المسألة الأولى : البديع والمبدع بمعنى واحد . قال القفال : وهو مثل أليم بمعنى مؤلم وحكيم بمعنى محكم ، غير أن في بديع مبالغة للعدول فيه ، وأنه يدل على استحقاق الصفة في غير حال الفعل على تقدير أن من شأنه الإبداع ، فهو في ذلك بمنزلة سامع وسميع ، وقد يجيء بديع بمعنى مبدع ، والإبداع الإنشاء ، ونقيض [ ص: 24 ] الإبداع الاختراع على مثال ، ولهذا السبب فإن الناس يسمون من قال أو عمل ما لم يكن قبله مبتدعا .
المسألة الثانية : اعلم أن هذا من تمام الكلام الأول ؛ لأنه تعالى قال : ( بل له ما في السماوات والأرض ) فبين بذلك كونه مالكا لما في السماوات والأرض ، ثم بين بعده أنه المالك أيضا للسماوات والأرض ، ثم إنه تعالى بين أنه كيف يبدع الشيء فقال : ( وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال بعض الأدباء : القضاء مصدر في الأصل سمي به ، ولهذا جمع على أقضية كغطاء وأغطية ، وفي معناه القضية ، وجمعها القضايا ، ووزنه فعال من تركيب " ق ض ي " وأصله " قضاي " إلا أن الياء لما وقعت طرفا بعد الألف الزائدة اعتلت فقلبت ألفا ، ثم لما لاقت هي ألف فعال ، قلبت همزة لامتناع التقاء الألفين لفظا ، ومن نظائره المضاء والأتاء ، من مضيت وأتيت ، والسقاء والشفاء ، من سقيت وشفيت ، والدليل على أصالة الياء دون الهمزة ثباتها في أكثر تصرفات الكلمة ، تقول : قضيت وقضينا وقضيت . . . . إلى قضيتن ، وقضيا وقضين ، وهما يقضيان ، وهي وأنت تقضي ، والمرأتان وأنتما تقضيان ، وهن يقضين ، وأما أنت تقضين فالياء فيه ضمير المخاطبة ، وأما معناه فالأصل الذي يدل تركيبه عليه هو معنى القطع ، من ذلك قولهم : قضى القاضي لفلان على فلان بكذا قضاء إذا حكم ؛ لأنه فصل للدعوى ، ولهذا قيل : حاكم فيصل إذا كان قاطعا للخصومات . وحكى عن أهل اللغة أنهم قالوا : القاضي معناه القاطع للأمور المحكم لها ، وقولهم : انقضى الشيء إذا تم وانقطع ، وقولهم : قضى حاجته ، معناه قطعها عن المحتاج ، ودفعها عنه ، وقضى دينه إذا أداه إليه ، كأنه قطع التقاضي والاقتضاء عن نفسه ، أو انقطع كل منهما عن صاحبه ، وقولهم : قضى الأمر ، إذا أتمه وأحكمه ، ومنه قوله تعالى : ( ابن الأنباري فقضاهن سبع سماوات ) [ فصلت : 12 ] وهو من هذا ؛ لأن في إتمام العمل قطعا له وفراغا منه ، ومنه : درع قضاء ، من قضاها إذا أحكمها وأتم صنعها ، وأما قولهم : قضى المريض ، وقضى نحبه إذا مات ، وقضى عليه : قتله ، فمجاز مما ذكر ، والجامع بينهما ظاهر ، وأما تقضي البازي فليس من هذا التركيب ، ومما يعضد ذلك دلالة ما استعمل من تقليب ترتيب هذا التركيب عليه ، وهو القيض والضيق ، أما الأول فيقال : قاضه فانقاض ، أي شقه فانشق ، ومنه قيض البيض لما انفلق من قشره الأعلى ، وانقاض الحائط إذا انهدم من غير هدم ، والقطع والشق والفلق والهدم متقاربة ، وأما الضيق وما يشتق منه فدلالته على معنى القطع بينة ، وذلك أن الشيء إذا قطع ضاق أو على العكس ، ومما يؤكد ذلك أن ما يقرب من هذا التركيب يدل أيضا على معنى القطع :
فأولها : قضبه إذا قطعه ، ومنه القضبة المرطبة ؛ لأنها تقضب أي تقطع ، تسمية بالمصدر ، والقضيب : الغصن ، فعيل بمعنى مفعول ، والمقضب ما يقضب به كالمنجل .
