كان ابن باديس مدرسة أخلاقية بسلوكه وتصرفاته ومعاملاته، وكانت أقواله ونظرياته صورة صادقة لواقع حياته، وعصارة خالصة لأعماله ومعتقداته.
كان رحمه الله نموذجا صادقا وصورة حية لتلك المبادئ التي طالما نادى بضرورة العودة إليها، من أجل إنقاذ شعبه وإسعاده.. وكان أسوة في التواضع والتسامح ونكران الذات، وكذلك كان في الصرامة والشجاعة والثبات.
تأثر الشيخ ابن باديس كثيرا بأخلاق شيوخه الذين تلقى عنهم العلم، خاصة أستاذه الأول الشيخ (حمدان الونيسي) ، الذي طبع حياته بطابع روحي وأخلاقي لم يفارقه أبدا، فكان لذلك تأثير كبير على منهاجه التعليمي والتربوي.
وسوف أتبع في هـذا العرض أسلوب التدليل بالوقائع والأحداث على ما تميز به الشيخ ابن باديس من سمات شخصية، وأثر ذلك على دعوته ومنهجه التربوي.
1 - التواضع والتقشف
اشتهر رحمه الله بالزهد والانصراف عن متاع الدنيا. ورغم أن عائلته كانت من سراة قومه، ووالده كان من أعيان مدينته، إلا أنه في شخصه [ ص: 124 ] كان متقشفا، مخشوشنا، متواضعا تواضع العلماء العارفين، فكان بذلك أكثر قربا من العامة لا من الخاصة. وصدق الشاعر حين قال:
إن التواضع من خصال المتقي وبه التقي إلى المعالي يرتقي [1]
يروى أنه خرج من مقصورته بجامع (سيدي قموش) بقسنطينة ذات يوم، فطلب من أحد أصدقائه أن يبحث له عمن يشتري له نصف لتر من اللبن، وأعطاه آنية، فرآها ذلك الصديق فرصة لإكرام الشيخ، فذهب بنفسه إلى الشواء واشترى له صحنا من اللحم المختار، وعاد إلى الشيخ وهو يكاد يطير من شدة الفرح، ولـما قدمها إليه استشاط غضبا، وقال لـه في لهجـة شديـدة صـارمـة: (ألا تعلـم أنني ابـن مصطفـى ابن باديس، وأن أنواعا مختلفة من الطعام اللذيذ تعد كل يوم في بيته، لو أردت التمتع بالطعام، ولكن ضميري لا يسمح لي بذلك، وطلبتي يسيغون الخبز بالزيت، وقد يأكله بعضهم بالماء) [2] .هـذا نموذج واحد من موقف الشيخ ابن باديس سردناه للتدليل على ما ذكرنا من التواضع والتقشف في حياته، ويمكن أن نستخلص من ذلك ما يلي:
أ - أن الشيخ ابن باديس كان عالما ربانيا، عازفا عن الدنيا وملذاتها، متواضعا لله تواضع العلماء العارفين. [ ص: 125 ]
ب - أن المهمـة التي انتصب إليهـا، وهي تربيـة الجيل وتعليمـه، قـد غلبت على نفسه، وهيمنت على قلبه فتفرغ لها تفرغا زهده في الملذات التي يطلبها الناس، والمتع التي يفرط في السعي وراءها الكبار والصغار.
2 - الحلم والتسامح
وهو من أبرز صفات الأنبياء والرسل، وقد أوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان يقول: ( رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) (رواه مسلم) ، كذلك سار علماء السلف والخلف على هـذا الهدي في الحلم والتسامح، فكانوا خير من حمل إلينا هـذه الأخلاق العالية والصفات السامية. عن عطاء بن يسار قال: ما أوتي شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم [3] .
وللإمام ابن باديس رحمه الله سجل حافل، وتاريخ زاخر، بهذه المعاني الإسلامية السامية.
فقد توافرت في شخص الإمام صفات العالم العامل، الذي يخاطب عقول المسلمين وقلوبهم، صائغا إليهم هـذا الدين في أحسن صورة، لذلك كان موضع سخط السلطات الاستعمارية وأعوانها.
يروى أن إحدى الجماعات الصوفية المنحرفة التي ضاقت ذرعا بمواقف ابن باديس، أوعزت -بتنسيق مع سلطات الاحتلال- إلى نفر من أتباعها باغتيال الشيخ عبد الحميد، ظنا منها أن في اغتياله قضاء على دعوته، غير أن الغادر الذي هـم بهذه الجريمة لم يفلح في تنفيذها، ووقع [ ص: 126 ] في قبضة أعوان الشيخ، وكانوا قادرين على الفتك به، إلا أن أخلاق الإمام العالية جعلته يعف [4] ويعفو [5] ، وينهى أصحابه عن الفتك به، متمثلا قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. )
فرحم الله الشيخ ابن باديس، ما أحلمه من داع ومرب، عاش لدعوته، فملكت عليه نفسه، حتى أصبح محل إعجاب العدو قبل الصديق!!
