المبحث الثالث: المعلم في نظر ابن باديس
أدرك الشيخ عبد الحميد بن باديس أن المعلم هـو أخطر ركن في العملية التربوية.. وأي مدرسة تهتم بتحقيق أهداف تعليمية وتربوية معينة، عليها أن تنتقي معلميها بدقة، أو تعدهم وتكونهم التكوين المناسب، لتحقيق تلك الأهداف.
وأن المعلم الصالح، غزير المعرفة، واسع الثقافة، العارف بنفسية المتعلمين، الملتزم بآداب التعليم، المتصل بالحياة الاجتماعية، عامل أساس في إنجاح العملية التربوية.
فمهمـة التدريـس على قدر كبيـر من الأهميـة بالنسبـة للمجتمـع، ولا يمكن لأية مهنة أخرى أن تضاهيها في ذلك.
غير أن واقع التعليم في عصر ابن باديس، كان يفتقر لكثير من مقوماته الأساسية خاصة تلك المتعلقة بالمعلمين، يقول الشيخ واصفا ضعف مستوى المعلمين في عصره، سواء في ثقافتهم العامة، أو إلمامهم [ ص: 145 ] بفروع المعرفة التي يقومون بتدريسها: (إنه ليقل في المتصدرين للتدريس، من كبار العلماء في أكبر المعاهد، من يكون قد ختم كتب الحديث المشهورة كالموطأ والبخاري ومسلم ونحوها، مطالعة، فضلا عن غيرهم من أهل العلم، وفضلا عن غيرها من كتب السنة) [1] .
الحقيقة أن المستعمر الفرنسي كان يدرك جيدا أهمية الرسالة التي يقوم بها قطاع التعليم وخطرها عليه، فحرص جاهدا لإفراغه من محتواه، ومحاربة القائمين عليه، إلا من عرف أنهم لا يحركون ساكنا ولا يوقظون نائما، ممن لا يفقه كتابا ولا سنة.
يصف ابن باديس أولئك بقوله: (فالعلماء -إلا قليلا منهم- أجانب أو كالأجانب من الكتاب والسنة، من العلم بهما والتفقه فيهما، ومن فطن منهم لهذا الفساد التعليمي الذي باعد بينهم وبين العلم بالدين، وحملهم وزرهم ووزر من في رعايتهم، لا يستطيع -إذا كانت له هـمة ورغبة- أن يتدارك ذلك إلا في نفسه.. أما تعليمه لغيره فإنه لا يستطيع أن يخرج فيه عن المعتاد، الذي توارثه عن الآباء والأجداد، رغم ما يعلم فيه من فساد وإفساد) [2] .
ثمة آفة أخرى قد أصابت التعليم، ساهم في وجودها الجهل من جهة، والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية من جهة أخرى، هـي استغلال هـذه الوظيفة للحصول على أغراض ومطامع دنيوية، خاصة لدى القراء ومعلمي القرآن. [ ص: 146 ]
يقول ابن باديس مشيرا إلى تلك الآفـة: (وكثيـر مـن قـراء زماننـا لا يقصدون من حفظه إلا التوسل به للتلاوة على الموتى بأجرة، ونحو ذلك من الأغراض الدنيوية المحضة) [3] ولا يتناول هـذا الذم من يأخذ الأجرة على تعليم القرآن، إذا كانت في مقابل تعبه وشغل وقته، ولم يتخذ تعليمه صناعة من الصناعات المادية المحضة.
يميز ابن باديس بين من يتخذ تعليم القرآن لأغراض دنيوية، وبين من يرجو بذلك مرضاة الله، فيقول: (على هـذا المعلم -إن أراد السلامة من ذلك الذم- أن يكون هـو نفسه عاملا بكتاب الله، وأن يقصد من تعليمه الدعوة إلى العمل به) [4] .
وكان ابن باديس في نفسه، قدوة لأولئك المعلمين، فلم يكن يأخذ أجرا مقابل ما يقدمه لطلبته من دروس، محتسبا أجر ذلك عند الله، ولا شك أن تأثير المعلم على تلاميذه يكون أقوى إذا عف وابتعد عن أخذ الأجر.
ولم يكن لابن باديس في بداية دعوته برنامج لإعداد المدرسين وتكوينهم في معاهد خاصة، فقد استعان في ذلك بالطلبة المتفوقين، أو الذين تخرجوا من بعض الزوايا المشهورة، مثل زاوية الهامل [5] وغيرها.
وبعد اشتداد عود الحركة الإصلاحية، أرسل ابن باديس البعثات العلمية إلى الجامعات والمعاهد العليا في البلاد الإسلامية، مثل جامع [ ص: 147 ] الزيتونة، والجامع الأزهر، وغيرهما، استعدادا لما ينتظر الأمة في مستقبل أيامها. وتبدو سعة أفق ابن باديس ونفاذ بصيرته، في تركيزه على تكوين المربين، فقد يستغنى عن الكتاب وعن أبنية المدرسة، ولكن لا يمكن الاستغناء عن المعلم.
لذلك رأى ابن باديس أن إصلاح المعلم وإعداده، إصلاح للمتعلم، بل تصويب للعملية التربوية برمتها.
إن دور المعلم لا يقتصر على توصيل العلم من الكتب إلى عقول المتعلمين، وختم البرنامج الدراسي في نهاية الفصل، بل يتعداه إلى بناء شخصية المتعلم، وتنمية عقله، وتهذيب سلوكه، وإعداده لمشاركة القوى الحية في المجتمع.
والخلاصة: أن ابن باديس أكد على أهمية دور المعلم في العملية التربوية، وأن صلاحها مرتبط بصلاحه، وعليه فإن من أهم صفات المربي المسلم في نظره، أن يكون متمكنا من العلوم والفنون التي يدرسها، ملما بمبادئ فن التعليم، قادرا على تفهم نفسيات المتعلمين، وأن ينزه العلم عن المطامع الدنيوية، عاملا بعلمه، صادقا في عمله.
وبمقدار سمو هـذه الرسالة وشرف الهدف وعظيم المسؤولية، يكون الإعداد.
فالمنهج والمعلم عنصران رئيسان في العملية التربوية، وكلاهما مسخر لخدمة المتعلم وتثقيفه، وتنشئته التنشئة الصالحة. بهذه النظرة الواقعية أدرك ابن باديس الدور المتميز الذي يلعبه المعلم في إنجاح العملية التربوية وتطويرها. [ ص: 148 ]