( عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها، إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هـلكوا جميعا، وإن يأخذوا على أيديهم، نجوا ونجوا جميعا ) [1] .
الصورة التي يقدمها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لواقع الحياة على هـذه الأرض، وعلائق الناس فيها، ببعضهم، ومسئوليتهم في الحفاظ على بقائها وصلاحها صورة منتزعة من واقع مشاهد،، لا يتأتى لأحد أن يجادل، أو يتوقف فيه البتة، فلن يكون منه إلا التسليم بما ينتهي إليه التصوير والمقارنة والموازنة، من هـدي يأخذ بأيدي الناس إلى التي هـي أهدى وأقوم، اقتناعا واطمئنانا، فينقادون إليه انقياد ذي الأغلال، إلى خير، يرمى به إليه.
يشبه الرسول صلى الله عليه وسلم ، القائم على حدود الله تعالى، المراقب لها، الواقف عند حماها في جميع شأنه، والواقع فيها، الرائع المنهمك المستمر [ ص: 38 ] في انتهاكها، فلا يرعوى، يشبه هـذين الصنفين ـ وفي رواية لأحمد [2]
يضيف إليهم المداهن في حدود الله. المصانع المنافق، المزين لانتهاك الحرمات، الساكت عن ذلك. الانتهاك، تحت ستار الحرية ـ يشبه هـذه الأصناف الثلاثة وعلائقهم ببعضهم على ظهر هـذه الأرض، بقوم شاءوا السفر في سفينة تمخر عباب البحر، فكان بينهم استهام المنازل واقتسامها، فكان لبعضهم أعلاها، وكان لبعضهم أسفلها، وهو أوعرها وشرها كما في رواية لأحمد [3] ـ وكذلك منازل الناس في الحياة على هـذه الأرض ـ وكان الذين في أسفلها في حاجة إلى أن يستقوا ماء، فإذا استقوا مروا على من فوقهم، النازلين اقتراعا أعلى السفينة، فكان ضرورة أن يصب الأسفلون عند مرورهم على الأعلين، فتأذى الأعلون، وفي رواية للترمذي وأحمد [4] ( فقال الذين في أعلاها: لا ندعكم تصعدون فتؤذوننا، فثقل ذلك على الأسفلين ) - كما في رواية لأحمد - [5] ( فقال الأسفلون : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا فاستقينا منه ولم نمر على أصحابنا فنؤذيهم ) ، وفي رواية للبخاري [6] : ( فأخذ فأسا فجعل ينقر أسفل السفينة فأتوه فقالوا : مالك ؟ فقال : تأذيتم بي ولا بد لي من الماء ) وهنا برز صنيع المداهنين المصانعين، الذين يبغون الفتنة في الأرض، تحت شعار الحرية الشخصية، فقال بعضهم كما في رواية للإمام أحمد [7]
: " إنما يخرق في نصيبه " ، وقال الآخرون : لا، فإن أخذوا على يدي ذلك الخارق، ولم ينخدعوا بمقاله المداهن، الرافع شعار " الحرية الشخصية " نجا الجميع، وإن تركوه يخرق في نصيبه خرقا هـلكوا جميعا. [ ص: 39 ] هذا التفصيل لوقائع الأحداث في المشبه به ( أصحاب السفينة ) يشير إلى وقائع مثلها في حياة الناس، في هـذه الأرض.
والرسول صلى الله عليه وسلم ـ اختار موقع أحداث المشبه به سفينة، وهو مكان دال على عظيم تعرضه للمخاطر الجسام، التي لا تخفى، ليهدي الناس إلى أن هـذه الأرض، وما عليها، لا تقل تعرضا للمخاطر الجسام عما تتعرض له السفينة في بحر لجي، قد تكون خطايا بعض ساكنيها سببا لهلاك جميعهم حين لا يأخذون على أيديهم.
قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب ) (الأنفال : 24 ـ 25 ) .
هذه الصورة الكلية التي رسمها النبي صلى الله عليه وسلم ، ببيانه الحكيم تجمع بين واقعين متشابهين متماثلين : واقع ممتد عبر الحياة زمانا ومكانا، هـو واقع القائمين على حدود الله، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وواقع الواقعين فيها، التاركين للمعروف، المرتكبين للمنكر، وواقع المداهنين المصانعين في الحق، الساكتين على الشر، يقابل ذلك الواقع واقع قريب إلى الأذهان والأبصار لا يكاد يغفل عنه، أو يجهله أحد من الناس، هـو صورة المشبه به : صورة تجعل المتلقي كأنه يرى الأحداث تجري أمام عينيه : يرى سفينة في بحر لجي، يقبل قوم على الإبحار فيها، ويرى تقاسم القوم، واستهامهم مواقع فيها، فإذا قوم في أعلاها، وقوم في أسفلها. هـكذا تبدأ الأحداث، دون أن يكون فيها ما يخرجها عن سنن العدالة، وكذلك تبدو الحياة على الأرض، ثم تأتي ضرورات الحياة وحاجاتها، وأثرها في مجرياتها، وعلائق الناس بعضهم ببعض وفقا لمناهجهم في التعامل مع تلك الضرورات والحاجات ومن تكون عندهم، [ ص: 40 ] فالأعلون ممتعون بالاستقاء دونما حاجة إلى مرور على غيرهم، فتتحقق ضروراتهم وحاجاتهم دونما اصطدام بالآخرين وكذلك طائفة من الناس في هـذه الحياة.
