المبحث الخامس : رعاية الطلبة الموهوبين
(الشباب نتيجة الماضي، وزهرة الحاضر، وآمال المستقبل، وعدة الحياة) [1] .. فهو أهم حلقات الوصل في مسيرة الأمة، وهو الجيل الذي يناط به أمل النهوض بالأمة من كبوتها، والأخذ بيدها من عثرتها.. والتركيز على إعطائهم ما يستحقون من عناية وتربية وتجارب، وتعهدهم بالنصح والتقويم، لهو في صدارة اهتمامات وانشغالات رجال التربية.
وما جهود الشيخ عبد الحميد بن باديس في هـذا المضمار، إلا استجابة واعية، نابعة من معرفته العميقة بظروف مجتمعه والتيارات التي تتجاذبه والعوامل النفسية والاجتماعية التي تضغط عليه، فكانت إصلاحاته موفقة وتوجيهاته راشدة.
وسأتناول في هـذا المبحث بعض آراء الشيخ ابن باديس حول ضرورة احترام شخصية المتعلمين ومراعاة الفروق الفردية بينهم، على أن أتناول [ ص: 153 ] آراءه الخاصة بالجوانب الأخرى من شخصية المتعلم، في الفصل القادم عند الحديث عن أساليب التربية أو الوسائل المعنوية للتربية.
- احترام شخصية المتعلم عند ابن باديس
يظهر ذلك في تشجيعه لطلبته ومريديه على إبداء آرائهم في المسائل المختلفة التي يدرسونها، واستخدام تفكيرهم لفهم ما أشكل منها، وكان ابن باديس يحرص طوال مسيرته التربوية على احترام شخصية المتعلمين وتقوية عزائمها، وبعثها لنيل درجات العلا، رافضا بشدة أساليب التقنيط والتحقير التي كانت تمارس على المتعلمين، لخطورة ما يترتب علـى ذلك مـن جمـود وانحطـاط. يقـول ابـن باديـس موضحـا ذلك: (إن النفوس عندما تشعر بحرمتها وقدرتها على الكمال، تنبعث بقوة ورغبة وعزيمة لنيل المطلوب، وعندما تشعر بحقارتها وعجزها، تقعد عن العمل، وترجع إلى أحط دركات الهبوط) [2] .
ويبين خطورة التحقير والتقنيط على نفوس الأفراد والجماعات فيقول: (إن التحقير والتقنيط وقطع حبل الرجاء، قتل للنفوس، نفوس الأفراد والجماعات، وذلك ضد التربية والاحترام والتنشيط.. وبعث الرجاء إحياء لها، وذلك هـو غرض كل مرب ناصح في تربيته) [3] . [ ص: 154 ]
وفق هـذه النظرية الدقيقة لنفسية المتعلم، نادى ابن باديس بضرورة مراعاة الجوانب النفسية للطلبة، إضافة إلى مراعاة الجوانب العقلية والاجتماعية.
- مراعاة الفروق الفردية للمتعلمين
" قال الإمام علي رضي الله عنه : حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله [4] . "
" وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ما أنت محدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة [5] . "
ومن المسلم به وجود تباين في مستوى الذكاء والفهم والحفظ بين المتعلمين، فمنهم المتفوق ومنهم المتوسط ومنهم الضعيف، وواجب المدرس أن يساعد كل واحد منهم حسب استعداده، وتشجيعهم على تحسين مستواهم وفق أفضل طرق التحصيل. وقد حرص ابن باديس على ضرورة مراعاة تلك الفوارق، بحيث لا يبخس الموهوبين حقهم، ولا يفرط في الذين دونهم.
فخص النبهاء الأذكياء بحصص إضافية تتلاءم وما يمتلكون من مواهب وقدرات، وحرص على تعليم وتفهيم الذين دونهم ببذل الجهد [ ص: 155 ] وتبسيط الأمور لهم. وحول طريقته في التعامل مع الطلبة الموهوبين، يقول ابن باديس: (رأيت أن لهم الحق أن يـأخذوا حظهم من التربية والتعليم على وجه يناسبهم، فأسست لهم درسا يوم الأحد من كل أسبوع، يلقى على جماعة منهم في الساعة العاشرة نهارا، وعلى جماعة أخرى في الساعة الثامنة ليلا، حتى يعم من يتفرغون له بالليل ومن يتفرغون له بالنهار) [6] .
ومن عنايته بضبط أمور الطلبة، كان يرى ضرورة أن يجعل على كل جماعة من الطلبة عريف يضبط أمورهم ويراقب سيرتهم [7] .. والعريف هـو الصبي الذي أظهر تفوقا في العلم، يقوم بتعليم الصبيان، وقد أجاز الفقهاء هـذه الطريقة في التعليم: سئل مالك عن المعلم يجعل للصبيان عريفا ؟ فقال: إذا كان مثله في النفاذ [8] .
ويتضح مما سقناه، أن ابن باديس أدرك أهمية مراعاة الفروق الفردية بين المتعلمين، وضرورة التعامل معهم وفق استعدادهم وقدراتهم العقلية والفكرية، معطيا لكل ذي حق حقه. [ ص: 156 ]