وثانيها : القضم ، وهو الأكل بأطراف الأسنان ؛ لأن فيه قطعا للمأكول ، وسيف قضيم : في طرفه تكسر وتفلل .
وثالثها : القضف ، وهو الدقة ، يقال رجل قضيف ، أي : نحيف ؛ لأن القلة من مسببات القطع .
ورابعها : القضأة فعلة ، وهي الفساد ، يقال قضئت القربة إذا عفت وفسدت ، وفي حسبه قضأة أي عيب ، وهذا كله من أسباب القطع أو مسبباته ، فهذا هو الكلام في مفهومه الأصلي بحسب اللغة .
المسألة الثانية : في محامل ، قالوا : إنه يستعمل على وجوه : لفظ القضاء في القرآن
أحدها : بمعنى الخلق ، قوله تعالى : ( فقضاهن سبع سماوات ) [ فصلت : 12 ] يعني خلقهن .
وثانيها : بمعنى الأمر ، قال تعالى : ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) [ الإسراء : 23 ] .
وثالثها : بمعنى الحكم ، ولهذا يقال للحاكم : القاضي .
[ ص: 25 ] ورابعها : بمعنى الإخبار ، قال تعالى : ( وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب ) [ الإسراء : 4 ] أي : أخبرناهم ، وهذا يأتي مقرونا بـ " إلى " .
وخامسها : أن يأتي بمعنى الفراغ من الشيء ، قال تعالى : ( فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين ) [ الأحقاف : 29 ] يعني لما فرغ من ذلك ، وقال تعالى : ( وقضي الأمر واستوت على الجودي ) [ هود : 44 ] يعني فرغ من إهلاك الكفار ، وقال : ( ليقضوا تفثهم ) [ الحج : 29 ] بمعنى ليفرغوا منه ، إذا عرفت هذا فنقول : قوله : ( إذا قضى أمرا ) [ آل عمران : 47 ] قيل : إذا خلق شيئا ، وقيل : حكم بأنه يفعل شيئا ، وقيل : أحكم أمرا ، قال الشاعر :
وعليهما مسرودتان قضاهما داود أو صنع السوابغ تبع
المسألة الرابعة : قرأ ابن عامر : " كن فيكون " بالنصب في كل القرآن إلا في موضعين : في أول آل عمران : ( كن فيكون الحق ) [ آل عمران : 60 ] وفي الأنعام : ( كن فيكون قوله الحق ) [ الأنعام : 73 ] فإنه رفعهما ، وعن الكسائي بالنصب في النحل ويس ، وبالرفع في سائر القرآن ، والباقون بالرفع في كل القرآن ، أما النصب فعلى جواب الأمر ، وقيل : هو بعيد ، والرفع على الاستئناف ، أي : فهو يكون .
المسألة الخامسة : اعلم أنه ليس المراد من قوله تعالى : ( فإنما يقول له كن فيكون ) [ آل عمران : 47 ] هو أنه تعالى يقول له : " كن " فحينئذ يتكون ذلك الشيء ، فإن ذلك فاسد ، والذي يدل عليه وجوه :
الأول : أن قوله : ( كن فيكون ) إما أن يكون قديما أو محدثا ، والقسمان فاسدان ، فبطل القول بتوقف حدوث الأشياء على " كن " ، إنما قلنا : إنه لا يجوز أن يكون قديما لوجوه :
الأول : أن كلمة " كن " لفظة مركبة من الكاف والنون ، بشرط تقدم الكاف على النون ، فالنون لكونه مسبوقا بالكاف لا بد وأن يكون محدثا ، والكاف لكونه متقدما على المحدث بزمان واحد ، يجب أن يكون محدثا .
الثاني : أن كلمة " إذا " لا تدخل إلا على سبيل الاستقبال ، فذلك القضاء لا بد وأن يكون محدثا ؛ لأنه دخل عليه حرف " إذا " ، وقوله " كن " مرتب على القضاء بفاء التعقيب ؛ لأنه تعالى قال : ( فإنما يقول له كن ) ، والمتأخر عن المحدث محدث ، فاستحال أن يكون " كن " قديما .