والأسفلون يقتضي تحقيقهم ضرورات حياتهم ومصالحهم المرور على غيرهم والاصطدام بهم، فإذا هـم أمام أمرين عظيمين :
· ضرورة تحقيق ضروراتهم وحاجاتهم.
· ضرورة الاتصال بالآخرين والاحتكاك ببعض شئونهم.
وتلك حال الجمهرة الكاثرة من الناس في هـذه الحياة، وهنا تكون الحكمة والحنكة، وتقدير الأمور بمقاديرها، وفقا لما يقضي به حسن البصيرة والفراسة، واستبصار العواقب من الأسفلين، ومن شاكلهم، وهنا يكون الإيثار والصبر الجميل، والاحتساب والفضل من الأعلين، ومن شاكلهم.
الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هـديه هـذا يرسم لنا صورة لما هـو الغالب على الطائفتين في الحياة: الأعلين والأسفلين، فلا إيثار ولا احتساب ولا فضل من الأعلين، ولا حكمة ولا حسن بصيرة من الأسفلين. فيصور لنا الأعلين، وقد تأذوا من مرور الأسفلين عليهم، والمرور حقهم وضرورة من ضروراتهم، فكان هـذا من الأعلين غير حميد.
إن اقتسام الأشياء عدالة وارتضاء، لا ينفي أن يكون للآخرين بها بعض الحق ولو من وجه خفي، فليس الذي يملكه هـذا، بخال من حق الآخرين فيه، فكل أمر الإنسان وشأنه وماله من الموجودات حسا، ومعنى، لغيره فيه بعض الحق : جسده وعقله وقلبه، ماله وولده وعلمه، تقواه وقدره وجاهه ... إلخ.
وما يكون لأحد، ولا ينبغي له أن يتبرم من أن يستعمل الآخرون ما لهم من حق، فيما ملكت يده بفضل الله تعالى. وغير قليل من الناس تضيق نفوسهم حين يطلب الآخرون حقوقهم عندهم، فترتسم آيات الضجر على الوجوه، [ ص: 41 ] وقد تلفظ الأفواه كلمات طاعنات، وقد تمتد الأيدي، بما يؤذي الطالبين حقا لهم، وما ذلك بالمنهج الأمثل في الإسلام.
الأمثل إسلاما، إظهار البشاشة والرضا، حين يطلب الآخرون حقوقهم، بل من حقهم على من تكون حقوقهم في أيديهم، أن يبثوا في نفوسهم رضاهم باستخدام حقهم المتعلق بما ملكت أيديهم، ويوحون إليهم، أن أخذه منهم أحب إليهم، أو كمثل حبهم هـم، أن يأخذوا ما لهم عند غيرهم، فقد هـدى النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك ( بقوله: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) [8] .
وفيما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من حال الأعلين، تصوير لما يكون من بعض الأمة من دافعات إلى الخطايا، وإن كثيرا مما يقترفه الجاهلون، يحمل جمع من غيرهم أوزار حملهم عليه واضطرارهم للتردي فيه، بما يكون منهم، من أساليب حاملة على ذلك. منها ما هـو مقصود، ومنها ما هـو عن غفلة وجهالة.
من مسئولية الأعلين ومن ضارعهم في الأمة، أن يعتصموا من حمل غيرهم على التردي في الخطايا.
الغني حين يمتنع عن أداء زكاة ماله، أو يتأخر في إخراجها، يحمل بعض الفقراء على التردي في بعض الخطايا : سرقة، أو استجداء أو احتيالا، فتخرق السفينة.
الزوج حين يحرم زوجه من بعض حقوقها الحسية والمعنوية، يحملها على أن تسقط في مستنقع النشوز أو الخيانة، فتخرق السفينة.
الأب حين يحرم بنيه بعض حقوقهم، يحملهم، على التردي في هـاوية العقوق، فتخرق السفينة. [ ص: 42 ] المعلم حين يحرم تلاميذه بعض حقوقهم، فلا يحسن إعداد نفسه علما وصنعة، ولا يخلص في تعليمهم، يحمل بعضهم على أن يختلس العلم، أو يسرقه عند اختباره، فتخرق السفينة.
ولي الأمر الأعلى حيث يحرم شعبه حقه عليه، في أن يحكمهم بما شرع خالقهم، لا بما شرعه هـو، وبطانته، يحمل شعبه أو بعضه على أن يخرق السفينة خرقا لا يكاد يصلح : يسقط حبه وهيبته والثقة فيه من نفوسهم، وتمتلئ القلوب والعقول كرها وادعاء خيانة، فيسهل على الدهماء الخروج عليه، فيفسدون في الأرض، فتخرق السفينة. والمسئول عن ذلك هـو ولي الأمر وبطانته، إذ منع شعبه حقه .. وإذا ما كان الدال على الخير كفاعله فإن الحامل لغيره على الشر كفاعله .. وما خرجت أمة قط على إمام عدل، فالعدل أساس الملك، ولا يكون عدل البتة إذا لم يك وفقا لما أنزل الله عز وجل.
إن الحكمة لتقتضي بأن ليس الصلاح أن لا تفعل الشر، بل وألا تحمل الآخرين عليه، بل وأن تعينهم على الاعتصام من التردي في خباله.
