الفصل الأول: اليهود والظواهر الغريبة
منذ أقدم العصور والبشر يترك مسقط رأسه ويهاجر إلى أماكن أخرى، وبعد جيل أو أكثر ينسى هـؤلاء وطن الآباء، ولا يجدون شوقا إليه ولا رغبة في زيارته.
هذه الموجات البشرية التي خرجت من شبه جزيرة العرب لتستوطن أطرافها، نسيت موطنها الأصلي كليا. ومثلهم القبائل الجرمانية التي توجهت إلى جنوبي أوروبا. وهؤلاء سكان أمريكا وأستراليا خير شاهد.
ولكن أمة واحدة جاءت شاذة هـم (اليهود) فعلى الرغم من أنهم جاءوا لفلسطين من بلاد أخرى، إلا أن نوعا من (العشق الصوفي) ظل مشتعلا في نفوس اليهود نحو هـذه الأرض وقد [ ص: 39 ] مضت قرون وقرون وهذا (العشق) لم يمت بل هـو يتوهج، فما الذي يذكي جذوة هـذا الحب؟ هـذا صبي اسمه (بروخوف) يتفق مع صبي آخر فيتركان مدينة بولتافا في روسيا ويتوجهان مشيا إلى فلسطين ، ثم يعثر عليهما بعض معارفهما ويردهما إلى ذويهما.
ثم لا يلبث الصبي أن يجمع بعض النقود ليكرر نفس العملية الفاشلة ويمر الزمن ويكبر الصبي ويصبح ثوريا ماركسيا متعصبا، ولكنه لا ينسى فلسطين، ولا تغيب عن قلبه [1] (لقد انضم مؤسس بولي صهيون (بروخوف) إلى صفوف الثوريين الاشتراكيين الديمقراطيين في روسيا ، واعتنق بحماس الفلسفة الماركسية، ولكنه طوال ذلك لم يغمض عينيه عن فلسطين ، كنهاية المطاف للخلاص اليهودي، لم ير فلسطين قط، وكانت معلوماته عنها محدودة جدا ... ومع ذلك فإن ذلك القطر ظل مركزا لاهتمامه ونضاله طيلة حياته السياسية) فما سبب ذلك؟
وهذه صبية ولدت في وسط روسيا، هـاجر أبوها إلى أمريكا ، ثم لحقت به مع أمها وأختها، حتى ألقت عصاها في نيويورك ، تدفع رشوة هـنا وهناك حتى تصل، كل ذلك قبل عام 1900م. [ ص: 40 ]
وفي نيويورك تقف الصبية الماركسية لتخطب باليهود حين يخرجون من الكنيس، حتى أن والدها ليشعر بالخجل ويهددها إن هـي وقفت على الصندوق وتكلمت ليسحبها من شعرها ثم ينزلها، لأنه كيهودي لا يحتمل مثل هـذا العار.
بعد مدة تنقطع عن الدراسة وتهاجر إلى فلسطين ، تاركة عائلتها، وتنضم إلى مستعمرة زراعية في الجليل حيث الملاريا، والشرب من الزير، والاستنارة بمصباح النفط وعدم توفر حتى الدوش والسلك على الشباك.
هذه الصبية الماركسية ما الذي اقتلعها من أمريكا ورماها في الجليل حيث المستنقعات والبعوض والملاريا والعمل الشاق؟.
