[ ص: 154 ] ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم )
قوله تعالى : ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم )
فيه قولان :
الأول : المراد به عرفات ، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا فالأكثرون منهم ذهبوا إلى أن هذه الآية أمر الإفاضة من لقريش وحلفائها وهم الحمس ، وذلك أنهم كانوا لا يتجاوزون المزدلفة ويحتجون بوجوه :
أحدها : أن الحرم أشرف من غيره ، فوجب أن يكون الوقوف به أولى .
وثانيها : أنهم كانوا يترفعون على الناس ، ويقولون : نحن أهل الله فلا نحل حرم الله .
وثالثها : أنهم كانوا لو سلموا أن الموقف هو عرفات لا الحرم ، لكان ذلك يوهم نقصا في الحرم ، ثم ذلك النقص كان يعود إليهم ، ولهذا كان الحمس لا يقفون إلا في المزدلفة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية أمرا لهم بأن يقفوا في عرفات ، وأن يفيضوا منها كما تفعله سائر الناس ، وروي أن النبي عليه الصلاة والسلام لما جعل أبا بكر أميرا في الحج أمره بإخراج الناس إلى عرفات ، فلما ذهب مر على الحمس وتركهم ، فقالوا له : إلى أين وهذا مقام آبائك وقومك فلا تذهب ، فلم يلتفت إليهم ومضى بأمر الله إلى عرفات ووقف بها ، وأمر سائر الناس بالوقوف بها ، وعلى هذا التأويل فقوله : ( من حيث أفاض الناس ) يعني لتكن إفاضتكم من حيث أفاض سائر الناس الذين هم واقفون بعرفات ، ومن القائلين بأن المراد بهذه الآية الإفاضة من عرفات من يقول قوله : ( ثم أفيضوا ) أمر عام لكل الناس ، وقوله : ( من حيث أفاض الناس ) المراد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، فإن سنتهما كانت عرفات ، وروي الإفاضة من بعرفة كسائر الناس ، ويخالف الحمس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقف في الجاهلية جائز إذا كان رئيسا يقتدى به ، وهو كقوله تعالى : ( وإيقاع اسم الجمع على الواحد الذين قال لهم الناس ) [آل عمران : 173] يعني نعيم بن مسعود ( إن الناس قد جمعوا لكم ) [آل عمران : 173] يعني أبا سفيان ، وإيقاع اسم الجمع على الواحد المعظم مجاز مشهور ، ومنه قوله : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) [القدر : 1] وفي الآية وجه ثالث ذكره القفال رحمه الله ، وهو أن يكون قوله : ( من حيث أفاض الناس ) عبارة عن تقادم الإفاضة من عرفة ، وأنه هو الأمر القديم ، وما سواه فهو مبتدع محدث كما يقال : هذا مما فعله الناس قديما ، فهذا جملة الوجوه في تقرير مذهب من قال : المراد من هذه الإفاضة من عرفات .
القول الثاني : وهو اختيار الضحاك : أن المراد من هذه الإفاضة من المزدلفة إلى منى يوم النحر قبل طلوع الشمس للرمي والنحر ، وقوله : ( من حيث أفاض ) المراد بالناس إبراهيم وإسماعيل وأتباعهما ، وذلك أنه كانت طريقتهم الإفاضة من المزدلفة قبل طلوع الشمس على ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام ، والعرب الذين كانوا واقفين بالمزدلفة كانوا يفيضون بعد طلوع الشمس ، فالله تعالى أمرهم بأن تكون إفاضتهم من المزدلفة في الوقت الذي كان يحصل فيه إفاضة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، واعلم أن على كل واحد من القولين إشكالا :
أما الإشكال على القول الأول : فهو أن قوله تعالى : ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ) يقتضي ظاهره أن هذه الإفاضة غير ما دل عليه قوله : ( فإذا أفضتم من عرفات ) لمكان ( ثم ) فإنها توجب الترتيب ، ولو كان المراد من هذه الآية الإفاضة من عرفات ، مع أنه معطوف على قوله ( فإذا أفضتم من عرفات ) [ ص: 155 ] كان هذا عطفا للشيء على نفسه ، وأنه غير جائز ، ولأنه يصير تقدير الآية : فإذا أفضتم من عرفات ، ثم أفيضوا من عرفات ، وإنه غير جائز .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : هذه الآية متقدمة على ما قبلها ، والتقدير : فاتقون يا أولي الألباب ، ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ، ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ، فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله ، وعلى هذا الترتيب يصح في هذه الإفاضة أن تكون تلك بعينها .
قلنا : هذا وإن كان محتملا إلا أن الأصل عدمه ، وإذا أمكن حمل الكلام على القول الثاني من غير التزام إلى ما ذكرتم فأي حاجة بنا إلى التزامه ؟
وأما الإشكال على القول الثاني : فهو أن القول لا يتمشى إلا إذا حملنا لفظ ( من حيث ) في قوله : ( من حيث أفاض الناس ) على الزمان ، وذلك غير جائز ، فإنه مختص بالمكان لا بالزمان .