والرسول صلى الله عليه وسلم يصور لنا حال الأسفلين في السفينة بين شقي الرحى : حاجتهم إلى الماء، وهو ضرورة الضرورات، وتأذي الآخرين من المرور عليهم.
فإذا بالبصائر تغشى فلا تقدر الأمور قدرها، ولا تتفرس في الواقعات عواقبها، فينظرون في أخف الضررين فيحتملونه.
وقد كشف لنا النبي صلى الله عليه وسلم ما هـو غالب على الدهماء حينذاك: الافتتان بحق الملكية والحرية الشخصية، التي يظن أنها المطلقة اليد، تفعل فيما تملك ما تشاء، فيرين على الألباب، ما يطمس نورها، فتهتف الضلالة فيهم : ( لو خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا ) .
كلمات تقال، تحمل في ظواهرها طيب المقاصد، وحسن الدوافع (في نصيبنا) (لم نؤذ من فوقنا) كلمات فاتنة، تلقي بالغشاوة على البصائر فلا تنفذ [ ص: 43 ] في عقبى الأشياء، ولكن من تحت تلك الكلمات الطامة، التي لا تبقي ولا تذر.
كلمات هـي أصل الداء، وجرثومة الفساد، في كثير من الحياة. كلمات يغشى بريقها البصائر فلا تفقه كنهها، ولا يفقه قائلوها فلسفة الامتلاك في الإسلام : ليس المرء بمطلق اليد فيما يملك بفضل الله تعالى. ثم يزعم أنه يفعلها لكيلا يؤذي غيره، وهو في حقيقة فعله لا يؤذي فحسب، بل هـو يدمر ويمحق.
حين يستقيم تصور الإنسان حقائق الامتلاك في الإسلام، تستقيم حركته وسلوكه فيما يملك، فيعلم أن لحرية التصرف فيما ملكه الله تعالى، حدا يقف عنده، لا يتعداه، لأن في تعديه ضربا من الاعتداء على الآخرين.
( عن سمرة بن جندب أنه كانت له عضد من نخله في حائط رجل من الأنصار، قال ومع الرجل أهله. قال فكان سمرة يدخل إلى نخله فيتأذى به ويشق عليه، فطلب إليه أن يبيعه، فأبى، فطلب إليه أن يناقله، فأبى، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر له، فطلب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعه فأبى، فطلب إليه أن يناقله، فأبى، قال: فهبه له، ولك كذا وكذا أمرا رغبة فيه فأبى، فقال: أنت مضار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصاري: اذهب فاقلع نخله ) [9] .
فهدى النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن حرية تصرف المرء فيما يملك غير مطلقة، بل تحكمها ترك المضارة، سواء ما كان منها جهالة، وما كان منها عمدا.
إن حال أهل السفينة كما صوره الرسول صلى الله عليه وسلم من الجلاء والبديهة العقلية والمسلمة الفطرية ما يجعله بعيدا عن الجدال، أو التوقف فيه، وهذا ما يجعل إقامته مقام المشبه به حال الدنيا ومن فيها : علائق ومسئولية، حقا وواجبا، أمرا يستوجب التسليم المطلق، بأن حكم العقل في حال الدنيا، ومن فيها، حكم السفينة وأهلها : علائق ومسئولية، وحقا واجبا، وأن التوقف في ذلك خطيئة عقلية تقذف بصاحبها خارج أفق الإنسانية، فإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم من بعد أن أبان [ ص: 44 ] علاقة القائمين على حدود الله في الدنيا، بالواقعين فيها،وبالمداهنين، قد أقام الحجة على كل ذي عقل، أن صلاح المرء في نفسه غير كاف، بل فريضة عليه أن يكون صالحا، وأن يكون مصلحا ما حوله، قائما بالاحتساب والرقابة الراشدة على ما حوله، فلا يدع أيدي العابثين ممتدة بالشر.
فأقام الإنسانية أمام فريضة تغيير المنكر، ومنع أهله منه، والأخذ على أيديهم أيا كانت نياتهم ومقاصدهم، قياما لا تستطيع الفكاك منه، والتخلي عنه، أو التوقف فيه ؛ لأن في هـذا التوقف والتخلي إخراجا لها من أفق الإنسانية المسلمة وقذفا بها في حمأة الجاهلية وخبالها.
وهو صلى الله عليه وسلم باختياره عناصر المشبه به على هـذا النحو، أبلغ في هـدي الأمة إلى أن فريضة تغيير المنكر ضرورة حياة، لا ينظر فيها إلى دوافع فعل المنكر ونوازعه، فإن كثيرا من الماحقات قد يكون مبعثها حسن نوايا الجاهلين الحمقى.
إن حسن النية وحده، لا يثمر خيرا ولا يهدي إليه، إلا إذا كان هـذا الحسن ثمرة علم وفقه، وحكمة وبصيرة، فأغلق بذلك البيان الباب، في وجه من يتوانى عن تغيير المنكر الواقع اغترارا بحسن نوايا فاعليه.
وأغلقه في وجه من يتوانى عن التغيير، اغترارا بالحرية الشخصية، التي بدت في قول المداهنين " إنما يخرق في نصيبه " .