تقول كولدا مائير [2] : (لا أنسى أبدا تلك الأيام التي مرت علي وأنا في (الكيبوتز) وكيف كنت أعود للبيت مساء كل يوم، وبالكاد أستطيع رفع أصابعي إلى فمي لتناول الطعام ... لقد كان تركي غرفة الطعام أسهل علي من رفع يدي بالشوكة إلى فمي ... ) وذلك لآن العمل كان شاقا وفي ظروف صحية سيئة، تصفها بقولها [3] ( ... ... تتفشى الأمراض [ ص: 41 ] بين معظم العمال، كالملاريا، والدزنتاريا وحمى الباباتاشي، ولعل ممارستهم السباحة في المستنقعات، وتناولهم للطعام دون غسل أيديهم، بعد العمل من الأسباب التي ساعدت على تعاظم انتشار الأمراض) وتصف شعورها قائلة [4] (لا أتضايق إذا ما أخذ الجزار ورقة من الأرض ولف بها اللحم الذي آكله، الواقع كان هـناك نوع من التعويض عن هـذه الصعوبات هـو وجودي في المكان الذي أحببت، أي في البلد اليهودي الوحيد في العالم، حيث الجميع يشعرون بنفس الشعور، ويشاركون بتحقيق نفس الأهداف، سواء أكانت ماضية أو حاضرة، من سائق الأتوبيس إلى كبار الملاك، الكل يسرعون لبيوتهم للتحضير من أجل عطلة السبت، وبالرغم من أننا قدمنا من بلدان مختلفة، ونتكلم لغات عدة، ولنا ثقافات وعقائد مختلفة، كنا أخوة، وندين بالولاء لبعضنا، ويربطنا رباط مقدس وهو فلسطين، فهي المكان الوحيد الذي يجب أن نعيش فيه، هـربا من حياة المكابدة والعناء، هـنا فقط يستطيع اليهود أن يكونوا أسيادا لا ضحايا القدر) .
هذا كلام واحدة روسية الأصل أمريكية الثقافة، تصف نفسها بأنها ماركسية العقيدة. وهي تقول عن نفسها [5] [ ص: 42 ] (لست متدينة ولكني أعلم بأنه لولا الدين لاختفينا من الوجود) . فما رأي بعض الحكام العرب بهذا؟؟.
وتصف نساء المستعمرة - وهي منهن - وما يلبسن فتقول [6] : (الفتيات كن يرتدين نوعا من الثياب الخشنة، المصنوعة بأيد عربية، حيث يجعل للثوب ثقوب ثلاثة، واحد للرأس، واثنان لليدين، ويشد الوسط بحبل ... .) .
هذه عباءة من الصوف يصنعها الفلاحون، وتحاك بالنول وهي خشنة قاسية لا تلبسها حتى نساء الفلاحين، بل هـي للرجال فقط.
وهذا (جابوتنسكي) الملحد وأستاذ بيغن يكتب لأخته رسالة يقول فيها [7] : ( ... .. بعد سنوات من العواصف والأهوال، ربما ضمن حياتي وحياتك ستظهر فلسطين يهودية، مكتظة بالسكان على ضفتي النهر الأردن، أما هـل سيكون ذلك البلد مكانا مريحا أم لا، فهذا موضوع آخر) .
وهذا شبتاي بن زفي يعلن في تركيا أنه المسيح المخلص، فيصدقه على الفور يهود اليمن، حتى راحوا يبيعون أثاثهم استعدادا لذلك، وفي نفس الوقت كان اليهود [ ص: 43 ] يقفون في شوارع أمستردام، فلما سألهم الهولنديون عن سبب وقوفهم قالوا: نحن ننتظر المخلص وقد ظهر.
ومعلوم أن كثيرا من الصلوات اليهودية تنتهي عادة بعبارة: (في العام القادم سنلتقي بفلسطين) .
حتى الأموات الذين يبعثون يوم القيامة، من كان منهم في فلسطين فسينهض كالعشب إذا نزل عليه المطر، أما من كان خارج فلسطين فعليه أن يزحف على بطنه عبر فجوات الأرض، كي يصل إلى الديار المقدسة [8] . وخبز فلسطين ما طعمه؟ [9] (إن الخبز في أرض إسرائيل له من جودة الطعم ما يجمع كل النكهات الطيبة لكل ما على الأرض من طعام) هـذا مع العلم بأن الطحين اليوم أمريكي، والعامل عربي، فمن أين تأتيه هـذه (الجودة) ؟
في عام 1179 كانت جماعة من اليهود مسافرة من كولونيا في ألمانيا وبمحاذاة نهر الراين، ووجدت على الطريق امرأة نصرانية قتيلة، فاتهمت حكومة الولاية اليهود بقتلها، وخيرتهم بين القتل أو اعتناق النصرانية، ولما لم يستجيبوا لطلب [ ص: 44 ] الحكومة قامت بإلقائهم جميعا في نهر الراين [10] . لقد فضلوا الموت غرقا على الردة، وترك دينهم.