ثالث عشر: إشكالية اللغة العربية في وسائل الإعلام
تعتبر اللغة أهم أدوات التعبير والتفاهم بين الناس، وهي نتاج لثقافة الأمة، وتشتمل على الكلمات والتعبيرات التي تسمي الأشياء وتصف الأفكار والعلاقات والقيم، وقد اختص الله الإنسان دون سائر الفصائل الحيوانية الأخرى بالقدرة على التعبير اللغوي، لأنه يتميز عن الكائنات الأخرى بطائفة من المراكز المخية، كمركز إصدار الألفاظ، ومركز حفظ الكلمات المسموعة. [ ص: 152 ]
وتأتي اللغة في مقدمة عوامل الحفاظ على الهوية، لأنها السبيل لفهم الأشياء، والطريق لربط أفراد الأمة بعضهم ببعض.
ونظرا لأن اللغة العربية ملازمة لدين الله الخاتم، خصها الحق جل وعلا بحمل معني كتابه الكريم كما أن الثقافة السلامة في صميمها ثقافة عربية اللسان، ضيعت بلسان من استقبلوا دعوتها، وحكموا بشريعتها، فإن الحملات والمؤامرات التي تشنها الأجهزة والمؤسسات المعادية لإفراغها من محتواها لا يهدأ لها بال، مستهدفة من وراء ذلك فك التلازم القائم بين اللغة العربية والدين الإسلامي.
ومن الغريب أن بعض المثقفين العرب يجنح إلى التقليد، مفتونا بما شاهده في الغرب من بريق حضاري، مما ساعد على شيوع الألفاظ والعبارات الأجنبية التي أسهمت في هـدم وتحريف الكثير من الكلمات العربية.
ثم رأينا هـؤلاء يوجهون سهامهم إلى اللغة العربية التي نزل بها الكتاب العظيم ويطالبون بتعميم بعض لغات العالم لتكون هـي اللغة الأم، بدعوى أنها لغة العلم التي تحمل معارف وثقافات لا تستطيع لغة العرب التعبير عنها، وصياغة معانيها ومفرداتها. ومنهم من يتهم العربية بالعجز، وعدم القدرة على الاستجابة للمستجدات العصرية في مختلف العلوم والفنون، ويدعي هـؤلاء أن التخلف الذي أصاب المجتمع الإسلامي إنما يرجع إلى قصور اللغة العربية، وعدم قدرتها على نقل ما جادت به [ ص: 153 ] القرائح والعقول عند الأمم الغربية المتحضرة، وبناء على ذلك فهم يطالبون أهل العربية أن يتركوا هـذه اللغة، ويبحثوا لهم عن لغة أخرى حتى يلحقوا بركب الحضارة، ويتفهموا المتغيرات الجديدة التي فرضت نفسها على إنسان اليوم، ويتعايشوا مع التطور السريع الذي يسود العالم المتقدم.
وهي نفسها مقولة الاستعمار القديم والحديث، الذي ظل يسعى بكامل طاقته إلى إضعاف هـذه العربية، ليسهم في انصراف المسلمين عنها، حتى تنقطع الصلة بينهم وبين جذورهم وتراثهم، مستهدفين من وراء ذلك النيل من القرآن الكريم ذاته.
فهل أصبحت لغة العرب – التي علمت العالم بالأمس- عاجزة عن مسايرة التقدم الذي يسود العالم اليوم؟ هـذه اللغة التي يشهد لها الخبراء والمفكرون بأنها تمتاز عن سائر اللغات بالقدرة على إيصال المعاني بأقصر الطرق، كما تتميز بالسعة والمرونة والوضوح والدقة في قواعد النحو والصرف،
يقول الحق جل وعلا: ( إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ) (يوسف:2) ..
