ثانيا: بين الدعوة والدعاية والإعلام
إنه على الرغم من أن تكنولوجيا المعلومات، ونظريات الاتصال، وبحوث الرأي العام، وتقنيات البث المباشر، وغير ذلك من المصطلحات العلمية والمهنية، كانت غير معروفة مع بزوغ نور الدعوة الإسلامية في الصدر الأول للإسلام، إلا أن الحقائق العلمية والممارسات العلمية تؤكد أن الإسلام دين دعوة، والدعوة ما هـي إلا نشاط إعلامي يخاطب العقل، ويستند إلى المنطق، ويجادل بالحجة، ويعمل على الكشف عن الحقيقة.
وإذا كان يحلو للبعض التفريق بينهما حين يقصدون بالدعوة نشر الإسلام بالوسائل التقليدية، ويعنون بالإعلام استخدام وسائل الاتصال الإلكترونية الحديثة، فإنني أعتقد أن هـذا تجن على الإعلام كما هـو تجن على الدعوة، لأن الإعلام يعني تزويد الجماهير بالأخبار الصحيحة والمعلومات السليمة والحقائق الثابتة، باستخدام كافة الوسائل القديمة منها والحديثة.. والإعلام إذا صح أداؤه وحسن عمله، فإنه يحقق للدعوة الانتشار والفاعلية، ويحقق التأثير المستهدف، فالإسلام والدعوة يحملان نفس المعنى على الصعيدين النظري والعملي. [ ص: 65 ]
وإذا استعرضنا التعريف العلمي للإعلام نجد أنه يتطابق مع مفهوم الدعوة بمعناها الأصيل، وطالما أن الدعوة هـي خطاب إلى العقل يستند إلى المنطق، ويقوم على الصراحة، ويرفض الكذب والتلاعب بالألفاظ، منطقها المناقشة التي تؤدي إلى الإقناع، فإنها إذن نشاط إعلامي، ولكنه إعلام من نوع خاص، إنها الإعلام بالرسالة.
إلا أن الدعوة بمعناها الأصيل تختلف عن الدعاية بمفهومها الحديث، على الرغم من أن الأصل اللغوي لكل منهما واحـد، لأن الدعايـة كثيـرا ما تستند إلى الخيال، وتعمل على فرض وجهة نظرها، مستهدفة من وراء ذلك إخفاء وجهة النظر الأخرى.. وتستغل الدعاية سلبية الناس، وتعمل على تخديرهم، ولا تحفل بإيقاظ عقولهم أو إشراكهم في الأمر، وقد تشوه الحقائق أو تضخمها أو تبترها، وليست الدعوة هـكذا، بل إنها تنأى بنفسها عن أن تنهج هـذا النهج [1] وكثيرا ما تلجأ الدعاية إلى الكذب والمبالغة في القول وبث الشائعات، معتمدة في ذلك على التعبيرات البراقة والصيغ المحفوظة، وقد ينهـج العاملـون بالدعايـة نهجا لا يتفـق مع الأخلاق والمثـل العليـا، ولا يهمهم إلا تحقيق غايات معينة، مع التضحية بكل شيء في سبيل تحقيق هـذه الغايات، وهي تخاطب الغرائز والمشاعر وتثير الانفعالات، [ ص: 66 ] وتتوجه إلى الخيال للوصول إلى موقف ما، كان من الممكن الوصول إليه بصورة طبيعية.. وقد اكتسبت الدعاية هـذه المعاني والأوصاف بعد الحرب العالمية الثانية، حين شوه أدولف هـتلر معناها في حربه الدعائية ضد الحلفاء على يد وزير دعايته جوبلز، فتحت منحى آخر خرج بها عن أهدافها النبيلة.
وعلاقة الإعلام بالدعوة تختلف عن علاقته بالعديد من العلوم والفنون الأخرى، حيث إن علاقته بالدعوة هـي علاقة من نوع خاص، فالإعلام هـو المحرك الرئيس الذي تدور به قافلة الدعوة، ومن خلاله تتحقق أغراضها، ومن ثم فإن الفصل بين النشاط الدعوي والنشاط الإعلامي يجافي الحقيقة، ومن ثم فنحن نؤكد على وحدة النشاطين.
والإعلام ليس مجرد نشاط ترفي أو نشاط إخباري فقط، كما يظن بعضهم، لأن الإعلام إذا كان يحفل بالترفيه والإخبار، فإنه يهتم بالتثقيف والتعليم وبناء الإنسان وتكوين الرأي العام.. والذين يربطون الدعوة بالدعاية، فإنهم يتجاوزون الحقيقة.. وفي الحقيقة أن الخطط الإعلامية في المجتمعات الإسلامية لن يكتب لها النجاح المطلوب في غيبة دعم دعوي وتأييد روحي من رجال الإعلام، لأنهم قادة الرأي في هـذه المجتمعات، وهم قادرون على تحقيق النجاح لهذه الخطط أو إفشال نشاطها، وهؤلاء يطلق عليهم خبراء الإعلام: حراس البوابات الإعلامية، [ ص: 67 ] لأنهم هـم الذين يسمحون بمرور ما يقتنعون به، ويمنعون ما لا يتفق مع فكرهم ورؤاهم، وفي نفس الوقت فإن الخطط الدعوية لن يتحقق لها الانتشار المطلوب في غيبة وسائل الإعلام الحديثة، لأنها في حاجة إلى شبكات إذاعية، وقنوات فضائية، وصحف دولية، لنقلها وتعميمها.
وكيف لرسالة الإسلام أن تغفل هـذه الثورة المعاصرة في التقنيات والفنون والقوالب الإعلامية، بعد أن أصبحت القوة الإعلامية هـي القوة المسيطرة، والقادرة على تحقيق النصر في معركة التحديات التي تواجه الدعوة الإسلامية ا وفي الحقيقة أن إهمال هـذا الطوفان الهائل من المعلومات التي تحملها وسائل الإعلام، وعدم الاهتمام بآلياتها، يعد هـروبا من الواقع الذي يفرض نفسه علينا.
وفي ضوء ما تقدم نود أن نؤكد أن وسائل الاتصال ليست حكرا على الإعلاميين وحدهم، ولكنها حق للدعاة، بل أكاد أقول: إن دعادة الإسلام يجب أن يقتحموا هـذا المجال، دراسة وتدريبا وتعليما وممارسة، حتى يمكنهم توظيف المستخدمات العصرية لصالح الدعوة الإسلامية، كما أن الأخلاقيات الإسلامية لا يجوز أن يختص بها الدعاة وحدهم، فالإعلاميون في العالم الإسلامي، لا بد أن يلتزموا في نشاطهم بالأصول العقديـة بدلا من الاجتهادات التي قـد تبعـدهم عـن كتـاب الله وسنـة رسوله صلى الله عليه وسلم. [ ص: 68 ]