وأما قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=197فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى :
nindex.php?page=treesubj&link=28923_28926قرأ ابن كثير وأبو عمرو "فلا رفث ولا فسوق " بالرفع والتنوين "ولا جدال" بالنصب ، والباقون قرءوا الكل بالنصب .
واعلم أن الكلام في الفرق بين القراءتين في المعنى يجب أن يكون مسبوقا بمقدمتين ، الأولى : أن كل شيء له اسم ، فجوهر الاسم دليل على جوهر المسمى ، وحركات الاسم وسائر أحواله دليل على أحوال المسمى ، فقولك : "رجل" يفيد الماهية المخصوصة ، وحركات هذه اللفظة ، أعني كونها منصوبة ومرفوعة ومجرورة ، دال على أحوال تلك الماهية وهي المفعولية والفاعلية والمضافية ، وهذا هو الترتيب العقلي حتى يكون الأصل بإزاء الأصل ، والصفة بإزاء الصفة ، فعلى هذا الأسماء الدالة على الماهيات ينبغي أن يتلفظ بها ساكنة الأواخر فيقال : رجل جدار حجر ، وذلك لأن تلك الحركات لما وضعت لتعريف أحوال مختلفة في ذات المسمى فحيث أريد تعريف المسمى من غير التفات إلى تعريف شيء من أحواله وجب جعل اللفظ خاليا عن الحركات ، فإن أريد في بعض الأوقات تحريكه وجب أن يقال بالنصب ، لأنه أخف الحركات وأقربها إلى السكون .
[ ص: 140 ] المقدمة الثانية : إذا قلت : "لا رجل" بالنصب ، فقد نفيت الماهية ، وانتفاء الماهية يوجب انتفاء جميع أفرادها قطعا ، أما إذا قلت : "لا رجل" بالرفع والتنوين ، فقد نفيت رجلا منكرا مبهما ، وهذا بوصفه لا يوجب انتفاء جميع أفراد هذه الماهية إلا بدليل منفصل ، فثبت أن قولك : "لا رجل" بالنصب أدل على عموم النفي من قولك : "لا رجل" بالرفع والتنوين .
إذا عرفت هاتين المقدمتين ، فلنرجع إلى الفرق بين القراءتين فنقول : أما الذين قرءوا "ثلاثة" بالنصب فلا إشكال ، وأما الذين قرءوا الأولين بالرفع مع التنوين ، والثالث بالنصب ؛ فذلك يدل على أن
nindex.php?page=treesubj&link=3471الاهتمام بنفي الجدال أشد من الاهتمام بنفي الرفث والفسوق ، وذلك لأن الرفث عبارة عن قضاء الشهوة ، والجدال مشتمل على ذلك ؛ لأن المجادل يشتهي تمشية قوله ، والفسوق عبارة عن مخالفة أمر الله ، والمجادل لا ينقاد للحق ، وكثيرا ما يقدم على الإيذاء والإيحاش المؤدي إلى العداوة والبغضاء . فلما كان الجدال مشتملا على جميع أنواع القبح لا جرم خصه الله تعالى في هذه القراءة بمزيد الزجر والمبالغة في النفي ، أما المفسرون فإنهم قالوا : من قرأ الأولين بالرفع والثالث بالنصب فقد حمل الأولين على معنى النهي ، كأنه قيل : فلا يكون رفث ولا فسوق ، وحمل الثالث على الإخبار بانتفاء الجدال ، هذا ما قالوه إلا أنه ليس بيان أنه لم خص الأولان بالنهي وخص الثالث بالنفي .