ويقول سبحانه: ( كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون ) (فصلت:3)
ولقد أدى الابتذال واستخدام بعض الألفاظ والكلمات الهابطة، التي تتردد على ألسن الممثلين والضيوف ومقدمي البرامج في وسائل الإعلام، وعدم الحفاظ على الحد الأدنى من الأصول والقواعد اللغوية، إلى تحجيم [ ص: 154 ] اللغة العربية، والاستخفاف بقواعدها وإهمالها، والترويج للسوقية، وشيوع الكلمات والمصطلحات غير اللائقة [1] وانتشرت الدعاوى التي تطالب باستعمال العامية بدلا من الفصحى، بحجة أن الفصحى لا تلبي احتياجات الجماهير العريضة من المواطنين، وقد أسفر هـذا الوضع عن اللامبالاة بقواعد اللغة، وعدم الاهتمام بأصولها، كما أدى إلى وقوع الخطأ في مفرداتها بصورة واضحة في البرامج والفقرات والمقالات وغير ذلك من المواد الإعلامية، مما أصبح ينذر بخطر محدق، يتمثل في إهدار اللغة الأم.
وتشير الإحصاءات والدراسات العلمية في هـذا الصدد، إلى إن وسائل الإعلام أسهمت إسهاما كبيرا في إيذاء العربية، فإذا استعرضنا برامج وفقرات الإذاعة والتلفزيون في معظم البلاد العربية، لوجدنا أن نسبة ما تبثه بالعامية – وبلهجة رجل الشارع- تزيد كثيرا على ما يقابله بالفصحى، ولا سيما في مجال الأعمال الدرامية والمنوعات، التي يندر فيها استعمال الفصيح من اللغة.
ومن ثم فإن هـذه الوسائل تتحمل مسئولية محورية في الحفاظ على اللغة العربية، وتقويم اللسان العربي ورعايته، وتصحيح الأخطاء، وحماية الجماهير من الانحراف بها، لأنه إذا ظلت أجهزة الإعلام تهمل الأداء الصحيح للغة العربية فسيبلغ الانهيار مداه. [ ص: 155 ]
ولتلافي هـذا الزلل، وتطلعا لتحقيق الأمل في الارتقاء بالمستوى اللغوي للجماهير، يصبح على أجهزة الإعلام أن تأخذ على عاتقها ما يلي:
1- حسن اختيار اللفظ والعبارة، ومراعاة الكلمة الصحيحة التي تستطيع الجماهير استيعابها وفهم مقاصدها، والابتعاد عن الألفاظ المبتذلة الغريبة، وعن الإسفاف في اختيار الكلمات الهابطة لعرض المعاني، وعدم التكلف في صياغة النصوص الإعلامية، ومراعاة مستوى أفهام الجماهير حتى يقبلوا على العربية الصحيحة، ولا ينفروا منها.
2- الالتزام بقواعد وحدود اللغة، حتى تأتي النصوص الإعلامية المختلفة معدة على وجه معقول، ومنظومة بصورة تخلو من التنافر والشذوذ، وهذا يفرض على الإعلاميين التمكن من قواعد اللغة، والسيطرة على معانيها، والقدرة على نظام الكلام، ومراعاة الغرض المقصود منه، وهو ما يشار إليه بوجوب مطابقة الكلام لمقتضى الحال [2]
3- الاهتمام بفن الإلقاء، والقدرة على النطق السليم للغة العربية، والتعامل الصحيح مع ألفاظها وحروفها بطريقة صحيحة، بهدف ترسيخ هـذه العادة لا سيما لدى الأطفال الذين يكتسبون عادات النطق الحديث وفن القول لأول مرة، لأنه سيكون من الصعب اقتلاع ما تعلموه سابقا، وما اعتادوا عليه سلفا، سواء أكان ذلك خطأ أم صوابا. [ ص: 156 ]
4- الوضوح والبساطة، وتناول مختلف القضايا بأسلوب عربي مبين يمكن المستويات الجماهيرية المختلفة من الفهم والاستيعاب ومتابعة ما ينشر وما يبث دون صعوبة.
5- تضييق المسافة بين لغة الخطاب ولغة الكتاب، وإتاحة مختلف السبل أمام الفصحى لتتسرب في كل مكان، وليكون لها السلطان في التعبير الإعلامي [3] لقد أصبح من الأهمية بمكان تلافي السلبيات، التي تؤدي إلى انتشار الأخطاء اللغوية في وسائل الإعلام العربية، التي أصبحت بمثابة المدرسة التي يتعلم منها كل الناطقين بالضاد في مشارق الأرض ومغاربها، ولن يتم ذلك إلا بوضع خطة جادة تستهدف تصحيح اللسان العربي في وسائل الإعلام المختلفة.