السلبيات المرتبطة بنموذج التنمية الغربي وبالإضافة إلى كل ما ذكرناه، فإن النمط الأوروبي للتنمية قد حمل في طياته سلبيات خطيرة تعتبر في حد ذاتها كافية لتجعلنا ننصرف عن هـذا النمط، ونبحث عن غيره، ويكفي أن نشير في هـذا المجال إلى ما يواجه المجتمعات الغربية من نقد موضوعي، بالرغم مما حققته من تقدم مادي هـائل: [ ص: 38 ]
1- تسير الحضارة الغربية في اتجاه تدمير القيم والخصائص الإسلامية ، وتنشر قيم الأنانية وحب الذات، من هـنا فهي لا ترى بأسا في تدمير القارات والحضارات من أجل تحقيق ملذاتها وإشباع نهمها، إن تقدم الغرب لم يكن نتيجة عظمة مبادئه، وإنما كان وليد نهب قارات ثلاث ونقل خيراتها إلى أوروبة وأمريكا الشمالية .
يقول " غارودي " في معرض حديثه عن جريمة خطف السكان الأفارقة الأصليين طوال ثلاثة قرون واسترقاقهم ليعملوا في أمريكا الشمالية: " إننا لا نستطيع أن نقارنها بالمذابح التي أتاحت لجنكيزخان بناء أهرام من بضعة آلاف من الجماجم البشرية، إن عمله عمل صانع يدوي إذا قسناه بالجريمة التاريخية العظمى التي اقترفها الغرب " [1]
2- شقاء الإنسان إن التقدم المادي الذي حققته هـذه المجتمعات التي طالما أعلنت أنها تؤمن بالفرد ولا تستهدف إلا سعادته، قد حولت الإنسان إلى أداة إنتاج تابعة ثم إلى أداة استهلاك، إذ لا هـم له إلا أن يقتل نفسه جهدا ليحصل على السلع الاستهلاكية غير الضرورية، التي تفرضها وسائل الإعلام على تفكيره، حيث جرد الإنسان من الإيمان والحب والشعور الفني، وتفككت أمام هـذا الصراع العنيف روابط الأسرة والجوار والعلاقات الإنسانية، وكل العناصر المعنوية التي تضفي [ ص: 39 ] البهجة على الحياة، ولهذا فليس من قبيل المصادفة أن يواكب ارتفاع مستوى المعيشة المادية تزايد العنف وإدمان المخدرات والخمر، وارتفاع معدلات الانتحار، والعزوف عن الإنجاب، وشيوع الشذوذ الجنسي والانحلال الخلقي .
3- التكلفة الاجتماعية الباهظة لقد دفع الغرب -ولا يزال- ثمنا باهظا لنمط تنميته وأهم عناصر تلك التكلفة الاجتماعية هـو الأزمات الدورية، وما يصاحبها من ضحايا الإفلاس وجيوش المتعطلين، ولقد بذل الاقتصاديون ورجال السياسة، جهودا كبيرة للتغلب على تلك الأزمات، وهم وإن نجحوا في التخفيف من بعض آثارها، إلا أن الكساد الحالي، الذي يجمع بين البطالة والتضخم " الكساد التضخمي " يتحدى تلك الجهود كلها، ولا يقل عن هـذا تلك الحروب المتصلة التي صاحبت نمط التصنيع الغربي بين دول الغرب بعضها وبعض، وبين الدول الأخرى، والتي بلغت ذروتها بالحربين العالميتين.
ومع تقدم التكنولوجيات تطورت الأسلحة لتكتسب قوة تدميرية هـائلة، حتى امتد أثر الحرب التدميري وعبؤها الاقتصادي إلى المجتمع بأسره ولم يقتصر على ضحايا ساحات القتال. ورغم أن مخاطر التدمير الشامل تقلل من احتمالات الحرب العالمية، فلم تتوقف أبدا الحروب المحلية. [ ص: 40 ]
4- تخريب البيئة لقد أدى التمركز الصناعي وما تبعه من تجمعات عمرانية، إلى تلوث البيئة الطبيعية، بشكل يضر بحياة الإنسان، ويهدد استمرارها، ونتج عنه أمراض كثيرة مستعصية، وهذا التلوث يصيب مياه الأنهار، ويقضي على ما بها من حيوان ونبات، وما ينتج عنه من تأثيرات على البيئة في مجموعها، فظهرت مشكلات كثيرة ليس أخطرها مخاطر الأسمدة الكيماوية ، والمبيدات الحشرية والكيماوية ، التي تستعمل في صناعة المعلبات والأدوية، ومستحضرات التجميل.
