[ ص: 167 ] ( فصل )
إمكان المسير والأداء بسعة الوقت ، وخلو الطريق ، والصحة : هل هو شرط للوجوب ، أو للزوم الأداء فقط على روايتين .
فأما العائق الخاص ، مثل الحبس والمرض الذي يرجى برؤه ، ومنع السلطان : فينبغي أن يكون مثل ضيق الوقت وعاقة الطريق ، ولهذا قلنا : إذا عرض مثل ذلك في رمضان لم يجب عليه بعد الموت فدية ، فإذا قلنا : هو شرط للوجوب فمات قبل التمكن ، أو أنفق ماله ، أو هلك : لم يكن في ذمته شيء ، وإن قلنا : إنما هو شرط في لزوم السعي فإن الحج يثبت في ذمته ، فإذا أنفق المال فيما بعد بقي الحج في ذمته . [ وإذا مات قبل التمكن أخرج عنه من تركته ، لكن لا إثم عليه بالموت ] وعليه الإثم بإنفاق المال مع إمكان إبقائه للحج .
nindex.php?page=treesubj&link=3318_3310وإذا استقر الحج في ذمته فعليه فعله بكل طريق يمكنه من اكتساب مال ، أو مشي .
فإن قلنا : هما شرط في الوجوب ، وهو قول
أبي بكر وابن أبي موسى ؛ فلأن
[ ص: 168 ] الله تعالى قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=97ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ) بل هو أعجز من أن يقدر على المشي واكتساب المال ، وأعجز من المعضوب ؛ لأنه لا يقدر أن يحج لا بنفسه ولا بنائبه بوجه من الوجوه ، فكيف يبقى الحج في ذمته ؟ ! ونحن وإن قلنا : إن العبادة تجب في الذمة قبل التمكن فإنما ذاك فيما أطلق وجوبه ، كالصلاة والصيام والزكاة .
فأما الحج : فقد خص وجوبه بمن استطاع إليه سبيلا ، فامتنع إيجابه على غير المستطيع بوجه من الوجوه . يبين ذلك أن السبيل في الأصل : هو الطريق والسبب ، وكل ما يوصل إلى الشيء فهو طريق إليه وسبب فيه ، فالتقدير : من استطاع التسبب والتوصل إليه ، أو من استطاع فعل سبيل ، أو سلوك سبيل ، ويختص الوجوب بمن كان السبيل مستطاعا له أو مقدورا .
وأيضا : فإن فريضة الحج قد قيل : إنها نزلت سنة ست ، ولم يحج النبي
[ ص: 169 ] - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من أصحابه ؛ لأن المشركين كانوا يصدونهم عن البيت ، ويقيمون الموسم في غير وقته فلم يتمكنوا من فعله قبل الفتح ، وطرد المشركين ، مع قدرة أكثرهم على الزاد والراحلة . فلو كان الوجوب ثابتا في الذمة لوجب أن يحج عمن مات في تلك السنين منهم ، ولبين النبي - صلى الله عليه وسلم - وجوب ذلك في تركاتهم ، أو سأله أحد منهم ، كما سألوه عمن أدركته فريضة الحج وهو معضوب .
وإن كانت فريضة الحج قد تأخرت إلى سنة تسع ، أو عشر فإنما سبب تأخيرها صد المشركين عن البيت ، واستيلاؤهم عليه ، وعدم تمكن المسلمين من إقامته ، فامتنع أصل إيجاب الحج في حق الكافة فهو بالمنع في حق الخاصة أولى .
وأيضا : فإنه لو
nindex.php?page=treesubj&link=27748_3896صد عن البيت بعد الإحرام لم يلزمه إتمام الحج ، ولا يجب
[ ص: 170 ] القضاء في ذمته في ظاهر المذهب مع أن إتمامه بعد الشروع أوكد من ابتداء الشروع فيه بعد وجوبه . فإذا لم يجب القضاء في ذمة المصدود عنه بعد الإحرام فأن لا يجب الأداء في ذمة المصدود قبل الإحرام أولى .
وإن قلنا : ليسا بشرط في الوجوب وهو قول ... .
فلأن
nindex.php?page=hadith&LINKID=16014895النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل : ما يوجب الحج ؟ فقال : ( الزاد والراحلة ) وفسر الاستطاعة بذلك كما ذكر في غير هذا الموضع ، فلا تجوز الزيادة على ذلك ، بل يعلم أن وجود ذلك موجب للحج ، وذلك لأن الوجوب في الذمة إنما يعتمد القدرة على الفعل في الحال ، أو في المآل بنفسه ، أو بنائبه كوجوب الدين في الذمة . وهذا يجب في ذمته الحج ليفعله فيما بعد بنفسه إن أمكن ، وإلا بنائبه كالمعضوب . حتى لو فرض من لا يمكن الحج عنه في المستقبل مثل من يقدر عليه بعد آخر سنة يحج الناس فيها لم يجب في ذمته ، وهذا لأنه لا فرق بين هذا وبين المعضوب ، إلا أن المعضوب يمكنه الإحجاج عنه في الحال بخلاف المصدود .