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=197فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) فَفِيهِ مَسَائِلُ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
nindex.php?page=treesubj&link=28923_28926قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو "فَلَا رَفَثٌ وَلَا فُسُوقٌ " بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ "وَلَا جِدَالَ" بِالنَّصْبِ ، وَالْبَاقُونَ قَرَءُوا الْكُلَّ بِالنَّصْبِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي الْمَعْنَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِمُقَدِّمَتَيْنِ ، الْأُولَى : أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَهُ اسْمٌ ، فَجَوْهَرُ الِاسْمِ دَلِيلٌ عَلَى جَوْهَرِ الْمُسَمَّى ، وَحَرَكَاتُ الِاسْمِ وَسَائِرِ أَحْوَالِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَحْوَالِ الْمُسَمَّى ، فَقَوْلُكَ : "رَجُلٌ" يُفِيدُ الْمَاهِيَّةَ الْمَخْصُوصَةَ ، وَحَرَكَاتُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ ، أَعْنِي كَوْنَهَا مَنْصُوبَةً وَمَرْفُوعَةً وَمَجْرُورَةً ، دَالٌّ عَلَى أَحْوَالِ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ وَهِيَ الْمَفْعُولِيَّةُ وَالْفَاعِلِيَّةُ وَالْمُضَافِيَّةُ ، وَهَذَا هُوَ التَّرْتِيبُ الْعَقْلِيُّ حَتَّى يَكُونَ الْأَصْلُ بِإِزَاءِ الْأَصْلِ ، وَالصِّفَةُ بِإِزَاءِ الصِّفَةِ ، فَعَلَى هَذَا الْأَسْمَاءُ الدَّالَّةُ عَلَى الْمَاهِيَّاتِ يَنْبَغِي أَنْ يُتَلَفَّظَ بِهَا سَاكِنَةَ الْأَوَاخِرِ فَيُقَالُ : رَجُلْ جِدَارْ حَجَرْ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَرَكَاتِ لَمَّا وُضِعَتْ لِتَعْرِيفِ أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي ذَاتِ الْمُسَمَّى فَحَيْثُ أُرِيدَ تَعْرِيفُ الْمُسَمَّى مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى تَعْرِيفِ شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِ وَجَبَ جَعْلُ اللَّفْظِ خَالِيًا عَنِ الْحَرَكَاتِ ، فَإِنْ أُرِيدَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ تَحْرِيكُهُ وَجَبَ أَنْ يُقَالَ بِالنَّصْبِ ، لِأَنَّهُ أَخَفُّ الْحَرَكَاتِ وَأَقْرَبُهَا إِلَى السُّكُونِ .
[ ص: 140 ] الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ : إِذَا قُلْتَ : "لَا رَجُلَ" بِالنَّصْبِ ، فَقَدْ نَفَيْتَ الْمَاهِيَّةَ ، وَانْتِفَاءُ الْمَاهِيَّةِ يُوجِبُ انْتِفَاءَ جَمِيعِ أَفْرَادِهَا قَطْعًا ، أَمَّا إِذَا قُلْتَ : "لَا رَجُلٌ" بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ ، فَقَدْ نَفَيْتَ رَجُلًا مُنْكَرًا مُبْهَمًا ، وَهَذَا بِوَصْفِهِ لَا يُوجِبُ انْتِفَاءَ جَمِيعِ أَفْرَادِ هَذِهِ الْمَاهِيَّةِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَكَ : "لَا رَجُلَ" بِالنَّصْبِ أَدَلُّ عَلَى عُمُومِ النَّفْيِ مِنْ قَوْلِكَ : "لَا رَجُلٌ" بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ .
إِذَا عَرَفْتَ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ ، فَلْنَرْجِعْ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ فَنَقُولُ : أَمَّا الَّذِينَ قَرَءُوا "ثَلَاثَةً" بِالنَّصْبِ فَلَا إِشْكَالَ ، وَأَمَّا الَّذِينَ قَرَءُوا الْأَوَّلَيْنِ بِالرَّفْعِ مَعَ التَّنْوِينِ ، وَالثَّالِثَ بِالنَّصْبِ ؛ فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=3471الِاهْتِمَامَ بِنَفْيِ الْجِدَالِ أَشَدُّ مِنَ الِاهْتِمَامِ بِنَفْيِ الرَّفَثِ وَالْفُسُوقِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّفَثَ عِبَارَةٌ عَنْ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ ، وَالْجِدَالُ مُشْتَمِلٌ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُجَادِلَ يَشْتَهِي تَمْشِيَةَ قَوْلِهِ ، وَالْفُسُوقُ عِبَارَةٌ عَنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ ، وَالْمُجَادِلُ لَا يَنْقَادُ لِلْحَقِّ ، وَكَثِيرًا مَا يُقْدِمُ عَلَى الْإِيذَاءِ وَالْإِيحَاشِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ . فَلَمَّا كَانَ الْجِدَالُ مُشْتَمِلًا عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقُبْحِ لَا جَرَمَ خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِمَزِيدِ الزَّجْرِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي النَّفْيِ ، أَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا : مَنْ قَرَأَ الْأَوَّلَيْنِ بِالرَّفْعِ وَالثَّالِثَ بِالنَّصْبِ فَقَدْ حَمَلَ الْأَوَّلَيْنِ عَلَى مَعْنَى النَّهْيِ ، كَأَنَّهُ قِيلَ : فَلَا يَكُونُ رَفَثٌ وَلَا فُسُوقٌ ، وَحَمَلَ الثَّالِثَ عَلَى الْإِخْبَارِ بِانْتِفَاءِ الْجِدَالِ ، هَذَا مَا قَالُوهُ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بَيَانٌ أَنَّهُ لِمَ خُصَّ الْأَوَّلَانِ بِالنَّهْيِ وَخُصَّ الثَّالِثُ بِالنَّفْيِ .