أما قوله تعالى : ( مثابة للناس ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال أهل اللغة : أصله من ثاب يثوب مثابة وثوبا إذا رجع يقال : ثاب الماء إذا رجع إلى النهر بعد انقطاعه ، وثاب إلى فلان عقله أي رجع وتفرق عنه الناس ، ثم ثابوا : أي عادوا مجتمعين ، والثواب من [ ص: 43 ] هذا أخذ ، كأن ما أخرجه من مال أو غيره فقد رجع إليه ، والمثاب من البئر : مجتمع الماء في أسفلها ، قال القفال قيل : إن مثابا ومثابة لغتان مثل : مقام ومقامة وهو قول الفراء والزجاج ، وقيل : الهاء إنما دخلت في مثابة مبالغة كما في قولهم : نسابة وعلامة ، وأصل مثابة مثوبة [على وزن] مفعلة .
المسألة الثانية : قال الحسن : معناه أنهم يثوبون إليه في كل عام ، وعن ابن عباس : أنه لا ينصرف عنه أحد إلا وهو يتمنى العود إليه ، قال الله تعالى : ( ومجاهد فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ) [إبراهيم : 37] وقيل : مثابة أي يحجون إليه فيثابون عليه ، فإن قيل : كون البيت مثابة يحصل بمجرد عودهم إليه ، وذلك يحصل بفعلهم لا بفعل الله تعالى ، فما معنى قوله ( وإذ جعلنا البيت مثابة للناس ) قلنا : أما على قولنا ففعل العبد مخلوق لله تعالى فهذه الآية حجة على قولنا في هذه المسألة ، وأما على قول المعتزلة فمعناه أنه تعالى ألقى تعظيمه في القلوب ليصير ذلك داعيا لهم إلى العود إليه مرة بعد أخرى ، وإنما فعل الله تعالى ذلك لما فيه من منافع الدنيا والآخرة ، أما منافع الدنيا فلأن أهل المشرق والمغرب يجتمعون هناك ، فيحصل هناك من التجارات وضروب المكاسب ما يعظم به النفع ، وأيضا فيحصل بسبب السفر إلى الحج عمارة الطريق والبلاد ، ومشاهدة الأحوال المختلفة في الدنيا .
وأما منافع الدين فلأن من قصد البيت رغبة منه في النسك والتقرب إلى الله تعالى ، وإظهار العبودية له ، والمواظبة على العمرة والطواف ، وإقامة الصلاة في ذلك المسجد المكرم والاعتكاف فيه ، يستوجب بذلك ثوابا عظيما عند الله تعالى .
المسألة الثانية : تمسك بعض أصحابنا في بقوله تعالى : ( وجوب العمرة وإذ جعلنا البيت مثابة للناس ) ووجه الاستدلال به أن قوله : ( وإذ جعلنا البيت مثابة للناس ) إخبار عن أنه تعالى جعله موصوفا بصفة كونه مثابة للناس ، لكن لا يمكن إجراء الآية على هذا المعنى لأن كونه مثابة للناس صفة تتعلق باختيار الناس ، وما يتعلق باختيار الناس لا يمكن تحصيله بالجبر والإلجاء ، وإذا ثبت تعذر إجراء الآية على ظاهرها وجب حمل الآية على الوجوب لأنا متى حملناه على الوجوب كان ذلك أفضى إلى صيرورته كذلك مما إذا حملناه على الندب ، فثبت أن الله تعالى أوجب علينا العود إليه مرة بعد أخرى ، وقد توافقنا على أن هذا الوجوب لا يتحقق فيما سوى الطواف ، فوجب تحققه في الطواف ، هذا وجه الاستدلال بهذه الآية ، وأكثر من تكلم في أحكام القرآن طعن في دلالة هذه الآية على هذا المطلوب ، ونحن قد بينا دلالتها عليه من هذا الوجه الذي بيناه .
أما قوله تعالى : ( وأمنا ) أي موضع أمن ، ثم لا شك أن قوله : ( جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا ) خبر ، فتارة نتركه على ظاهره ونقول إنه خبر ، وتارة نصرفه عن ظاهره ونقول إنه أمر .
أما القول الأول : فهو أن يكون المراد أنه تعالى جعل أهل الحرم آمنين من القحط والجدب على ما قال : ( أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ) [العنكبوت : 67] وقوله : ( أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء ) [القصص : 57] ولا يمكن أن يكون المراد منه الإخبار عن عدم وقوع الحرم ، لأنا نشاهد أن القتل الحرام قد يقع فيه ، وأيضا فالقتل المباح قد يوجد فيه ، قال الله تعالى : ( القتل في ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم ) [البقرة : 191] فأخبر عن وقوع القتل فيه .
القول الثاني : أن نحمله على الأمر على سبيل التأويل ، والمعنى أن الله تعالى أمر الناس بأن يجعلوا ذلك الموضع أمنا من الغارة والقتل ، فكان البيت محترما بحكم الله تعالى ، وكانت الجاهلية متمسكين [ ص: 44 ] بتحريمه ، لا يهيجون على أحد التجأ إليه ، وكانوا يسمون قريشا : أهل الله تعظيما له ، ثم اعتبر فيه أمر الصيد حتى أن الكلب ليهم بالظبي خارج الحرم فيفر الظبي فيتبعه الكلب فإذا دخل الظبي الحرم لم يتبعه الكلب ، ورويت الأخبار في تحريم مكة قال عليه الصلاة والسلام : " " ، فذهب إن الله حرم مكة وإنها لا تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها كما كانت رضي الله عنه إلى أن المعنى : أنها لم تحل لأحد بأن ينصب الحرب عليها وأن ذلك أحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأما من دخل البيت من الذين تجب عليهم الحدود فقال الشافعي رضي الله عنه : إن الإمام يأمر بالتضييق عليه بما يؤدي إلى خروجه من الحرم ، فإذا خرج أقيم عليه الحد في الحل ، فإن لم يخرج حتى قتل في الحرم جاز ، وكذلك الشافعي الحرم جاز قتله فيه ، وقال من قاتل في رحمه الله : لا يجوز ، واحتج أبو حنيفة رحمه الله بأنه عليه الصلاة والسلام أمر عندما قتل الشافعي عاصم بن ثابت بن الأفلح وخبيب بقتل أبي سفيان في داره بمكة غيلة إن قدر عليه ، قال رحمه الله : وهذا في الوقت الذي كانت الشافعي مكة فيه محرمة فدل أنها لا تمنع أحدا من شيء وجب عليه وأنها إنما تمنع من أن ينصب الحرب عليها كما ينصب على غيرها ، واحتج رحمه الله بهذه الآية ، والجواب عنه أن قوله : ( أبو حنيفة وأمنا ) ليس فيه بيان أنه جعله أمنا فيماذا فيمكن أن يكون أمنا من القحط ، وأن يكون أمنا من نصب الحروب ، وأن يكون أمنا من إقامة الحدود ، وليس اللفظ من باب العموم حتى يحمل على الكل ، بل حمله على الأمن من القحط والآفات أولى لأنا على هذا التفسير لا نحتاج إلى حمل لفظ الخبر على معنى الأمر وفي سائر الوجوه نحتاج إلى ذلك ، فكان قول رحمه الله أولى . الشافعي