هذه المقابلة الإبليسية ( إنما يخرق في نصيبه ) إنما يرفعها لواء جمهرة من المداهنين المرجفين في المدينة، يدلسون بهذه الأغلوطة الإبليسية ( الحرية الشخصية ) على الدهماء، الذين يلهثون خلف كل ناعق، بما يرفع عنهم تكاليف الصلاح والإصلاح، ويبهرج لهم أغلوطاته، بما تشتهيه نوازع الحيوانية فيهم. فما من مذهب فلسفي أو سياسي أو اجتماعي أو فني،، أراد أن يضرب في الأمة المسلمة فيوهي بنيانها، فيصرف الناس عن الاستمساك بالهدي، إلا رفع شعارا ( أغلوطة ) الحرية الشخصية : إنما يخرق في نصيبه. [ ص: 45 ] هذه المذاهب وإن تغايرت وتناحرت فيما بينها، منهجا وحركة، فالذي يوحد بينها الرغبة الجموح، في صرف الناس عن التعاون على تحقيق الوجود المتمكن للأمة المسلمة، فلا تجد فتنة في الناس أسرع وأنكى من أغلوطة الحرية الشخصية.
جاء في ميثاق إبليس : بروتوكولات حكماء صهيون :
" كذلك كنا قديما، أول من صاح في الناس : " الحرية والمساواة والإخاء " ، كلمات ما انفكت ترددها منذ ذلك الحين ببغاوات جاهلة، متجمهرة من كل مكان حول هـذه الشعائر، وقد حرمت بترددها العالم من نجاحه، وحرمت الفرد من حريته الشخصية الحقيقية، التي كانت من قبل في حمى يحفظها من أن يخنقها السفلة " [10] .
" إن كلمة ( الحرية ) تزج بالمجتمع في نزاع مع كل القوى حتى قوى الطبيعة وقوة الله " [11] .
( وإذا ما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد هـدى حين أخبر أنه ستكون فتنة، فسأله الصحابة: فما المخرج منها يا رسول الله ؟ قال: كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هـو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله ... ) [12] ، وهو ما استند إليه وإلى غيره من آيات الله والحكمة، أهل العلم والدعوة فتنادوا مخلصين : الإسلام هـو الحل، إذا ما كان ذلك فإن المرجفين في الأمة الساعين في الأرض فسادا يرفعون شعارا " الليبرالية هـي الحل " على الرغم من أن " الليبرالية قد اتخذت الحرية المطلقة الأساس شبه المقدس لها " [13] ، ومن الحرية اشتق لها اسمها الكاشف عن حقيقتها وكنهها. [ ص: 46 ] ما " الليبرالية " في حقيقتها إلا رفض سلطة الدين في شئون الحياة عقيدة وشريعة ومنهج حياة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، [14] وإن حاول بعض دهاقنتها، خداع الدهماء، في بيان حقيقتها، بما لا ينفرهم منها، فيبهرجونها في بادئ الأمر لهم ولا يقدمون لهم، في مفتتح دعوتهم لها، ما يمكن أن تنتبه له بعض عقول الدهماء فينصرفوا عنها.
يزعم دهاقين " الليبرالية " الخارجة من عباءة " الماسونية " ، أن " الليبرالية " دعوة إعلاء شأن الفرد وحريته في الاختيار، والانتماء، والملكية، والقرار، وحقه في المشاركة في عقد اجتماعي، يرتضيه في ظل مجتمع، يوفر كافة ضمانات الحرية بأشكالها الديمقراطية والتوازن الطبيعي في المجتمع " [15] .
كلمات يغشون بها على عقول كثير من الدهماء، فيتمكنون منهم ويسعون بهم إلى تقويض الوجود المتمكن للأمة المسلمة، ومن خلال تبني سياستهم القائمة على " إطلاق الحرية الدينية كاملة، وعادلة، ومتساوية، وبلا انحياز، وأن الدولة مهمتها توفير الحرية لكل الأفراد، وحماية مصالحهم المدنية ( كذا) وملكياتهم الخاصة، وعلى السلطة عدم التدخل في الشئون الدينية إلا إذا كانت بعض الأعمال التي يقوم بها أصحابها بدعوى الدين، تعد محرمة أو مجرمة أصلا لأسباب غير دينية " [16] .
هكذا تكشف " الليبرالية " في دهاء يمزج السم بالعسل عن هـدفها الأعظم، فهي تؤمن وتدعو إلى أن ترفع الدولة يدها عن شئون الدين الذي تعتنقه جمهرة الأمة، فلا تنفق عليه من بيت المال شيئا، فيتساوى عندها الإسلام، وسائر الديانات والمعتقدات، ولا يكون للدولة معتقد، تتبناه وتدعو إليه، فالليبرالية تدعو إلى " أن يبقى الدين علاقة بين الإنسان وربه " [17] لا يتعدى [ ص: 47 ] مجاله ما يعرف عند الدهماء بالطقوس الدينية في مناخاتها الزمانية والمكانية، لا يتجاوز بها المسلم مسجده أو منزله، وإلا كان خرقا في " الليبرالية " يجب على الدولة أن تأخذ على أيدي من تسول له نفسه أن يفعل. وهم بذلك لا يبيحون للسلطة الحاكمة أن تنفق على أمر من شئون الدين من الخزانة العامة، وبدعوى أن الدين من الشئون الشخصية للأفراد، ينفق عليه من يعنيه ذلك، وليس من شئون السلطة والدولة، وفي الوقت نفسه يجعلون مسئولية الدولة العناية بما يسمى فنونا وثقافة عالمية على اختلاف أنواعها وأهدافها، ويلزمون الدولة الإنفاق عليها من الخزانة العامة،وما ذاك إلا أن في تلك الفنون تحقيقا لغاياتهم من تقويض الوجود المتمكن للأمة المسلمة.