5- التبديد الشديد للموارد ذلك أن اعتماد النمط الغربي في تصنيعه على إمدادات غير محدودة من المواد والطاقة، أدى إلى تبديد رهيب للموارد الطبيعية في الإنتاج والاستهلاك، وهناك عدد كبير من الموارد غير المتجددة، أي أنها مهددة بالنفاد، كما أن معدل استخدام بعض الموارد الأخرى يفوق معدل تجددها الطبيعي، مما يهدد بتناقص خطير في الكميات المتاحة منها، ومن جهة أخرى، حمل السعي وراء الربح منتجي السلع المعمرة، على العمل على تقصير عمرها باستمرار، عن طريق تغيير الأنماط بسرعة، والتهاون في شروط الجودة والمتانة، وهذا الأسلوب يعني استهلاك كميات متزايدة من المعادن المهمة. [ ص: 41 ]
وإذا كان هـذا هـو نقد الغربيين أنفسهم لمجتمعاتهم، فإننا نحن المسلمين يجب ألا نقبل أن يكون ثمن " التحديث " هـو التخلي عن شخصيتنا الإسلامية وهويتنا الذاتية.
إن أمة لها مثل حضارتنا ذات المقومات البارزة لا يمكن أن تلقي خلفها ظهريا بكل ذلك التراث، ولا أن تتنكر لماضيها وتاريخها العريق، وتسعى لتكون شكلا ممسوخا لحضارة أخرى.
إن طرق التقدم متعددة، والأمم ذات الحضارات العريقة، والتاريخ المجيد، يجب أن تستمد من قيمها عوامل التقدم، وتأكيد الشخصية الحضارية، علينا أن نصنع ما صنعه بناة ومؤسسو الحضارة الإسلامية؛ ننفتح على العالم وعلى العلم، ونأخذ كل ما يفيد، مع القدرة على استيعاب ما نأخذ لنعمل على تطويعه لاحتياجاتنا، ثم نتجاوز كل ذلك بإسهام جديد في تقدم البشرية، من خلال اكتشاف دروب جديدة.
إن دراسة التاريخ تعلمنا أن تقدم الحضارة يعني زيادة محتواها، وتعدد مصادرها وروافدها، وتكاثر صور التعبير عنها وتنوعها، ومع ذلك فليس من المقبول أن يكون معنى التقدم اختزال الحضارات العالمية في صورة واحدة وأنموذج واحد، هـو الحضارة الغربية، ثم اختزال تلك الحضارة ذاتها إلى نمط تصنيع معين، مع ما يحيط به من علاقات اجتماعية واقتصادية، وما يحمله من قيم. [ ص: 42 ]
إن التنمية كعملية حضارية ترتكز على القدرات الذاتية الراسخة، ومن ثم فنجاحها في العالم الإسلامي، لا يتأتى إذا لم يعبر الاختيار التنموي عن تطلعات الشخصية المسلمة، وتبلور إرادة الإنسان المسلم حتى تنطلق جهوده، وتتفجر طاقاته.
فالعملية التنموية معقدة بحكم التعقيدات والرواسب التي تكتنف التخلف؛ لأن التنمية في أبسط معانيها هـي القضاء على التخلف، والتخلف ليس مرضا واحدا، ولكنه أمراض متعددة، إنه حصيلة من الأمراض الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإدارية والثقافية، وما التنمية إلا تشخيص وعلاج لتلك الأمراض كلها، وكيف لا تكون بعد هـذا معقدة ومستعصية؟ وكيف لا تفشل محاولات التنمية ويصيبها الوهن والإحباط حينما يكون هـناك تهاون في التشخيص أو قصور في العلاج، أو حين تكون خطط التنمية مجرد تصورات تبسيطية جزئية ساذجة، قد لا تخرج عن دائرة الأماني وأضغاث الأحلام؟! [ ص: 43 ]