والتمكن من فعل العبادة إذا ليس بشرط ؛ لوجوبها في الذمة ، بدليل أن صوم رمضان يجب على الحائض والمريض ، لا سيما على أصلنا المشهور في الصلاة
[ ص: 171 ] والزكاة والصوم . فإن كل من أمكنه قضاء العبادة وجبت في ذمته إذا انعقد سبب وجوبها .
والزاد والراحلة بمنزلة شهود الشهر في رمضان ، وبمنزلة حؤول الحول في الزكاة ، فمن ملك ذلك وأمكن فعل الحج أداء أو قضاء وجب عليه .
[ ص: 167 ] ( فَصْلٌ )
إِمْكَانُ الْمَسِيرِ وَالْأَدَاءِ بِسَعَةِ الْوَقْتِ ، وَخُلُوِّ الطَّرِيقِ ، وَالصِّحَّةِ : هَلْ هُوَ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ ، أَوْ لِلُزُومِ الْأَدَاءِ فَقَطْ عَلَى رِوَايَتَيْنِ .
فَأَمَّا الْعَائِقُ الْخَاصُّ ، مِثْلُ الْحَبْسِ وَالْمَرَضِ الَّذِي يُرْجَى بُرْؤُهُ ، وَمَنْعِ السُّلْطَانِ : فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِثْلَ ضِيقِ الْوَقْتِ وَعَاقَةِ الطَّرِيقِ ، وَلِهَذَا قُلْنَا : إِذَا عَرَضَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي رَمَضَانَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ فِدْيَةٌ ، فَإِذَا قُلْنَا : هُوَ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ فَمَاتَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ ، أَوْ أَنْفَقَ مَالَهُ ، أَوْ هَلَكَ : لَمْ يَكُنْ فِي ذِمَّتِهِ شَيْءٌ ، وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ فِي لُزُومِ السَّعْيِ فَإِنَّ الْحَجَّ يَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ ، فَإِذَا أَنْفَقَ الْمَالَ فِيمَا بَعْدُ بَقِيَ الْحَجُّ فِي ذِمَّتِهِ . [ وَإِذَا مَاتَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ أُخْرِجَ عَنْهُ مِنْ تَرِكَتِهِ ، لَكِنْ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ ] وَعَلَيْهِ الْإِثْمُ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ مَعَ إِمْكَانِ إِبْقَائِهِ لِلْحَجِّ .
nindex.php?page=treesubj&link=3318_3310وَإِذَا اسْتَقَرَّ الْحَجُّ فِي ذِمَّتِهِ فَعَلَيْهِ فِعْلُهُ بِكُلِّ طَرِيقٍ يُمَكِّنُهُ مِنَ اكْتِسَابٍ مَالٍ ، أَوْ مَشْيٍ .
فَإِنْ قُلْنَا : هُمَا شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ ، وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ أَبِي مُوسَى ؛ فَلِأَنَّ
[ ص: 168 ] اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=97وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ) بَلْ هُوَ أَعْجَزُ مِنْ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْمَشْيِ وَاكْتِسَابِ الْمَالِ ، وَأَعْجَزُ مِنَ الْمَعْضُوبِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَحُجَّ لَا بِنَفْسِهِ وَلَا بِنَائِبِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ ، فَكَيْفَ يَبْقَى الْحَجُّ فِي ذِمَّتِهِ ؟ ! وَنَحْنُ وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّ الْعِبَادَةَ تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ فَإِنَّمَا ذَاكَ فِيمَا أُطْلِقَ وُجُوبُهُ ، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ .
فَأَمَّا الْحَجُّ : فَقَدْ خَصَّ وُجُوبَهُ بِمَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ، فَامْتَنَعَ إِيجَابُهُ عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ . يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ السَّبِيلَ فِي الْأَصْلِ : هُوَ الطَّرِيقُ وَالسَّبَبُ ، وَكُلُّ مَا يُوَصِّلُ إِلَى الشَّيْءِ فَهُوَ طَرِيقٌ إِلَيْهِ وَسَبَبٌ فِيهِ ، فَالتَّقْدِيرُ : مَنِ اسْتَطَاعَ التَّسَبُّبَ وَالتَّوَصُّلَ إِلَيْهِ ، أَوْ مَنِ اسْتَطَاعَ فِعْلَ سَبِيلٍ ، أَوْ سُلُوكَ سَبِيلٍ ، وَيَخْتَصُّ الْوُجُوبُ بِمَنْ كَانَ السَّبِيلُ مُسْتَطَاعًا لَهُ أَوْ مَقْدُورًا .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ قَدْ قِيلَ : إِنَّهَا نَزَلَتْ سَنَةَ سِتٍّ ، وَلَمْ يَحُجَّ النَّبِيُّ
[ ص: 169 ] - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَصُدُّونَهُمْ عَنِ الْبَيْتِ ، وَيُقِيمُونَ الْمَوْسِمَ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ فَلَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ فِعْلِهِ قَبْلَ الْفَتْحِ ، وَطَرْدِ الْمُشْرِكِينَ ، مَعَ قُدْرَةِ أَكْثَرِهِمْ عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ . فَلَوْ كَانَ الْوُجُوبُ ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ لَوَجَبَ أَنْ يُحَجَّ عَمَّنْ مَاتَ فِي تِلْكَ السِّنِينَ مِنْهُمْ ، وَلَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وُجُوبَ ذَلِكَ فِي تَرِكَاتِهِمْ ، أَوْ سَأَلَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ ، كَمَا سَأَلُوهُ عَمَّنْ أَدْرَكَتْهُ فَرِيضَةُ الْحَجِّ وَهُوَ مَعْضُوبٌ .
