الفصل الثالث نماذج من التربية الوساطية
كانت القرون الثلاثة الأولى، فترة ذهبية بالنسبة للمنهج التربوي التوحيدي، ففيها تأسس، وفيها تطور عبر مراحله، وفيها طبق أحسن تطبيق، فكان من نتائجه، تخرج أفضل الأجيال الإسلامية على الإطلاق...إلا أن القرن الثالث الهجري، كان قد عرف دخول الثقافات الأجنبية، المنافسة للمذهبية الإسلامية، حيث نشطت الترجمة لنقل كتب المنطق، والفلسفة اليونانية، مما أدى إلى ظهور وساطات فكرية، وعقيدية في فهم الإسلام، حيث ظهرت بدعة مساواة الحقيقة القرآنية للحقيقة الفلسفية، فشرع الفلاسفة الإسلاميون في بناء المشروع التلفيقي بين الدين والفلسفة.
فكان أول فيلسوف مشائي في الإسلام، هـو أبو يوسف الكندي المتوفى سنة 206 هـ. وكان أن تأثرت كثير من العلوم الإسلامية بالثقافة المنطقية اليونانية، كعلم العقائد (الكلام) وأصول الفقه، مما كان له أثر على سلامة التدين الشعبي، ولكن السيطرة الواسعة للمنهج الوساطي، لم تكن إلا ابتداء من القرن الرابع الهجري.
أما الثالث، فقد كان مرحلة النشأة، وظل من الناحية التربوية الشعبية، خاضعا لمنهج أهل السنة والجماعة، الورثة الحقيقيين للمنهج التوحيدي النبوي، كما تبين فرغم ظهور فتنة خلق القرآن، في القرن [ ص: 27 ] الثالث الهجري، فقد وجد من يتصدى لها من العلماء التوحيديين الأفذاذ، كالإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وقصته في ذلك مشهورة.
وابتداء من القرن الرابع، صارت المناهج الوساطية، هـي التي تقود تدين الجماهير، تصورا، وممارسة، وصار التفكير التربوي مرتبطا بالوسائط الفكرية، والروحية، على السواء، وتقوى المنهج الفلسفي مع أبي نصر الفارابي ، المتوفى 339 هـ، فالتدين – في معظمه – صار من الناحية العقدية يؤخذ عبر وساطة العقائد الكلامية، معتزلية
[1] كانت، [ ص: 28 ] أو أشعرية ، أو غيرها، ولم يبق الاستمداد المباشر من القرآن والسنة، في طرحهما البسيط للعقيدة الإسلامية، وإنما صار التكلف في التصورات العقدية، هـو المسيطر على التدين العام، خاصة بعد تبني كثير من الفقهاء للعقيدة الأشعرية، التي انتشرت في الأوساط في القرن الرابع، وما بعده، إذ توفي رائدها أبو الحسن الأشعري سنة 324 هـ. فالاعتزال كان مرفوضا من لدن الجماهير المتمسكة بأئمة التوحيد كأحمد بن حنبل .
ولكن ما أن تبني الفقهاء عقيدة الأشعري، حتى صارت الأشعرية هـي عقيدة التدين العام، في غالب الناس... يقول الدكتور أبو ريان : " ولهذا فقط ارتضى غالبيتهم تعاليم هـذا المذهب، وكتب له أن يظل سائدا بينهم، فترة طويلة من الزمن، محققا انتصارا ساحقا على سائر المذاهب الأخرى [2] ، واعتبر المذهب الأشعري هـو مذهب أهل السنة والجماعة، في المجال العقدي بلا منازع [3] ،
[4] . [ ص: 29 ]
كما جمد التفكير الاجتهادي المستقل في المجال الفقهي، واتخذت اجتهادات أئمة الفقه، في القرون السابقة، وسائط للتدين العام من الناحية العملية، وترسخت المذهبية في كل الأوساط تقريبا، وتعصب كل فريق لآراء إمامه، لا يحيد عنها أبدا... فصار الرجوع في الأمور العلمية، لا إلى قول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ولكن إلى قول أبي حنيفة ، أو مالك ، أو الشافعي ، أو أحمد بن حنبل ، وغيرهم. [ ص: 30 ]
قال الدكتور أبو سليمان ، بعد أن بين توقف الاجتهاد المطلق في هـذا القرن، وانتهاء عصر الابتكار والتجديد: وتبع هـذا شيوع التعصبات المذهبية، والتزام مذهب بأكمله كالشافعي ، أو الحنفي ، في كل المسائل وتحريم الانتقال من مذهب إلى آخر... فبعد أن كان مريد الفقه، يشتغل أولا بدراسة الكتاب، ورواية السنة اللذين هـما أساس الاستنباط، صار في هـذا الدور يتلقى كتب إمام معين، ويدرس طريقته التي استنبط بها ما دونه من الأحكام، فإذا أتم ذلك صار من العلماء الفقهاء، ولا يستجيز الواحد منهم لنفسه أن يقول في مسألة من المسائل قولا يخالف ما أفتى به إمامه " [5] .
وقد ترسخ التدين الوساطي، في المجال الفقهي، في القرون التالية، حيث أضيف إلى الوساطة العقدية، والوساطة الفقهية، وساطة أخرى ثالثة في المجال الروحي، وهي الوساطة الصوفية، وذلك حينما تبنى كثير من العلماء أفكار الغزالي في القرن الخامس الهجري، فصار السلوك يتبنى عبر وسائط الشيوخ، وأذواقهم الخاصة في الغالب، قال الدكتور علي سامي النشار : " بدأ التصوف باستنباط حياة زهدية من القرآن والسنة: سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وسنة الصحابة ثم كان تصوفا، ثم أصبح التصوف علما... وقد احتضن الأشاعرة مذهب الخلف منذ ابي حامد الغزالي [6] .
وهكذا صارت الأمة منذ القرن الرابع الهجري لا تتدين على مستوى الجمهور، إلا عبر وساطات فكرية، أو روحية... فالفكرية تشمل [ ص: 31 ] المجالين العقدي الكلامي، والفقهي الاستنباطي، والروحية تتعلق بالمجال الصوفي الطرقي، فصار تأطير الناس تربويا يخضع في الغالب للوساطات، في تكوين التصور العقدي، والتصرف العملي، والسلوك الروحي... وكان القرن الرابع الهجري وما بعده حتى بداية القرن السابع مرحلة ازدهار المنهج التربوي الوساطي، حيث لم يختلف القرنان الخامس والسادس في طبيعتهما عن القرن الرابع، فما ترسخ بهذا القرن، هـو الذي بقي ساريا فيهما. يقول الدكتور أبو سليمان : الحركة العلمية في هـذين القرنين: الخامس والسادس الهجري، امتداد طبيعي للمد العلمي، والحركة الثقافية النشيطة في القرن الرابع الهجري، بل إن بعض المؤرخين للعلوم والآداب يعدون الفترة الواقعة ابتداء من القرن الرابع الهجري حتى القرن السابع الهجري، دورا تاريخيا واحدا [7] ، وكذلك كان الأمر بالنسبة للمجال التربوي الذي هـو انعكاس للوضع الثقافي السائد، فالوساطة التربوية التي ترسخت في القرن الرابع، ما ازدادات إلا ترسخا فيما بعد.. وتفصيل ذلك، حسب نوعي الوساطة، هـو كما يلي: [ ص: 32 ]