أجاب القائلون بالقول الأول عن ذلك السؤال بأن ( ثم ) ههنا على مثال ما في قوله تعالى : ( وما أدراك ما العقبة فك رقبة ) [البلد : 13] إلى قوله : ( ثم كان من الذين آمنوا ) [البلد : 17] أي كان مع هذا من المؤمنين ، ويقول الرجل لغيره : قد أعطيتك اليوم كذا وكذا ، ثم أعطيتك أمس كذا فإن فائدة كلمة "ثم" ههنا تأخر أحد الخبرين عن الآخر ، لا تأخر هذا المخبر عنه عن ذلك المخبر عنه .
وأجاب القائلون بالقول الثاني : بأن التوقيت بالزمان والمكان يتشابهان جدا فلا يبعد جعل اللفظ المستعمل في أحدهما مستعملا في الآخر على سبيل المجاز .
أما قوله : ( من حيث أفاض الناس ) فقد ذكرنا أن المراد من "الناس" إما الواقفون بعرفات ، وإما إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وأتباعهما ، وفيه قول ثالث ، وهو قول : إن المراد بالناس في هذه الآية الزهري آدم عليه السلام ، واحتج بقراءة : "ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس " وقال : هو سعيد بن جبير آدم نسي ما عهد إليه ، ويروى أنه قرأ "الناس" بكسر السين اكتفاء بالكسرة عن الياء ، والمعنى : أن الإفاضة منعرفات شرع قديم فلا تتركوه .
أما قوله تعالى : ( واستغفروا الله ) فالمراد منه ، وهو أن يندم على كل تقصير منه في طاعة الله ، ويعزم على أن لا يقصر فيما بعد ، ويكون غرضه في ذلك تحصيل مرضاة الله تعالى لا لمنافعه العاجلة ، كما أن ذكر الشهادتين لا ينفع إلا والقلب حاضر مستقر على معناهما ، وأما الاستغفار باللسان مع التوبة بالقلب فهو إلى الضرر أقرب . الاستغفار باللسان من غير حصول التوبة بالقلب
فإن قيل : كيف أمر بالاستغفار مطلقا ، وربما كان فيهم من لم يذنب فحينئذ لا يحتاج إلى الاستغفار .
والجواب : أنه إن كان مذنبا فالاستغفار واجب ، وإن لم يذنب إلا أنه يجوز من نفسه أنه قد صدر عنه تقصير في أداء الواجبات ، والاحتراز عن المحظورات ، وجب عليه الاستغفار أيضا تداركا لذلك الخلل المجوز ، وإن قطع بأنه لم يصدر عنه ألبتة خلل في شيء من الطاعات ، فهذا كالممتنع في حق البشر ، فمن أين يمكنه هذا القطع في عمل واحد ، فكيف في أعمال كل العمر ، إلا أن بتقدير إمكانه فالاستغفار أيضا [ ص: 156 ] واجب ، وذلك لأن طاعة المخلوق لا تليق بحضرة الخالق ، ولهذا قالت الملائكة : سبحانك ما عبدناك حق عبادتك ، فكان الاستغفار لازما من هذه الجهة ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : " " . إنه ليغان على قلبي ، وإني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة
وأما قوله تعالى : ( إن الله غفور رحيم ) قد علمت أن غفورا يفيد المبالغة ، وكذا الرحيم ، ثم في الآية مسألتان :
المسألة الأولى : هذه الآية تدل على ؛ لأنه تعالى لما أمر المذنب بالاستغفار ، ثم وصف نفسه بأنه كثير الغفران كثير الرحمة فهذا يدل قطعا على أنه تعالى يغفر لذلك المستغفر ، ويرحم ذلك الذي تمسك بحبل رحمته وكرمه . أنه تعالى يقبل التوبة من التائب
المسألة الثانية : اختلف أهل العلم في المغفرة الموعودة في هذه الآية فقال قائلون : إنها عند الدفع منعرفات إلى الجمع ، وقال آخرون : إنها عند الدفع من الجمع إلى منى ، وهذا الاختلاف مفرع على ما ذكرنا أن قوله : ( ثم أفيضوا ) على أي الأمرين يحمل ؟ قال القفال رحمه الله : ويتأكد القول الثاني بما روى نافع عن ابن عمر ، قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية يوم عرفة فقال : "يا أيها الناس إن الله عز وجل يطلع عليكم في مقامكم هذا ، فقبل من محسنكم ، ووهب مسيئكم لمحسنكم ، والتبعات عوضها من عنده ؛ أفيضوا على اسم الله" فقال أصحابه : يا رسول الله أفضت بنا بالأمس كئيبا حزينا وأفضت بنا اليوم فرحا مسرورا ، فقال عليه الصلاة والسلام : "إني سألت ربي عز وجل بالأمس شيئا لم يجد لي به : سألته التبعات فأبى علي به ، فلما كان اليوم أتاني جبريل عليه السلام فقال : إن ربك يقرئك السلام ويقول لك : التبعات ضمنت عوضها من عندي " اللهم اجعلنا من أهله بفضلك يا أكرم الأكرمين .