ودعاة " الليبرالية " يتسللون من دعوة عدم التدخل في الشئون الدينية من قبل الدولة إنفاقا ورعاية، إلى وجوب تصديها بالردع، إذا كانت بعض الأعمال التي يقوم بها أصحابها بدعوى الدين، تعد محرمة، أو مجرمة أصلا، لأسباب غير دينية، فهم يوجبون ـ تحت هـذا الستار ـ مصادرة كل ما يستشعرون فيه اقترابا من هـيمنتهم على سدة الحكم، بدعوى أن في هـذا اعتداء على حرية الأفراد، أو دعوى التطرف .. إلى آخر تلك الأستار، فكل ما لا يتناسق مع أهوائهم وأهدافهم، يكون عندهم من الممارسات الدينية المحرمة، أو المجرمة، لأسباب غير دينية، أما ما كان محرما لأسباب دينية جاءت بها الشريعة، فلا دخل للسلطة فيها، لأنها لن تمس أهدافها في تقويض الأمة المسلمة، وهم يطلقون وصف التحريم والتجريم، للممارسات الدينية، لأسباب غير دينية، ليتأتى لهم الحكم به على كل ما لا يروق لهم، من شئون الممارسات الدينية لدى المسلمين، فتتحول كثير من الحقوق الدينية المشروعة للمسلمين مما جاء به الكتاب والسنة أعمالا محرمة أو مجرمة لأسباب غير دينية تستوجب " الليبرالية " على السلطة الحاكمة التصدي لهذه الممارسات الدينية المشروعة أو المفروضة بالكتاب والسنة، وبهذا تتعانق " الليبرالية " مع عدوها اللدود " الماركسية " [ ص: 48 ] التي تتستر الآن بعد انهيار الشيوعية العالمية تحت ستار " اليسار " ، فيدعوان إلى التصدي لكثير من الممارسات الدينية المشروعة بالكتاب والسنة
[18] .
وهذا الذي ينطلق منه دعاة الحرية الشخصية المطلقة التي هـي الأساس المقدس لليبرالية، إنما هـو عين ما جاء به ميثاق إبليس " بروتوكولات صهيون " : " إن كلمة الحرية التي يمكن أن تفسر بوجوه شتى سنجدها هـكذا : " الحرية حق عمل ما يسمح به القانون " تعريف الكلمة هـكذا، سينفعنا على هـذا الوجه : إذ سيترك لنا أن نقول : أين تكون الحرية، وأين ينبغي أن لا تكون، وذلك لسبب بسيط هـو القانون، لن يسمح إلا بما نرغب نحن فيه " [19] .
ودعاة " الليبرالية " يتسللون من خلال الخداع بأغلوطة حرية الفرد في الاختيار والانتماء والملكية والقرار، إلى حرية الطعن في الدين باعتبار أن الدين ليس حقا شخصيا لفرد معين، يعد الاعتداء عليه، والطعن فيه، اعتداء على الآخرين، وباعتبار أن الدين موروث قابل للنظر فيه، والنقد له، وهم في محاولتهم خرق السفينة، بل إغراقها يعملون في كل جانب، وفي آن واحد، معتصمين في كل هـذا بميثاق " إبليس " : " برتوكولات حكماء صهيون " : [ ص: 49 ] يجتهدون في الاستهزاء بالسنة وأهلها وقرنها بالخرافات وعدم صلاحيتها لتقدم الأمة، ويضربون بها عرض الحائط لأنها لا توافق أهواءهم وأهدافهم، فيخرقون في السفينة خرقا ماحقا لا يبقي و لا يذر [20] .
ومنهم من يجتهدون في التضليل فيعمد إلى القرآن يقول فيه مقالة مارق، وهي شنشنة تعرفها الحياة الثقافية منذ " طه حسين " في كتاب " في الشعر الجاهلي " ومحمد أحمد خلف الله في " الفن القصصي في القرآن " وتغريد عنبر في " دراسة أصوات المد في التجويد القرآني " حتى نصر أبي زيد في كل ما قذف به حياتنا الثقافية، يخرق به في سفينة الأمة خرقا مبيرا.
يقول نصر أبو زيد : " إن النص في حقيقته وجوهره منتج ثقافي، والمقصود بذلك أنه تشكل في الواقع والثقافة خلال فترة تزيد على العشرين عاما، وإذا كانت هـذه الحقيقة تبدو بديهية ومتفقا عليها ( كذا !! ) فإن الإيمان بوجود ميتافيزيقي سابق للنص يعود لكي يطمس هـذه الحقيقة البديهية ويعكر ـ من ثم ـ إمكانية الفهم العلمي لظاهرة النص " [21] .
ويقول نصر أبو زيد : " إن كلام الله قد تجسد في شكل ملموس في كلتا الديانتين : تجسد في المسيحية في مخلوق بشري هـو المسيح، وتجسد في الإسلام نصا لغويا في لغة بشرية هـي اللغة العربية، وفي كلتا الحالتين صار الإلهي بشريا أو تأنسن الإلهي، واللغة العربية في الوحي الإسلامي تمثل الوسيط الذي تحقق فيه وبه التحول، ويتمثل اللحم والدم ـ مريم ـ الوسيط الذي تحقق التحول فيه وبه في المسيحية " . [ ص: 50 ] ويقول : " وإذا كان الفكر الديني الإسلامي ينكر على الفكر الديني المسيحي توهم طبيعة مزدوجة للسيد المسيح، ويصر على طبيعته البشرية، فإن الإصرار على الطبيعة المزدوجة للنص القرآني وللنصوص الدينية بشكل عام، يعد وقوعا في نفس التوهم،وينتج التوهم في الحالتين عن إهدار الحقائق التاريخية والموضوعية الملابسة للظاهرة " [22] .
