الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

أسباب ورود الحديث (تحليل وتأسيس)

الدكتور / محمد رأفت سعيد

ثالثا: معرفة سبب النزول، وكذلك سبب الورود، يزيل الإشكال

عند الوقوف أمام المعاني في بعض الآيات، وفي بعض الأحاديث، يقول الواحدي: لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها، وبيان نزولها.

ويقول ابن دقيق العيد : بيان سبب النزول، طريق قوي في فهم معاني القرآن".

ويقول ابن تيمية : معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب [1] .

ومن أمثلة ذلك:

أشكل على مروان بن الحكم معنى قوله تعالى: ( لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم ) (آل عمران:188) .. فقد أخرج البخاري في صحيحه [2] بسنده عن علقمة بن وقاص : ( أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ فرح بما أتى، وأحب أن يحمد بما لم يفعل، معذبا، لنعذبن أجمعون! فقال ابن عباس: وما لكم ولهذه؟! إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود، فسألهم عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فأروه أن قد [ ص: 103 ] استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم، ثم قرأ ابن عباس: ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون * لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم ) (آل عمران:187-188 ) .

وأما الأمثلة التي تتعلق بأسباب الورود، فقد ذكر أستاذنا الدكتور يوسف القرضاوي ، مجموعة منها في كتابة "كيف نتعامل مع السنة النبوية، معالم وضوابط"، قدم لها بقوله: لا بد لفهم الحديث فهما سليما دقيقا، من معرفة الملابسات التي سيق فيها النص، وجاء بيانا لها، وعلاجا لظروفها، حتى يتحدد المراد من الحديث بدقة، ولا يتعرض لشطحات الظنون، أو الجري وراء ظاهر غير مقصود.

ومما لا يخفى أن علماءنا قد ذكروا أن مما يعين على حسن فهم القرآن معرفة أسباب نزوله، حتى لا يقع فيما وقع فيه بعض الغلاة من الخوارج وغيرهم، ممن أخذوا الآيات التي نزلت في المشركين، وطبقوها على المسلمين، ولهذا كان ابن عمر يراهم شرار الخلق، بما حرفوا كتاب الله عما أنزل فيه.

فإذا كانت أسباب نزول القرآن مطلوبة لمن يفهمه أو يفسره، كانت أسباب ورود الحديث أشد طلبا.

ذلك أن القرآن بطبيعته عام وخالد، وليس من شأنه أن يعرض للجزئيات، والتفصيلات، والآنيات، إلا لتؤخذ منها المبادئ والعبر. [ ص: 104 ]

أما السنة فهي تعالج كثيرا من المشكلات الموضعية والجزئية والآنية، وفيها من الخصوص والتفاصيل ما ليس في القرآن.

فلا بد من التفرقة بين ما هـو خاص وما هـو عام، وما هـو مؤقت وما هـو خالد، وما هـو جزئي، وما هـو كلي، فلكل منها حكمه، والنظر إلى السياق والملابسات والأسباب، تساعد على سداد الفهم، واستقامته لمن وفقه الله [3] .

والأمثلة التي قدمت لبيان أهمية أسباب الورود، وأثرها في الفهم الصحيح، تجمع بين ذكر الحديث، والفهم الخطأ له، والفهم الصواب الذي يتحقق بمعرفة سبب ورود هـذا الحديث.

فمثلا يذكر الحديث الذي أخرجه مسلم ، في كتاب المناقب، من صحيحه، عن عائشة رضي الله عنها ، وكذلك عن أنس رضي الله عنه : ( أنتم أعلم بأمور دنياكم ) [4] .

وقد اتخذه "دعاة العلمانية " تكأة للفصل بين الدنيا والدين، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم وكل إلى الناس أمر دنياهم، فهم أعلم بها. وهذا خطأ في الفهم، يرده هـذا الموقف التعليمي التربوي، الذي يفهم من قصة هـذا الحديث، وسبب وروده، وهي قصة تأبير النخل.

ومع ما ذكره أستاذنا الدكتور يوسف القرضاوي في ذلك [5] ؛ فإن النتيجة من قصة التأبير، تخاطب المسلمين في الأمور المتغيرة، والتي [ ص: 105 ] تخضع للخبرة، والتجربة، والتحسين المستمر، بما يفتح الله سبحانه به على عباده في كل زمان، مع الاسترشاد بما جعل الله سبحانه لعباده من الأصول العامة، التي ترشد هـذه المتغيرات، فشأن المسلم في هـذا، أن يأخذ بأحدث ما وصلت إليه الخبرة، والتجربة، والنتيجة العلمية، ولا يقول: كان الشأن في ذلك على عهد الرسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو قال فيها بكذا، ما لم يكن هـذا القول وحيا ملزما، وهذا - عادة - يكون في الجوانب الثابتة من أمور العقيدة، والعبادة، والأخلاق، والأخبار، وأصول المعاملات، التي ترشد ما يكون فيها من متغيرات.

والمثال الآخر، يذكر فيه الحديث الذي رواه أبو داود في الجهاد [6] ، ورواه الترمذي في السير [7] : ( أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين - لا تتراءى نارهما ) ، والفهم الخطأ لهذا الحديث، تحريم الإقامة في بلاد غير المسلمين بصفة عامة، مع تعدد الحاجة إلى ذلك في عصرنا، للتعلم، وللتداوي، وللعمل، وللتجارة، وللسفارة، ولغير ذلك.

ويصحح هـذا الفهم، بمعرفة سبب ورود الحديث، والذي جاء فيه: ( بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم ، فاعتصم ناس منهم بالسجود، فأسرع فيهم القتل، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمر لهم بنصف العقل (أي الدية) وقال: أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قالوا: يا رسول الله، لم؟ [ ص: 106 ] قال: لا تتراءى نارهما. )

فجعل لهم نصف الدية وهم مسلمون؛ لأنهم أعانوا على أنفسهم، وأسقطوا نصف حقهم، بإقامتهم بين المشركين المحاربين لله ولرسوله.

وعلل الإمام الخطابي إسقاط نصف الدية، بأنهم أعانوا على أنفسهم بمقامهم بين ظهراني الكفار، فكانوا كمن هـلك بجناية نفسه، وجناية غيره، فسقطت حصة جنايته من الدية.

فقوله عليه الصلاة والسلام : ( أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين ) ، أي برئ من دمه إذا قتل؛ لأنه عرض نفسه لذلك بإقامته بين هـؤلاء المحاربين لدولة الإسلام [ ص: 107 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية