المبحث الثاني: دور المرأة في نقد الروايات
تمهيد
إن معرفة ديننا، الذي هـو عصمة أمرنا وسبيل فلاحنا في دنيانا وآخرتنا، موقوفة على معرفة سننه والصحيح من آثاره والعمل به، وبما أن القرآن العظيم قد كتب له البقاء والحفظ إلى يوم القيامة [1] ، وشريعته خالدة أبدا، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بالتبليغ عنه [2] وذلك تأكيدا لخلود الرسالة واستمرار سنته وشريعته، لكنه عليه الصلاة والسلام حد حدودا ووضع ضوابطا لمضمون التبليغ وكيفيته.. فكما رغب عليه الصلاة والسلام في التعليم وحث على الرواية، حذر أيضا من الكذب عليه، وبين عواقبه في ( قوله عليه الصلاة والسلام : من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ) [3] .. وقد وصلنا هـذا التحذير الشديد عن طريق تواتر عجيب [4] يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن حديثه سوف يروى وأنه يدخل فيه السقيم.. وإزاء هـذه الحقيقة، [ ص: 169 ] نبه صلى الله عليه وسلم أصحابه والمؤمنين من بعدهم إلى أن الحديث عنه دين، ويجب أن يتحروا فيه غاية التحري. فنتج عن ذلك وبفضل جهود حفاظ السنة ما يسمى بنقد الحديث.
تعريف النقد
لا يتم التحري والاحتياط في الرواية إلا بنقد الأحاديث المضافة إلى النبي صلى الله عليه وسلم نقدا علميا لمعرفة صحيحها من سقيمها، لئلا يدخل في الإسلام ما ليس منه [5] .
النقد في اللغة
يقال: نقدت الدراهم وانتقدتها، إذا أخرجت منها الزيف، وناقدت فلانا إذا ناقشته في الأمر [6] .
النقد في اصطلاح المحدثين
يمكن تعريفه بأنه تمييز الأحاديث الصحيحة من الضعيفة، والحكم على الرواة توثيقا وتجريحا.
فإذا اعتمدنا هـذا التعريف، نشير إلى أننا في هـذا المبحث معنيون بالشطر الأول من التعريف، أي النقد من جهة تمييز الأحاديث الصحيحة من الضعيفة، أما الحكم على الرواة توثيقا وتجريحا فهو موضوع المبحث التالي: دور المرأة في الجرح والتعديل. [ ص: 170 ]
الحاجة إلى نقد الأحاديث النبوية
أ- لا يخفى على أحد المكانة العليا التي تحتلها السنة النبوية الشريفة، إذ هـي الأصل الثاني بعد القرآن الكريم، ومصدر من مصادر التشريع الإسلامي والفقه، وهي شارحة لكلام الله، مبينة له.
وقد علم هـذا كله الصحابة الكرام، كما عرفوا ضرورة الحفاظ عليها، فسلكوا مسلك الحيطة الشديدة في قبولها من الآخرين، والتأكد من صحتها قبل أن يحدثوا بها عن النبي صلى الله عليه وسلم مخافة أن تبدل كلمة بكلمة، فيدخلوا في عموم التحذير من الكذب، ومخافة أن تكون روايتهم ذريعة إلى ذلك
[7] .
ب- ثم جاءت الفتنة لتحيي في بعض النفوس المريضة التي أظهرت الإسلام النعرات البغيضة، وتثير فيهم الحقود الدفينة، فعمدوا إلى الدس والكذب، وإثارة الشبهات متخذين من الاختلافات الاجتهادية السياسية بين الصحابة مطايا للتشويش على عوام الناس.. وبتقادم الزمن وبعد العهد من الرسول صلى الله عليه وسلم طالت الأسانيد وقويت [ ص: 171 ] حملات الطعن في السنة، الأمر الذي دفع علماء السنة إلى الفحص على النقلة والبحث عن أحوالهم، ليؤخذ بكلام الصادقين ويعمل به، ويرمى كلام الكاذبين ويدفن، أو يروى فيبين ويشهر [8] .
جـ- إضافة إلى ذلك، فإن الأحاديث قد يدخلها السقيم من الروايات، ويكون ذلك راجعا إلى النسيان والغفلة، فالإنسان يخطئ وقد يكون هـذا الخطأ بالنسيان أو بالعمد دسا وكذبا، وتبقى النتيجة واحدة بالنسبة لصدق الحديث وكذبه، لذلك لزم تنقية الأحاديث من شوائب الأخطاء بأصنافها، وهذا تقصاه العلماء الأفذاذ شعورا منهم بالمسئولية في الذب عن الدين عموما، وأداء لواجب نبيل يتعبدون به الله تعالى، ولذلك قال الإمام مسلم: فإن كان الراوي لها ليس بمعدن للصدق والأمانة، ثم أقدم على الرواية عنه من قد عرفه ولم يبين ما فيه لغيره، ممن جهل معرفته، كان آثما بفعله ذلك، غاشا لعوام المسلمين [9] .
وقد دعت مجموعة هـذه الأسانيد المحدثين إلى أن يبحثوا عن أحوال الرواة، وجعلوا بينهم وبين من يتصدى للرواية ( الإسناد ) [10] ، [ ص: 172 ] ووضعوا قواعد لنقد السند وأخرى لنقد المتن وكشف العلل فيهما، بناء على منهج شامل لكافة جوانب الحديث.
بدايات نقد الأخبار
في الواقع بدأ البحث والتنقيب في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته [11] كأولى خطوات النقد، حيث بدأ على شكل سؤال واستفسار لدى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، كان من باب الاستظهار والاستيثاق للوصول للطمأنينة القلبية، لكنها كانت على نطاق ضيق
[12] جدا، لأن الصحابة ما كانوا يكذبون ولا يكذب بعضهم بعـضا
[13] ، حتى إذا قبض الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وكان لزاما على أمته أن تتمسك بسنته الشريفة، [ ص: 173 ] عرف عن بعض الصحابة التحرز الشديد في قبول الأخبار [14] .. فالصحابي كان شديد الحرص والتمسك بما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أخذه من فعله مباشرة دون واسطة، إذ لا تداني هـذه الرواية أية رواية أخرى في قوة الثبوت والتأكد، لكن قد يقع للصحابي أن يسمع من صحابي آخر حديثا عن النـبي صلى الله عليه وسلم ، فيـتوقف فيه حيث لا يراه منسجما مع ما فهمه من معاني القرآن الكريم وما سمعه هـو من فم النبي صلى الله عليه وسلم ، وهنا إما أن يتوقف الصحابي في الرواية مجرد توقف سرعان ما يزول إذا تعدد من سمع نفس الرواية [15] ، وإما أن ينكرها إطلاقا، حملا لها على سهو الناقل وخطئه ووهمه [16] .
كما قام بالنقد عدد من الصحابة في حياة عمر وبعد وفاته، وأضافوا قواعد للنقد، ومن هـؤلاء أم المؤمنين عائشة . [ ص: 174 ]
أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ونقد الروايات
أ- خصائصها العلمية في النقد
امتازت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالذكاء والفهم وكثرة الرواية، وكانت تفسر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بين يديه لمن لم يفهم، كما كانت طلعة كثيرة السؤال، لا يهدأ لها بال حتى ترضي طمأنينتها وتجلو لنفسها كل خفي مما يحيط بها [17] .. فقد أوردت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأسئلة في كل ما يمر بها من موضوعات في الفقه والقرآن الكريم والأخبار والمغيبات، وفيما يعرض له من أحداث وخطوب.... (وهذا شأن المرء ذي الطبيعة العلمية، كلما عظم حظه من المعرفة كثر تطلعه إلى ما فوقه، أما الجاهل فليس بمعني أن يسأل، فإذا أصاب من المعرفة حظا ما بطريق العرض، كان أبعد الناس على أن تطلب نفسه مزيدا أو تحدثه بسؤال يسأله....) [18] .
لهذا فإن قائمة الذين عرفوا بنقد الراويات محدودة، سجلت أسماء لامعة أنعم الله عليهم بالخصائص التي تؤهلهم لأن يمعنوا النظر في النصوص ويقلبوها على عدة وجوه، ويتفحصوا الظاهر والباطن ليميزوا الخبيث من الطيب، وشاء الله تعالى أن يخلد اسم عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم مع هـذه الأسماء، ومقامها في هـذا مقام الأستاذ لما قدمت من صحة النظر، وصواب النقد، وحضور الحفظ، وجودة النقاش. [ ص: 175 ]
ب- منهجها رضي الله عنها في نقد الروايات
كان يصل إلى مسمع السيدة عائشة عن بعض الصحابة روايات وأحكام على غير وجهها، فتصحح لهم ما أخطـأوا فيه أو خفي عليهم، حتى عرف ذلك عنها، فقد استدركت على بعضهم ضياع أول الكلام عليهم أو آخره، واستدركت على كثيرين فهمهم للحديث أو خطأ استنباط حكم من آية، وكان الناس يقعون منها في كل ذلك علـى علـم غزيـر وفهم حصيـف ورأي صـائب، ولا غرابة فقد كانت عائشة الملجأ الأخير الذي ترفع إليه مسائل الخلاف والروايات وأحكام الشريعة لتصحيحها والقضاء فيها بالقول الفصل.
وبعد تتبع استدراكاتها على الصحابة في القضايا المختلفة، يمكن الوصول إلى رسم الخطوط الأساسية لمنهجها في رد الروايات وتصحيحها وتصويبها، وبيان خاصها من عامها، وإيراد سبب الورود فيها.. وقد استخلصنا في هـذا معالم لمنهجها نوجزها ونجملها في النقاط التالية:
أولا: معارضة الروايات بالنصوص القرآنية
أكثرت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من استعمال هـذا المنهج، وحكمت في ضوئه على الراوي بالخطأ، ولا يهمنا هـنا أن نبحث عن مدى صحة نقدها وكيف أجيب عن اعتراضاتها، لكننا نبحث عن منهجها في النقد فقط.
وقد استخدمت رضي الله عنها هذا المنهج بأشكال مختلفة، [ ص: 176 ] ولكنها كانت تأتي بالآية القرآنية لتؤيد بها ما ذهبت إليه في تصحيح الرواية أو ردها أو بيان خصوصيتها ودلالة معانيها.. ونورد هـنا بعض الأمثلة لتوضيح هـذا:
- تصحيح الرواية ببيان الخصوصية ثم تأييدها بالآية
كما في نقد رواية: ( ولد الزنى شر الثلاثة. ) [19] ، التي يرويها أبو هـريرة، فقد عابت السيدة عائشة على أبي هـريرة تعميمه لهذه الرواية، وغفلته عن سبب الورود الذي قيل فيه الحديث، فسمعه على غير وجهه، فأكدت أن الحديث لم يكن على هـذا إنما ( كان رجل من المنافقين يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من يعـذرني من فـلان؟ قيل: يا رسـول الله إنه مع ما به ولـد زنـى، فـقال: (هو شـر الثـلاثـة ) ، والله تعـالى يقـول: ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) (الأنعام:164 ) [20] .
كذا ما رواه أبو هـريرة في ولد الزنى، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( قال: لأن أمتع بسوط في سبيل الله أحب إلي من أن أعتق ولد الزنى ) [21] ، فقد عابته عائشة أيضا على أبي هـريرة، وبينت سبب الورود وأنه ( لما نزلت: ( فلا اقتحم العقبة * وما أدراك ما العقبة * فك رقبة ) (البلد:11-13) ، قيل: يا رسول الله، ما عندنا ما نعتق، إلا أن أحدنا له الجارية السوداء، تخدمه وتسعى عليه، لو أمرناهن [ ص: 177 ] فزنين، فجئن بأولاد فأعتقناهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لأن أمتع بسوط في سبيل الله، أحب إلي من أن آمر بالزنى، ثم أعتق الولد ) [22] ، وأكـدت رد الروايـة عـلى هـذا الوجـه بأنـها مخالفة لقوله تعالى: ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) (الأنعام:164) . فعائشة لم تكتف في ردها الرواية ببيان سبب الورود الذي لعله يكون كافيا في إظهار المراد، لكنها قرنت الحجة بالحجة، وجاءت بكلام الله تعالى مؤيدا لما تراه في هـذا الموضوع أو سمعته هـي من فم النبي صلى الله عليه وسلم ، وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يخالف قول الله تبارك وتعالى.
- تصحيح الرواية بجبر النقص فيها وتأييدها بالآية
من ذلك نقدها ( لرواية أبي هـريرة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم : إن الطيرة في ثلاثة، في الدار والمرأة والفرس. ) [23] ، إذ " لما بلغ ذلك عائشة طارت شقة منها في السماء وشقة منها في الأرض، وقالت: (والذي نزل القـرآن على أبي القاسم ما هـكذا كان يقول، ولكن كان نبي الله يقول: كان أهل الجاهلية يقولون: الطيرة في المرأة والدابة والدار ) ، ثم قرأت عائشة قوله تعالى: ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير ) (الحديد:22 " [24] . [ ص: 178 ]
فالسيدة عائشة وهي تنكر على أبي هـريرة هـذه الرواية، بينت أنه لم يحفظ هـذا الحديث على وجهه، لأن ربما دخل والرسول صلى الله عليه وسلم يحدث بهذا الحديث فسمع آخره، ولم يسمع أوله، وهو أن أهل الجاهلية هـم الذين كانوا يقولون ذلك، وأيدت نقدها لروايته بمخالفتـه الآية القرآنية، إذ المصائب مكتوبـة قـبل أن تخـلق الأرض وما عليها. فأي مبلغ بلغته هـذه العالمة الجليلة في جودة النقاش مع حضور الذهن وسعة الحفظ.
ثانيا: معارضة الروايات بفعل النبي صلى الله عليه وسلم
ونتيجة هـذا المنهج تكون إما برد الرواية مطلقا أو بتصحيحها بجبر النقص فيها.
- رد الرواية
في ( حديث أبي ذر وأبي هـريرة وابن عباس في: أن الصلاة يقطعها الحمار والمرأة والكلب. ) [25] . فقد أنكرته رضي الله عنها إنكارا شديدا " فقالت: شبهتمونا بالحمير والكلاب، والله لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وإني على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة فتبدو لي الحاجة، فأكره أن أجلس فأوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فانسل من عند رجليه. " [26] ، فلقد ارتكزت عائشة في رد الرواية على فعل النبي صلى الله عليه وسلم .. فهل تكون صلاته صلى الله عليه وسلم وعائشة مضطجعة أمـامه باطلة أم أن الرواية لمعنى آخر لا يفهم منه ما فهمه الصحابة؟ [ ص: 179 ]
- تصحيح الرواية بجبر النقص
عن أبي هـريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا ودما، خير له من أن يمتلئ شعرا [27] ، فلما " بلغ عائشة هـذا قالت: لم يحفظ الحديث، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا ودما خير له من أن يتملئ شعرا هـجيت به " [28] ، فقد صححت عائشة في هـذه المسألة النقص الذي في الرواية، ولم تنقدها من حيث متنـها بمخـالفة آية أو حديـث نبـوي، وذلك ملحـوظ، إذ لو كان امتلاء الجوف بالشعر كما في ظاهر رواية أبي هـريرة، لما أقر النبي صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت على قول الشعر، حتى إنه ليوضع له منبر في المسجد لهذا.. ويدل على أن هـذا ملحوظ في ردها، كونها أحد من رواه من الصحابة، ويحتمل أنها استشهدت بذلك في نقدها لمتن رواية أبي هـريرة ولكن لم ينقل لنا [29] .
ثالثا: معارضة حديث بحديث آخر
وفيه أن أم المؤمنين قد ترد حديثا لأنه يتناقض مع حديث آخر، مكتـفية بهذا أو تـرد روايـة بـروايـة أخـرى في نفس الحديث، ولكنها تأتي بالمرجح سواء كان عقليا أو متناسبا مع ما هـو معلوم من الدين بالضرورة. [ ص: 180 ]
- مثال معارضة حديث بحديث
وفيه رد أم المؤمنين رضي الله عنها لرواية أبي هـريرة مرفوعة: ( من لم يوتر فليس منا. ) [30] ، فلما بلغها ذلك قالت: من سمع هـذا من أبي القاسم صلى الله عليه وسلم ؟ ما بعد العهد وما نسينا، إنما قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم : من جاء بالصلوات الخمس يوم القيامة حافظا على وضوئها ومواقيتها وركوعها وسجودها لم ينتقص منهن شيئا، كان له عند الله عهد ألا يعذبه، ومن جاء وقد أنقص منهن شيئا فليس له عند الله، إن شاء رحمه وإن شاء عذبه. [31] ، وهنا تقابل هـذه الرواية عن الوتر، لا بآية قرآنية، بل بحديث نبوي آخر، وهو يجعل الصلوات الواجبة خمسا، ولو صح إيجاب الوتر لأصبحت ست صلوات، وهو مخالف لنص الحديث.