وهذا قليل من كثير يحاول به خرق السفينة وإغراقها، وآيات الإضلال والإرجاف فيما نقلناه عنه ذات جلاء لا يتوقف معه أحد في إدراك فداحة ما يرمي إليه القائل وأمثاله.
وهو فوق هـذا لا يرضى أن تكون علاقة الإنسان بالله تعالى علاقة العبد بسيده، لأن هـذا عنده يجعل الإنسان مغلولا دائما بمجموعة من الثوابت التي إذا فارقها حكم على نفسه بالخروج من الإنسانية، وليست هـذه الرؤية ـ كما يقول ـ معزولة تماما عن مفهوم " الحاكية " في الخطاب الديني السلفي المعاصر حيث ينظر لعلاقة الله بالإنسان والعالم من منظور علاقة السيد بالعبد الذي لا يتوقع منه سوى إذعان ـ كما يقول ـ وهو لا يرضى أن يذعن لله،ومن ثم يهتف في الناس حاثا على الثورة على الله، وعلى القرآن قائلا : " قد آن أوان المراجعة والانتقال إلى مرحلة التحرر، لا من سلطة النصوص وحدها، بل من كل سلطة تعوق مسيرة الإنسان في عالمنا. علينا أن نقوم بهذا الآن، وفورا قبل أن يجرفنا الطوفان " [23] .
وهم يرفضون أن يحكم الوحي على الواقع وأن يحتكم إلى النص، لأن الاحتكام إلى النصوص الدينية في المسائل الاجتماعية والسياسية لا يؤدي إلى ما يرونه خيرا لهم .. يقول " عبد العظيم أنيس " : [ ص: 51 ] " إن أي إصلاح ديني حقيقي في ظروف اليوم، ونحن على أبواب القرن الواحد والعشرين، والكرة الأرضية بسبب ثورة الاتصال، تكاد أن تتحول إلى قرية كونية كبيرة، وفي عصر ميثاق حقوق الإنسان العالمي، أقول أي إصلاح ديني حقيقي لا بد ـ كنقطة بدء أن يتخلى عن فكرة تحكيم النصوص الدينية في المسائل الاجتماعية والسياسية ... " [24] .
وذلك إيمانا بما أعلنه د/ حسن حنفي من أنه " احتمينا بالنصوص، فدخل اللصوص " ، وهو الذي ينادي متسائلا في سخرية :
" لماذا يكون الله أفضل من الإنسان ؟ ولماذا نقول حقوق الإنسان ولا نقول حقوق الله ؟ لماذا يحكم الوحي على الواقع ؟ ولماذا لا يحكم الواقع على الوحي ؟ " [25] .
هكذا يخرق في السفينة خرقا ماحقا.
ويأتي آخر يصدر ديوان شعر أسماه ( آية جيم ) يجعله خمسة فصول أو قصائد، يسمى كل قصيدة أو فصلا ( سورة ) ويصدر الديوان بقوله : " أعوذ بالشعب من السلطان الغشيم باسم الجيم ) ، وكل ما فيه لا يعدو أن يكون خبالا، كلا بل هـو كيد شيطان رجيم، لا يتأتى لأحد في رأسه ذرة عقل أن يزعم أن فيه من الشعر أو النثر أو قول عاقل شيئا.
ومن هـذائه أن كل ما عداه قد غبن حرف " الجيم " ، فجاء منصفا له من غبن الله، ومن غبن العالمين، يقول :
" ثم كيف لم تفطنوا أيها الأدباء الفصحاء إلى أنه حتى في التراث الفصيح لم يضطهد حرف مثلما اضطهدت " الجيم " ، وإلا فدلوني أيها الشعراء النحارير على جيمية محترمة في الشعر العربي كله .......... [ ص: 52 ] ولعل ما قيل عن الشعر يصدق بفصه ونصه على القرآن الكريم فلسر ما كرم القرآن حروفا كثيرة ليس " الجيم " من بينها : كرم الصاد والقاف والنون وكذلك الألف واللام والراء، ولكن أحدا لا يعرف على وجه اليقين لم غبن ( كذا ) الجيم حقها، وهي التي ترمز إلى ركن إسلامي ركين وهو الحج ....... وإذا ما تركنا القرآن الكريم إلى ميدان المعاني العامة ألفينا الحقائق نفسها تقريبا " [26] .
هكذا يغبن الله ـ جل جلاله ـ والعالمون حرف " الجيم " عند هـذا المرجف في المدينة، ويأتي هـو لينصفه من الله الغابن ـ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ـ ذلك أن هـذا الجيم عنده " ليست مجرد حرف ما في أبجدية ما، بل هـي أبجدية قائمة بذاتها. إنها سر الوجود وكماله الشخصي، ذلك أن الوجود جيمي بطبعه، فهيهات لشيء أو شخص بغير فضل الجيم أن يوجد، فلتخضعوا إذن لقانون الجيم ...... ذلك أن كل عبارة بل كل كلمة بل كل حرف لا يفلت مهما حاول من صبغة جيمية كامنة ......