الثالث : أنه تعالى رتب تكون المخلوق على قوله " كن " بفاء التعقيب ، فيكون قوله " كن " مقدما على تكون المخلوق بزمان واحد ، والمتقدم على المحدث بزمان واحد لا بد وأن يكون محدثا ، فقوله " كن " لا يجوز أن يكون قديما ، ولا جائز أيضا أن يكون قوله " كن " محدثا ؛ لأنه لو افتقر كل محدث إلى قوله " كن " وقوله " كن " أيضا محدث ، فيلزم افتقار " كن " إلى " كن " آخر ، ويلزم إما التسلسل وإما الدور ، وهما محالان ، فثبت بهذا الدليل أنه لا يجوز توقف إحداث الحوادث على قوله " كن " .
الحجة الثانية : أنه تعالى إما أن يخاطب المخلوق بـ " كن " قبل دخوله في الوجود ، أو حال دخوله في الوجود ، والأول باطل ؛ لأن خطاب المعدوم حال عدمه سفه ، والثاني أيضا باطل ؛ لأنه يرجع حاصله إلى أنه تعالى أمر الموجود بأن يصير موجودا ، وذلك أيضا لا فائدة فيه .
الحجة الثالثة : أن المخلوق قد يكون جمادا ، وتكليف الجماد عبث ، ولا يليق بالحكيم .
الحجة الرابعة : أن القادر هو الذي يصح منه الفعل وتركه بحسب الإرادات ، فإذا فرضنا القادر المريد [ ص: 26 ] منفكا عن قوله " كن " ، فإما أن يتمكن من الإيجاد والإحداث ، أو لا يتمكن ، فإن تمكن لم يكن الإيجاد موقوفا على قوله " كن " ، وإن لم يتمكن فحينئذ يلزم أن لا يكون القادر قادرا على الفعل إلا عند تكلمه بـ " كن " ، فيرجع حاصل الأمر إلى أنكم سمعتم القدرة بـ " كن " ، وذلك نزاع في اللفظ .
الحجة الخامسة : أن " كن " لو كان له أثر في التكوين لكنا إذا تكلمنا بهذه الكلمة وجب أن يكون لها ذلك التأثير ، ولما علمنا بالضرورة فساد ذلك علمنا أنه لا تأثير لهذه الكلمة .
الحجة السادسة : أن " كن " كلمة مركبة من الكاف والنون ، بشرط كون الكاف متقدما على النون ، فالمؤثر إما أن يكون هو أحد هذين الحرفين أو مجموعهما ، فإن كان الأول لم يكن لكلمة " كن " أثر ألبتة ، بل التأثير لأحد هذين الحرفين ، وإن كان الثاني فهو محال ؛ لأنه لا وجود لهذا المجموع ألبتة ؛ لأنه حين حصل الحرف الأول لم يكن الثاني حاصلا ، وحين جاء الثاني فقد فات الأول ، وإن لم يكن للمجموع وجود ألبتة استحال أن يكون للمجموع أثر ألبتة .
الحجة السابعة : قوله تعالى : ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ) [ آل عمران : 59 ] بين أن قوله " كن " متأخر عن خلقه ، إذ المتأخر عن الشيء لا يكون مؤثرا في المتقدم عليه ، فعلمنا أنه لا تأثير لقوله " كن " في وجود الشيء ، فظهر بهذه الوجوه فساد هذا المذهب ، وإذا ثبت هذا فنقول : لا بد من التأويل ، وهو من وجوه :
الأول : وهو الأقوى ، أن المراد من هذه الكلمة سرعة نفاذ ، وأنه تعالى يخلق الأشياء ، لا بفكرة ومعاناة وتجربة ، ونظيره قوله تعالى عند وصف خلق السماوات والأرض : ( قدرة الله في تكوين الأشياء فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ) [ فصلت : 11 ] من غير قول كان منهما ، لكن على سبيل سرعة نفاذ قدرته في تكوينهما من غير ممانعة ومدافعة ، ونظيره قول العرب : قال الجدار للوتد : لم تشقني ؟ قال : سل من يدقني ، فإن الذي ورائي ما خلاني ورائي ، ونظيره قوله تعالى : ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) [ الإسراء : 44 ] .
الثاني : أنه علامة يفعلها الله تعالى للملائكة ، إذا سمعوها علموا أنه أحدث أمرا ، يحكى ذلك عن أبي الهذيل .
الثالث : أنه خاص بالموجودين الذين قال لهم : ( كونوا قردة خاسئين ) [ البقرة : 65 ] ومن جرى مجراهم ، وهو قول الأصم .
الرابع : أنه أمر للأحياء بالموت وللموتى بالحياة ، والكل ضعيف ، والقوي هو الأول .