الأول : أنه تعالى قال : ( ولله المشرق والمغرب ) فبين أن هاتين الجهتين مملوكتان له ، وإنما كان كذلك ؛ لأن الجهة أمر ممتد في الوهم طولا وعرضا وعمقا ، وكل ما كان كذلك فهو منقسم ، وكل منقسم فهو مؤلف مركب ، وكل ما كان كذلك فلا بد له من خالق وموجد ، وهذه الدلالة عامة في الجهات كلها ، أعني الفوق والتحت ، فثبت بهذا أنه تعالى خالق الجهات كلها ، والخالق متقدم على المخلوق لا محالة ، فقد كان الباري تعالى قبل خلق العالم منزها عن الجهات والأحياز ، فوجب أن يبقى بعد خلق العالم كذلك لا محالة لاستحالة انقلاب الحقائق والماهيات .
الوجه الثاني : أنه تعالى قال : ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) ولو كان الله تعالى جسما ، وله وجه جسماني لكان وجهه مختصا بجانب معين وجهة معينة ، فما كان يصدق قوله : ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) فلما نص الله تعالى على ذلك علمنا أنه تعالى منزه عن الجسمية ، واحتج الخصم بالآية من وجهين :
الأول : أن الآية تدل على ثبوت الوجه لله تعالى ، والوجه لا يحصل إلا لمن كان جسما .
الثاني : أنه تعالى وصف نفسه بكونه واسعا ، والسعة من صفة الأجسام .
والجواب عن الأول : أن الوجه وإن كان في أصل اللغة عبارة عن العضو المخصوص لكنا بينا أنا لو حملناه ههنا على العضو لكذب قوله تعالى : ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) لأن الوجه لو كان محاذيا للمشرق ؛ لاستحال في ذلك الزمان أن يكون محاذيا للمغرب أيضا ، فإذن لا بد فيه من التأويل وهو من وجوه :
الأول : أن إضافة وجه الله كإضافة بيت الله وناقة الله ، والمراد منها الإضافة بالخلق والإيجاد على سبيل التشريف ، فقوله : ( فثم وجه الله ) أي : فثم وجهه الذي وجهكم إليه ؛ لأن المشرق والمغرب له بوجهيهما ، والمقصود من القبلة إنما يكون قبلة لنصبه تعالى إياها ، فأي وجه من وجوه العالم المضاف إليه بالخلق والإيجاد نصبه وعينه فهو قبلة .
الثاني : أن يكون المراد من الوجه القصد والنية ، قال الشاعر :
[ ص: 21 ]
أستغفر الله ذنبا لست أحصيه رب العباد إليه الوجه والعمل
ونظيره قوله تعالى : ( إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض ) [ الأنعام : 79 ] .
الثالث : أن يكون المراد منه : فثم مرضاة الله ، ونظيره قوله تعالى : ( إنما نطعمكم لوجه الله ) [ الإنسان : 9 ] يعني لرضوان الله ، وقوله : ( كل شيء هالك إلا وجهه ) [ القصص : 88 ] يعني : ما كان لرضا الله ، ووجه الاستعارة أن من أراد الذهاب إلى إنسان فإنه لا يزال يقرب من وجهه وقدامه ، فكذلك من يطلب مرضاة أحد فإنه لا يزال يقرب من مرضاته ، فلهذا سمي طلب الرضا بطلب وجهه .
الرابع : أن الوجه صلة كقوله : ( كل شيء هالك إلا وجهه ) ويقول الناس : هذا وجه الأمر - لا يريدون به شيئا آخر غيره ، إنما يريدون به أنه من ههنا ينبغي أن يقصد هذا الأمر ، واعلم أن هذا التفسير صحيح في اللغة إلا أن الكلام يبقى ، فإنه يقال لهذا القائل : فما معنى قوله تعالى : ( فثم وجه الله ) مع أنه لا يجوز عليه المكان ، فلا بد من تأويله بأن المراد : فثم قبلته التي يعبد بها ، أو ثم رحمته ونعمته وطريق ثوابه والتماس مرضاته .
والجواب عن الثاني : وهو أنه وصف نفسه بكونه واسعا ، فلا شك أنه لا يمكن حمله على ظاهره ، وإلا لكان متجزئا متبعضا ، فيفتقر إلى الخالق ، بل لا بد وأن يحمل على السعة في القدرة والملك ، أو على أنه واسع العطاء والرحمة ، أو على أنه واسع الإنعام ببيان المصلحة للعبيد لكي يصلوا إلى رضوانه ، ولعل هذا الوجه بالكلام أليق ، ولا يجوز حمله على السعة في العلم ، وإلا لكان ذكر العليم بعده تكرارا ، فأما قوله : ( عليم ) في هذا الموضع فكالتهديد ؛ ليكون المصلي على حذر من التفريط ، من حيث يتصور أنه تعالى يعلم ما يخفي وما يعلن ، وما يخفى على الله من شيء ، فيكون متحذرا عن التساهل ، ويحتمل أن يكون قوله تعالى : ( واسع عليم ) أنه تعالى واسع القدرة في توفية ثواب من يقوم بالصلاة على شرطها ، وتوفية عقاب من يتكاسل عنها .
المسألة الخامسة : ولى إذا أقبل ، وولى إذا أدبر ، وهو من الأضداد ، ومعناه ههنا الإقبال ، وقرأ الحسن : " فأينما تولوا " بفتح التاء من التولي ، يريد : فأينما توجهوا - القبلة .