ولأن أطماعي كأجيامي لا حد لها، فإنني لن أرضى بأقل من أن يعمد كل من كان اسمه خاليا من حرف " الجيم " إلى تجييم اسمه ليصبح " علي " جليا، ويصبح " كمال " جمالا، أما من كان اسمه مزدانا بحرف الجيم ... فيعمد إلى أن يجعل بقية الحروف كلها أجياما، فيحدث لأول مرة في تاريخ اللغات أن تتوحد الأسماء بينما تتمايز المسميات " [27] .
كذلك يكون الإبداع الشعري معولا يخرق السفينة بل إعصارا يحرق السفينة ومن فيها.
وأدهى من ذلك وأمر ما ختم به ( تلموده ) وأسماه " السورة الخامسة " " الجيم تجرح " ، فقد أخرجها على نحو يستدعي إلى عقل القارئ نمط بناء السورة القرآنية، [ ص: 53 ] يستفتحها قائلا : " أعوذ بالشعب من السلطان الغشيم باسم الجيم والجنة والجحيم ومجتمع النجوم أنكم اليوم ستفجأون ....... ثم يقول: " وما أدراك ما الجيم، فإذا مزجنا الأجيام مزجا، ثم مخجنا جرجهن مخجا، ثم مججناهن مجا،قل يا أيها المجرمون، إنكم اليوم لفي وجوم " ......
ثم يختم سورته الخامسة، ويختتم " تلموده " قائلا : " الجيم جل جلالها.
صدق الحرف الرجيم " [28] .
لن يكون إجرام وافتراء على الله والقرآن كمثل ما قال في تلموده،ففاق أستاذه " عبد الوهاب البياتي " حين قال في ديوانه : " كلمات لا تموت " :
الله في مـدينتي يبـيـعـه اليـهود الله في مـدينتي مـشـرد طريد أراده الـغـزاة أن يـكـون
لهم أجيـرا شـاعـرا قـوادا يخـدع في قيـثاره المذهب العبـاد
لـكنـه أصـيب بـالجـنون لأنه أراد أن يصـون زنـابق الحقـول
من جـرادهم أراد أن يكـون "
فكان فريضة على كل من يعلن أن في قلبه ذرة من إيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وانتسابا إلى الإسلام وأهله أن يقوم إلى تغيير هـذا المنكر، وأن يأخذ على أيديهم من قبل أن يحرقوا أو أن يخرقوا : ولذلك قالها الرسول صلى الله عليه وسلم مكلفا محذرا : [ ص: 54 ] ( فإن يتركوهم وما أرادوا هـلكوا جميعا، وإن أخذوا علي أيديهم نجوا ونجوا جمعيا ) .
ولن تجد شأنا من شئون الأمة الآن دينا، ودنيا، إلا وجدت فيه من يجاهد أن يخرق، ومن يجاهد أن يحرق، فوضع الرسول صلى الله عليه وسلم الأمة كلها في وجه أولئك المفسدين في الأرض، وحذرنا الدمار والهلاك الشامل للأمة، إذا نحن توانينا أو تقاعسنا أو تخاذلنا أو شغلتنا أموالنا وأهلونا عن ردع أولئك المرجفين في الأمة الساعين فيها فسادا وهم اليوم كثر، لهم من ذي سلطان عون، ولهم من الدهماء عجب.
( عن أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : يا أيها الناس إنكم تقرأون هـذه الآية: ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) (المائدة: 105) . فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا علي يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده ) [29] .
إن قول الله تعالى: ( عليكم أنفسكم ) لا يستقيم فهمه على أن المعنى فيه: الزموا صلاح أنفسكم، ولا شأن لكم بفساد غيركم، فإنهم لا يضرونكم في شيء فإن فسادهم وبال عليهم هـم أنفسهم، وأنتم منه ناجون.
لا يصح أن يكون هـذا هـو معنى قوله تعالى: ( عليكم أنفسكم ) لأن ذلك متناقض مع دلالات صريحة لآيات أخرى. ومن النصيحة لكتاب الله تعالى أن تفسر آياته بعضها في ضوء بعض وفي ضوء السنة. وهذه الآية من حقها أن تقرن بقول تعالى :
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) ( آل عمران : 102 ) . [ ص: 55 ] قوله أولا ( اتقوا الله حق تقاته ) يوجب أول ما يوجب صلاح الذات وكمالها. وقوله ثانيا : ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) يوجب إصلاح الآخرين وإعانتهم على الكمال. ولذلك جاء قوله ( جميعا ) وقوله ( ولا تفرقوا ) فلا يكفي أن يكون الإنسان معتصما بحبل الله وحده دون أن يكون اعتصامهم به جميعا.
الصحيح في فقه قوله : ( عليكم أنفسكم ) أن لمعناه مجالين : مجال علاقة المسلم بأخيه المسلم، ومجال علاقة الأمة المسلمة بغيرها من الأمم الأخرى.
