تغيير المنكر بالقلب : أحواله وآدابه
يفسر التغيير بالقلب بأنه كره المنكر، وأن هـذا ليس بإزالة، وتغيير من فاعله للمنكر ولكنه هـو الذي وسعه [1] ، وفي هـذا نظر.
إذا كان كره المنكرات وأصحابها، فعلا قلبيا، فإن له واقعا سلوكيا في حياة صاحبه يصدق ذلك الكره أو يكذبه، فإن من آيات أو ثمرات كره المنكرات، [ ص: 112 ] الإعراض عنها، وعن أصحابها،واجتنابهم، والاعتصام من الاختلاط بهم، وفعل ما يمكن أن يعود عليهم بنفع دنيوي، ووجوب إظهار بغض أفعالهم واحتقارهم ما داموا على منكرهم، ووجوب قطيعتهم في شتى حركات الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ولا سيما المجاهرون منهم بمنكراتهم.
وسبيل مقاطعة أهل المنكر المجاهرين والمرجفين في المدينة، به ضرب من ضروب التغيير المؤثرة، وهو مما لا يعجز عنه أحد أبدا.
وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخاذ هـذا السبيل في واقعة الذين تخلفوا عن غزوة العسرة : ( وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ... ) الآية (التوبة: 118) .
وقد وصف " كعب بن مالك " ما كان من تلك القطيعة البالغة الأثر وصفا فيه الهداية إلى المنهاج الأمثل في سبيل تغيير المنكر بالقلب [2] .
إن مجرد عدم الرضا القلبي عن المنكر وصاحبه، لغير كاف في تغيير المنكر، ولا يعد صاحبه مغيرا، ولذلك سمى النبي صلى الله عليه وسلم هـذا الفعل القلبي تغييرا نظرا لثمرته، التي ينبغي أن تنبثق من هـذا الكره القلبي.
( عن عبد الله بن مسعود ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل، فيقول: يا هـذا، اتق الله، ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم، ثم قال : ( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك [ ص: 113 ] بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون ) (المائدة: 78-81) .
ثم قال: كلا، والله لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، ولتقصرونه على الحق قصرا ) .
وفي رواية زادت: ( أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم ) [3] .
ففي هـذا آيات باهرات على أن من التغيير القلبي، مقاطعة أصحاب المنكر وترك مخالطتهم،وذلك الذي لا يعجز عنه أحد، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم هـذا التغيير " أضعف الإيمان " ولهذا الحكم عدة وجوه من المعنى أعلاها :
إن تكاليف هـذا السبيل من التغيير أضعف تكاليف الإيمان، فكل من تلبس بالإيمان هـو قادر عليه. ولذلك جاء قوله هـذا مناظرا لقوله ( فإن لم يستطع ) في الضربين الأولين : التغيير اليدوي واللساني، فكأنه قال فليغيره بقلبه، وهذا يستطيعه كل مسلم،لأنه أضعف الأيمان. وهو يتناسق من وجه مع قوله في رواية أخرى: ( وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ) ، أي وليس وراء هـذا التكليف من تكاليف الإيمان حبة خردل، فهو أخفها وأيسرها.
وعلى هـذا لا يكون قوله : ( وذلك أضعف الإيمان ) وصفا بالضعف لإيمان من عجز عن التغيير اليدوي أو اللساني، ولكنه قام بحق التغيير القلبي، [ ص: 114 ] بل هـو وصف بالضعف واليسر، لما كلف به من عجز به، من عجز عن التغيير اليدوي واللساني، أي ما كلف به من تكاليف الإيمان ضعيف يسير، لا يعجز عنه أحد أبدا.
لأن من عجز عن التكليف الأعلى، وقام بحق التكليف الأدنى، لا يوصف إيمانه بأنه ضعيف، بل إيمانه قوي. فمن عجز عن الصلاة قائما وصلى جالسا صلاة تامة، لا يوصف إيمانه بالضعف، بل يوصف ما كلف به بأنه أيسر مما كلف به غيره وأضعف ثقلا .. فالإيمان لا يوصف بالضعف، إلا إيمان من ترك ما هـو قادر عليه، وأما من عجز عن أمر، وقام بحق ما استطاعه، فإنه لا يوصف إيمانه بضعف، وإن وصفت تكاليف ما قدر عليه بأنها أضعف من تكاليف ما عجز عنه.
ويذهب جماعة إلى أن هـذا وصف لثمرة هـذا التغيير القلبي، فقوله : ( أضعف الإيمان ) أي أقله ثمرة [4]
، وهو مقبول، إذا ما ناظرنا ثمرة التغيير القلبي بثمرة التغيير اليدوي واللساني من وجه، وإن كانت ثمرة هـذا التغيير القلبي قد تكون مع بعض المنكرات أعظم أثرا من غيرها، ولذلك فعلها النبي صلى الله عليه وسلم مع الذين تخلفوا عن غزوة العسرة.
المعنى الذي أذهب إليه : إنه وصف لتكاليف التغيير القلبي، وليس وصفا لثمرته أو وصفا لإيمان فاعله القائم بحقه، العاجز عن التغيير اليدوي واللساني.
والتغيير القلبي للمنكرات على النحو الذي كشفنا عن حقيقته : كره قلبي، تصاحبه استجابة سلوكية لمقتضياته، إنما هـو فرض عين على كل مسلم ذكرا أو أنثى أيا كان وضعه في العلم والجهل، والغنى والفقر، الصحة والمرض، فهو لا يسقط عن أحد مادام مكلفا. [ ص: 115 ] وهو ملازم لما هـو أعلى منه تكليفا، فمن استطاع التغيير اليدوي لزمه معه أيضا التغيير القلبي، وكذلك مستطيع التغيير اللساني يلزمه التغيير القلبي على النحو الذي شرحناه.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن التارك للمنكرات فعلا وقولا لكنه يخالط أهلها، وغير غاضب لله عز وجل بشأنها، إنما هـو من أهل المنكرات أيضا، لا يقل عنهم شناعة إثم واستحقاق عقوبة.
( عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أوحى الله عز وجل إلى جبريل ـ عليه السلام ـ أن اقلب مدينة كذا وكذا بأهلها، قال : يا رب إن فيهم عبدك فلانا لم يعصك طرفة عين، قال، فقال : اقلبها عليه وعليهم، فإن وجهه لم يتمعر في ساعة قط ) [5] .
والناظر في حال كثير من الناس، يرى تخليا عن جميع مراتب تغيير المنكر وسبله : التغيير اليدوي، واللساني، والقلبي، ولا يعين أحدا على شيء من ذلك التغيير. بل ترى كثيرا من العامة يبتهجون بمعرفة وصحبة المتمرسين بالمنكرات، ويفتخرون بمعرفتهم أو مشاهدتهم ومصافحتهم ومعرفة دقائق أخبارهم، هـذا ما تراه في حال كثير من العامة مع أصحاب المنكرات المجاهرين بها الساعين إلى إشاعة الفاحشة في الأمة عن عمد وتآمر مع أعداء الأمة من الماسونيين والصهيونيين والماركسيين والعلمانيين .
إن الإعجاب بالطواغيت والمحاربين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأهل الفسق والفاحشة، ليكاد يشيع في شبيبة الأمة وشيبها، مما يكاد ينزل بها من الله عز وعلا، من اللعن والغضب، مالا يبقي ولا يذر. [ ص: 116 ]