3 - الشجاعة والصرامة في الحق
لئن كان الشيخ ابن باديس في كثير من مواقفه لينا من غير ضعف، فهو في الحـق صـارم.. وحين تخـور العزائـم، فهـو شجـاع شجاعـة من لا يخاف في الله لومة لائم، ولا غطرسة ظالم متجبر.
تجسدت هـذه الخصال في مواقفه العديدة مع سلطات الاحتلال، ومن ذلك موقفه مع وزير الحربية الفرنسي (دلادييه) ، أثناء ذهاب وفد المؤتمر الإسلامي إلى باريس في 18 يوليو 1936م، حيث هـدد الوزير الفرنسي الوفد الجزائري وذكرهم بقوة فرنسا، وبمدافعها بعيدة المدى قائلا: (إن لدى فرنسا مدافع طويلة) ، فرد عليه ابن باديس: (إن لدينا مدافـع أطـول) ، فتسـاءل (دلادييه) عـن أمـر هـذه المدافـع؟ فأجـابـه ابن باديس: (إنها مدافع الله) [6] . [ ص: 127 ]
فقد كان رحمه الله جريئا في غير تهور، شجاعا في غير حمق، يطرح مواقفه، ويعرض قضايا الأمة ومشكلاتها، وكله استعداد للبذل والتضحية، غير مبال بصولة المستعمر وظلمه، متمثلا قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إن من أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ) [7] .
4 - الاعتراف بالخطأ والرجوع إلى الحق متى تبين
التواضع خلق متأصل عند ابن باديس، فكما أنه عرف بتواضعه في حياته الاجتماعية، فهو كذلك في حياته العلمية، ويتجلى ذلك بوضوح في منهجه التربوي والتعليمي الذي سلكه طوال حياته.
ولم يكن ذلك حرصا على مدح مادح، أو تجنبا لقدح قادح، بل كان ابتغاء رضوان الله تعالى، وذلك هـو درب الصالحين، إذ لا يعيب الداعية والمعلم على الخصوص أن يقول قولا ثم يرجع عنه إلى غيره، متى بدا له وجه الصواب فيه، فالحق دون غيره هـو مطلبه وبغيته.
سئل رحمه الله مرة عن مسألة فقهية، فأفتى فيها بغير المشهور [8] .
، ولما تبين له الصواب رجع إليه، ونبه على ذلك الخطأ وأورد الصواب في مجلة (الشهاب) [9] ، وقد كان يكفيه أن يوضح تلك المسألة للسائل فحسب، وعلل صنيعه ذلك قائلا: (أردت أن تكون لكم درسا في الرجوع إلى الحق) ، وأضاف موضحا: (تركت لكم مثلا أنه إذا كان [ ص: 128 ] الإنسان عالما، يجب عليه أن يعيش للعلم) ، وصدق الله القائل: ( قل هـل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب ) (الزمر:9) .. وابن باديس في هـذه الوقفات الصادقة، وهذا الوضوح في المنهج، ينطلق من قناعته العميقة بأهمية القدوة الحسنة في حياة الدعاة، وهو ما يجعل الناس يشعرون بصدق الداعي، ومن ثمة يتقبلون دعوته، ويكونون من جنوده وأنصاره.
5- حسن استغلاله للوقت
ومما تميز به ابن باديس رحمه الله، حسن استغلاله للوقت، فهو منظم في عمله، دقيق في توزيع وقته على المهام العديدة التي يقوم بها.
كان مدركا لقيمة الوقت، وضرورة استغلاله، والاستفادة من لحظاته، وتظهـر نظرته هـذه واضحـة فـي سيـاق تفسيـره لقـول الله تعـالى: ( أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ) (الإسراء:78) ،
فيقول: (في ربط الصلاة بالأوقات، تعليم لنا لنربط أمورنا بالأوقات، ونجعل لكل عمل وقته، وبذلك ينضبط للإنسان أمر حياته، وتطرد أعماله، ويسهل عليه القيام بالكثير منها. أما إذا ترك أعماله مهملة غير مرتبطة بوقت، فإنه لا بد أن يضطرب عليه أمره، ويشوش باله ولا يأتي إلا بالعمل القليل، ويحرم لذة العمل، وإذا حرم لذة العمل أصابه الكسل والضجـر، فقل سعيـه وما كان [ ص: 129 ] يأتي به من عمل على قلته وتشوشه، بعيدا عن أي إتقان) [10] .
وليس عجيبا أن يهتم مصلح مثل ابن باديس بالوقت هـذا الاهتمام الكبير، وهو الذي يقول عند تعليقه على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ. ) [11] .