أما المجال الأول فإن المعنى القويم : أن عليكم أنفسكم بإصلاحها وتهذيبها وتثقيفها بثقافة الدعوة إلى الله فكرا وسلوكا وتدريبها على حسن التعليم وحسن الصبر على الدعوة وابتلائها، والاحتساب لوجه الله، لتكمل خصال أنفسكم المسلمة، فإذا ما تحقق ذلك فإنه لن يضركم من ضل عند دعوتكم له إلى الحق بالحسنى، وإن كان قويا متسلطا، فإنكم ستكونون بإصلاح أنفسكم على النحو الذي مضى، قد هـذبتموها، وحصنتموها، ودربتموها فلا ينال منكم من ضل إذا اهتديتم إلى حسن إعدادها وتدريبها، وقيامها، بما عليها من فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قولا وسلوكا.
أما المجال الآخر : مجال علاقة الأمة المسلمة بغيرها من الأمم، فإن المعنى إنكم يا أيها الذين آمنوا أمة واحدة، منفصلون عمن سواكم متضامنون، متكافلون فيما بينكم، فعليكم أنفسكم. عليكم أنفسكم فزكوها، وطهروها، وعليكم جماعتكم فالتزموها، وراعوها، ولا عليكم أن يضل غيركم إذا أنتم اهتديتم .........
إن هـذه الآية تقرر مبادئ أساسية في طبيعة الأمة المسلمة، وفي طبيعة علاقتها بالأمم الأخرى ........
إن كون الأمة المسلمة مسئولة عن نفسها أمام الله، لا يضيرها من ضل إذا [ ص: 56 ] اهتدت، لا يعني أنها غير محاسبة على التقصير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينها أولا ثم في الأرض جميعا ..........
إن هـذه الآية لا تسقط عن الفرد، ولا عن الأمة التبعة في كفاح الشر، ومقاومة الضلال، ومحاربة الطغيان، وأطغى الطغيان الاعتداء على ألوهية الله، واغتصاب سلطانه، وتعبيد الناس لشريعة غير شريعته، وهو المنكر الذي لا ينفع الفرد ولا ينفع الأمة أن تهتدي، وهذا المنكر قائم " [30] .
وإذا لم يقم كل منا أفرادا وأمة بتغيير هـذا المنكر، فإن الدمار هـو عقبى السوء، وذلك ( بينها الصديق عليه الرضوان بعد أن أشار إلى ضلال فهم الناس الآية فقال : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده ) .
فتغيير المنكر فريضة لأنه ضرورة حياة، به يتحقق للأمة وجودها الآمن، وإلا عمهم الله بعقاب من عنده : ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب ) ( الأنفال : 25) .
وقد " فسرها " ابن عباس " رضي الله عنهما بقوله: أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين ظهرانيهم، فيعمهم الله بالعذاب " [31] .
وقد جاءت أحاديث عدة تحذر سوء عقبى السكوت عن المنكر، والإعراض عن تغييره، أو الانشغال عن هـذا التغيير.
( عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فعرفت في وجهه أن قد حضر شيء، فتوضأ وما كلم أحدا، فلصقت بالحجرة، أسمع ما يقول، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا أيها الناس، إن الله [ ص: 57 ] يقول لكم مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر،قبل أن تدعوني فلا أجيبكم وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم ) [32] . ( وعن عبد الله بن جرير عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي، يقدرون على أن يغيروا عليه، فلا يغيروا، إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا ) [33] .
عن عبد الله بن مسعود ، قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل، فيقول: يا هـذا، اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد، فلا يمنعه ذلك، أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال : ( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ) إلى قوله ( فاسقون ) [34] ثم قال: كلا، والله، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يدي الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، ولتقصرنه على الحق قصرا. )
وفي رواية زاد: ( أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعننكم كما لعنهم ) [35] . ( عن جابر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أوحى الله عز وجل ـ إلى [ ص: 58 ] جبريل ـ عليه السلام ـ أن أقلب مدينة كذا وكذا بأهلها، فقال : يا رب إن فيهم عبدك فلانا لم يعصك طرفة عين.
قال : فقال : اقلبها عليه فإن وجهه لم يتمعر في ساعة قط ) [36] .
وفي هـذا دلالة باهرة على أن الاكتفاء بالصلاح الذاتي والاعتصام من مشاركة المفسدين إفسادهم، لا يقي المرء من الهلاك إلا إذا جمع إليه تغيير المنكر الواقع ممن حوله، بكل ما يمكن تغييره به فله النجاء.
( عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن ـ وأعوذ بالله أن تدركوهن :
لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا، بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا. ولم ينقصوا المكيال والميزان، إلا أخذوا بالسنين، وشدة المئونة، وجور السلطان عليهم. ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا. ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله، إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم. وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، ويتخيروا مما أنزل الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم ) [37] .
هذه المهلكات الخمس، هـي فينا شاخصة،تكاد تراها حيث وقع بصرك.
وإن من عهد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الأخذ على أيدي الظالمين والمفسدين في الأرض، [ ص: 59 ] والمرجفين في المدينة، فإن لم نفعل سلط الله علينا عدوا من غيرنا وقد فعل، فأسامنا ذلا لم تشهد الأمة مثله منذ كانت.
إن تغيير المنكر،والأخذ على يد الظالم، وردع المفسدين، هـي الفريضة الموءودة في أمتنا.
ولن تستقيم حياة أمة بغير القيام بها قياما ناصحا، فالتغيير ضرورة حياة، وهو في الإسلام لا يبتغى به إلى عرض من أعراض الحياة الدنيا. [ ص: 60 ]