال ؛ لأن عنده يتعين أحد أمرين : إما الإسلام ، وإما الخضوع لدفع الجزية وتحمل الذل والصغار ، فلهذا قال العلماء : إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) [ التوبة : 29 ] وعن الباقر - رضي الله عنه - : أنه لم يؤمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتال حتى نزل جبريل عليه السلام بقوله ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ) [ الحج : 39 ] وقلده سيفا ، فكان أول قتال قاتل أصحاب عبد الله بن جحش ببطن نخل ، وبعده غزوة بدر ، وههنا سؤالان :
السؤال الأول : كيف يكون منسوخا وهو معلق بغاية كقوله : ( ثم أتموا الصيام إلى الليل ) [ البقرة : 187 ] ، وإن لم يكن ورود الليل ناسخا ، فكذا ههنا ، الجواب : أن الغاية التي يعلق بها الأمر إذا كانت لا تعلم إلا شرعا لم يخرج ذلك الوارد شرعا عن أن يكون ناسخا ، ويحل محل قوله : ( فاعفوا واصفحوا ) إلى أن أنسخه عنكم .
السؤال الثاني : كيف يعفون ويصفحون ، والكفار كانوا أصحاب الشوكة والقوة ، والصفح لا يكون إلا عن قدرة ؟ والجواب : أن الرجل من المسلمين كان ينال بالأذى ، فيقدر في تلك الحالة قبل اجتماع الأعداء أن يدفع عدوه عن نفسه ، وأن يستعين بأصحابه ، فأمر الله تعالى عند ذلك بالعفو والصفح كي لا يهيجوا شرا وقتالا .
القول الثاني : في التفسير قوله : ( فاعفوا واصفحوا ) حسن الاستدعاء ، واستعمل ما يلزم فيه من النصح والإشفاق والتشدد فيه ، وعلى هذا التفسير لا يجوز نسخه ، وإنما يجوز نسخه على التفسير الأول .
أما قوله تعالى : ( إن الله على كل شيء قدير ) فهو تحذير لهم بالوعيد ، سواء حمل على الأمر بالقتال أو غيره .