: (عمر الإنسان أنفس كنز يملكه، ولحظاته محسوبة عليه، وكل لحظة تمر معمورة بعمل مفيد، فقد أخذ حظه منها وربحها، وكل لحظة تمر فارغة فقد غبن حظه منها وخسرها، فالرشيد هـو من أحسن استعمال ذلك الكنز الثمين، فعمر وقته بالأعمال.. والسفيه من أساء التصرف فيه فأخلى وقته من العمل) [12] .
بهذه النظرة الصائبة للوقت، نجح ابن باديس في استغلاله أحسن استغلال، فكان يلقي من الدروس في اليوم الواحد ما يعجز عنه غيره. يبدأ دروسه بعد صلاة الفجر، ويظل طيلة نهاره يعلم طلبته الدين وعلوم العربية، ولا يقطع دروسه إلا لصلاة الظهر ولتناول الغداء، ثم يستمر إلى ما بعد صلاة العشاء. وكان رحمه الله مع أخـذه بكل ما يستطيع من الأسباب في تأدية رسالته، يلتجئ إلى الله بثقة لا توهب إلا لأولي العزم من الرجال.. ففي إحدى ساعات الشدة والعسرة قال لأحد طلبته: (يا بني إن جميع الأبواب يمكن أن تغلق أمامنا، ولكن بابا واحدا لن يغلق أبدا، هـو باب السماء) [13] . [ ص: 130 ]
هذه العقيدة الراسخة القوية، كانت دافعا له على الثبات والمثابرة، وبهذه العزيمة القوية جاب ابن باديس أرجاء القطر الجزائري على اتساعها، وأنشأ فيها المدارس والنوادي، لتعليم أبناء الأمة لغتهم ودينهم، مدركا بأن العلم أمانة عند العلماء، وهم مكلفون بأدائها لمستحقيها.
فكان حقا حارسا من حراس العقيدة، مدافعا عن الإسلام ولغة الإسلام، ثابتا ثبات الجبال الرواسي، ماض في دعوته لا يثنيه عن ذلك شيء. يؤكد هـذا العزم لإخوانه بقوله: (إني أعاهدكم على أنني أقضي بياضي على العربية والإسلام، كما قضيت سوادي عليهما، وإنها لواجبات... وإنني سأقضي حياتي على الإسلام والقرآن ولغة الإسلام والقرآن، وهذا عهدي لكم) [14] .
لم يكن الهدف من سـرد هـذه السمات، تتبـع مناقب الإمام ابن باديس، وإنها لجديرة بذلك، إنما أردنا توضيح السر في نجاح هـذا المربي في مهمته النبيلة. والواقع أن سمات ابن باديس الشخصية كانت إحدى عوامل نجاحه في جمع كلمة الشعب الجزائري بمختلف فئاته، وتوجيهه توجيها عربيا إسلاميا، وتربية أجيال من أبنائه تربية إسلامية صحيحة.
ويمكننا أن نستنتج مما أوردنا أمرين هـامين:
1 - أن المربي يجب أن يكون قدوة لغيره، بأخلاقه الفاضلة، وأن يترفع عن الشبهات، لأن الناس يتخذونه مثلا يحتذى. [ ص: 131 ]
وعليه كذلك أن يكون مخلصا في عمله، شجاعا في مواقفه، قويا في شخصيته، رؤوفا بطلبته.
2 - أن سلوك المربي وأخلاقه الحميدة، تجعل الناس يطمئنون إليه ويستأمنونه على أبنائهم.
فقد دفع المسلمون في الجزائر بأفلاذهم إلى ابن باديس، دون المدارس الرسمية الحكومية، مع ما تتضمنه من مغريات في الوظائف وغيرها.
وهكذا يتبين لنا أن السمات الشخصية للمربي، لها بالغ الأثر في توفير الوسط الملائم لإنجاح جهوده التربوية، والوصول بها إلى الغايـات العلا.
والحقيقة أن ابن باديس كان ناصعا في تاريخه، سجل في صفحاته كل خير وإحسان.
فقد تميزت مسيرته التربوية الطويلة بتوثيق صلته بالشعب عامة، وجماهير المساجد التي يخطب فيها خاصة، ولا شك أن الناس حينما يشعرون بقرب الداعي منهـم، ومجاملتـه ومشاركته لهم في أفراحهـم وأتراحهم، يعيش بينهم ويرشدهم إلى ما فيه صلاحهم، يحبونه ويثقون به.
وإذا كان كثير مما ذكرناه قد لا يؤثر في طلاب المدارس تأثيرا مباشرا لوقوعه خارج محيط المدرسة، فإن ابن باديس لم يحصر جهوده في ذلك المحيط، بل تعداه ليطال طبقات أوسع من المجتمع، إيمانا منه بأن للعامة حقا في ذلك. [ ص: 132 ]