وَإِنْ كَانَتْ فَرِيضَةُ الْحَجِّ قَدْ تَأَخَّرَتْ إِلَى سَنَةِ تِسْعٍ ، أَوْ عَشْرٍ فَإِنَّمَا سَبَبُ تَأْخِيرِهَا صَدُّ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْبَيْتِ ، وَاسْتِيلَاؤُهُمْ عَلَيْهِ ، وَعَدَمُ تَمَكُّنِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ إِقَامَتِهِ ، فَامْتَنَعَ أَصْلُ إِيجَابِ الْحَجِّ فِي حَقِّ الْكَافَّةِ فَهُوَ بِالْمَنْعِ فِي حَقِّ الْخَاصَّةِ أَوْلَى .
وَأَيْضًا : فَإِنَّهُ لَوْ
nindex.php?page=treesubj&link=27748_3896صُدَّ عَنِ الْبَيْتِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ لَمْ يَلْزَمْهُ إِتْمَامُ الْحَجِّ ، وَلَا يَجِبُ
[ ص: 170 ] الْقَضَاءُ فِي ذِمَّتِهِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ مَعَ أَنَّ إِتْمَامَهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ أَوْكَدُ مِنَ ابْتِدَاءِ الشُّرُوعِ فِيهِ بَعْدَ وُجُوبِهِ . فَإِذَا لَمْ يَجِبِ الْقَضَاءُ فِي ذِمَّةِ الْمَصْدُودِ عَنْهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ فَأَنْ لَا يَجِبَ الْأَدَاءُ فِي ذِمَّةِ الْمَصْدُودِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ أَوْلَى .
وَإِنْ قُلْنَا : لَيْسَا بِشَرْطٍ فِي الْوُجُوبِ وَهُوَ قَوْلُ ... .
فَلِأَنَّ
nindex.php?page=hadith&LINKID=16014895النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ : مَا يُوجِبُ الْحَجَّ ؟ فَقَالَ : ( الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ ) وَفَسَّرَ الِاسْتِطَاعَةَ بِذَلِكَ كَمَا ذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ، فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ ، بَلْ يُعْلَمُ أَنَّ وُجُودَ ذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْحَجِّ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي الذِّمَّةِ إِنَّمَا يَعْتَمِدُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْفِعْلِ فِي الْحَالِ ، أَوْ فِي الْمَآلِ بِنَفْسِهِ ، أَوْ بِنَائِبِهِ كَوُجُوبِ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ . وَهَذَا يَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ الْحَجُّ لِيَفْعَلَهُ فِيمَا بَعْدُ بِنَفْسِهِ إِنْ أَمْكَنَ ، وَإِلَّا بِنَائِبِهِ كَالْمَعْضُوبِ . حَتَّى لَوْ فُرِضَ مَنْ لَا يُمْكِنُ الْحَجُّ عَنْهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِثْلُ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ بَعْدَ آخِرِ سَنَةٍ يَحُجُّ النَّاسُ فِيهَا لَمْ يَجِبْ فِي ذِمَّتِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْمَعْضُوبِ ، إِلَّا أَنَّ الْمَعْضُوبَ يُمْكِنُهُ الْإِحْجَاجُ عَنْهُ فِي الْحَالِ بِخِلَافِ الْمَصْدُودِ .
وَالتَّمَكُّنُ مِنْ فِعْلِ الْعِبَادَةِ إِذًا لَيْسَ بِشَرْطٍ ؛ لِوُجُوبِهَا فِي الذِّمَّةِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ وَالْمَرِيضِ ، لَا سِيَّمَا عَلَى أَصْلِنَا الْمَشْهُورِ فِي الصَّلَاةِ
[ ص: 171 ] وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ . فَإِنَّ كُلَّ مَنْ أَمْكَنَهُ قَضَاءُ الْعِبَادَةِ وَجَبَتْ فِي ذِمَّتِهِ إِذَا انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُوبِهَا .
وَالزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ بِمَنْزِلَةِ شُهُودِ الشَّهْرِ فِي رَمَضَانَ ، وَبِمَنْزِلَةِ حُؤُولِ الْحَوْلِ فِي الزَّكَاةِ ، فَمَنْ مَلَكَ ذَلِكَ وَأَمْكَنَ فِعْلُ الْحَجِّ أَدَاءً أَوْ قَضَاءً وَجَبَ عَلَيْهِ .