- مثال معارضة رواية برواية مع الإتيان بالمرجح
وهذا كما في نقدها رواية ابن عمر: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم. ) [32] ، فقد بينت عائشة أن ابن عمر قد غلط في روايته، وأتت بالرواية على الوجه الذي تعلمه صحيحا وجاءت بالمرجح العقلي، هـو أن مؤذن الفجر ينبغي أن يكون بصيرا، ليرقب انفجار الفجر الذي تتعلق به الأحكام، بخلاف مؤذن [ ص: 181 ] الليل الذي لا يشترط فيه أن يكون مبصرا، لأن أذانه لا تتعلق به الأحكام، وكان ابن أم مكتوم كفيف البصر وكان بلال مبصرا، فأيهما أولى أن يكون مؤذنا للفجر؟ وفي هـذا قالت رضي الله عنها : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن ابن أم مكتوم رجل أعمى، فإذا أذن فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال. ) [33] ، قالت: (وكان بلال يبصر الفجر) ، وكانت عائشة تقول: (غلط ابن عمر) [34] .
هذه بعض الطرق التي كانت تتخذها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في نقد الروايات، وتصويبها، بعرض الرواية الراجحة والتدليل عليها بحجة خارجية سواء كانت آية أو حديثا أو فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وإذا تتبعنا هـذا المنهج نراه يعتمد على الفهم الحصيف والنظر الحصيف في متن الحديث مع سعة الحفظ.
وهكذا كانت أم المؤمنين مدرسة مميزة في نقد الروايات، المبني على قواعد متينة في فن معارضة الروايات الذي ازدهر في القرون المتأخرة، فحصل لها شرف الأولوية والإبداع، فكانت بذلك قدوة حية لكافة النساء عبر العصور، تبين أن الله تعالى قد أودع أيضا في النساء من القدرات والملكات العلمية والاجتهادية ما إن وظفتها نبغت نبوغا عاليا، وقدمت ما لا يستطيعه كثير من الرجال... وفعلا كانت النساء [ ص: 182 ] يرقبن علم عائشة وينهلن منه وينفعهن الله تعالى بفقهها وفتواها ونظرها الثاقب الواعي في النصوص الشرعية قرآنا وسنة، فخلفت بتربيتها لكثير من النساء نخبة عالمة من تلميذاتها.. إذ سجلت لنا النصوص مساهمات بعضهن في تمحيص ونقد الروايات، وبيان دلالاتها الحقيقية.. ونورد هـنا بعض النصوص ذات الدلالة البينة والضمنية:
- المثال الأول: في حديث ( فاطمة بنت قيس : أن المطلـقة ثلاثـا لا سكنى لها ولا نفقة. ) [35] قد أنكر على فاطمة هـذه الرواية عمر وعائشة ... من الصحابة [36] ، لكن فاطمة كانت متمسكة بروايتها وتدافـع عنـها منتـقدة من يرى أن المبتوتة لها السكنى وليس لها النفقـة بقولها: بيني وبينكم كتاب الله،
قال الله تعالى: ( فطلقوهن لعدتهن ) ... ( لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ) (الطلاق:1) ،
قالت: فأي أمر يحدث بعد الثلاث [37] كما كانت تقول معارضة لمن يرى أن لها السكنى: فكيف تقولون: لا نفقة لها إذا لم تكن حاملا، فعلام تحبسونها [38] - المثال الثاني: كن نساء يبعثن إلى عائشة بالدرجة فيها الكرسف فيه الصفرة، فتقول: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء، [ ص: 183 ] تريد بذلك الطهر من الحيض، فلما بلغ ابنة زيد بن ثابت [39] ، أن نساء يدعون بالمصابيح من جوف الليل ينظرن إلى الطهر، قالت: ما كان النساء يصنعن هـذا، وعابت عليهن [40] وعليه نصل إلى أن المرأة المسلمة لم تكن بعيدة حتى عن مجال النقد، فإذا كانت سيدة المحدثات لها باع طويل في هـذا الفن، فلا غرابة أن توجد من حذت حذوها رضي الله عنها إذا توفر لها من المؤهلات الذاتية والمكتسبة ما توفر لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها . [ ص: 184 ]