المطلب الثاني: الألفاظ ذات الصلة بالملكة الفقهية
من الألفـاظ ذات الصـلة بالملكة الفقهية: البصيرة، والحكمة، والاجتهاد.
1- البصيرة
البصيرة لغة: من بصر وهو العلم بالشيء، ويقال: بصرت بالشيء بصرا علمت. ويقال: هـو بصير به، وجمع بصيرة بصائر [1] . والبصيـرة في الاصطـلاح: (قـوة للقـلب المنور بنور القدس، يـرى بها حقـائق الأشيـاء وبواطنـها) ، فهي بمثـابة البصر للنفس يرى به صور الأشياء وظواهرها [2] . وبعبارة موجزة هـي: (قوة القلب المدركة) [3] وعرفها العسكـري بأنها: (تكامـل العـلم [ ص: 58 ] والمعرفة بالشيء) [4] .
فالبصيرة تأتي بمعنى الملكة العلمية، فهي أعم من الملكة الفقهية. وقد أشـار القـرآن إلى ذلك، قـال تعـالى: ( قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ ) (الأنعام:104) .
2- الحكمة
الحكمة لغة: من الحكم وهو المنع. سميت الحكمة بذلك، لأنها تمنع صاحبها من أخلاق الأرذال [5] .
والحكمة في الاصطلاح: تطلق على عدة معان منها: العدل، والعلم، والحلم، والنبوة، والقرآن، والإنجيل، والسنة، والفقه بالدين، والعمل به [6] . وقد رجح الإمام مالك أن الحكمة هـي الفقه في الدين، حيث قـال: (الذي يقـع في قلبي أن الحـكمة هـي الفقه، ومما يتـبين ذلك أن الرجل تجـده عاقلا في أمر الدنيا ذا نظر فيها وبصر بها ولا علم له بدينه، وتجـد آخر ضعيـفا في أمر الدنيا عالما [ ص: 59 ] بأمر دينه بصيرا به، يؤتيه الله إياه ويحرمه هـذا، فالحكمة الفقه في دين الله) [7] .
والفقه في الدين هـو معرفة أسرار الأمور وفقه الأحكام، وبيان المصلحة فيها، والطريق إلى العمل بها، وهو يبعث على العمل والالتزام، كما أن العمل يوصل إلى الفقه في الدين، أو طرق الاستدلال، ومعرفة الحقائق ببراهينها، وهي طريقة القرآن [8] .
فالحكمة تأتي بمعنى الملكة الفقهية، لأنها تنشأ عند الإنسان بأمرين، هـما:
الأول: نـور يقذفـه الله في قلب العـالم المسلم، ويؤيد ذلك قوله تعالى: ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) (البقرة:269) .
والثاني: بالاكتسـاب، ويؤيـد ذلك مـا روي عن عبـد الله بن مسعود قال: ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هـلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها ويعلمها ) [9] . فالحكمة تكتـسب بالعـلم، " قال [ ص: 60 ] ابن مسعود : نعـم المجلس مجـلس تنـشر فيـه الحكمة، وترجى فيه الرحمة " [10] .
3- الاجتهاد
الاجتـهاد لغة: من الجهد، أصـله المشـقة، ثم يحمـل علـيه ما يقاربه، يقال: جهدت نفسي وأجهدت.. والجهد الطاقة.
والاجتهاد في الاصطلاح [11] : (استفراغ الفقيه الوسع ليحصل له ظن بحكم شرعي) [12] .
فالاجتهاد الفقهي عملية عقلية، يقصد منها تحصيل الحكم الشرعي، سواء عن طريق النظر في الأدلة التفصيلية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، أو عن طريق النظر في نصوص إمام المذهب، فيرجح ويخرج وينقل المذهب كما قال الدهلوي : (حقيقة الاجتهاد هـو استفراغ الجهد في إدراك الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية الراجعة كلياتها إلى أربعة أقسام: الكتاب والسنة والإجماع والقياس. ويفهم من هـذا أنه أعم من أن يكون استفراغا [ ص: 61 ] في إدراك حكم ما سبق التكلم فيه من العلماء السابقين أولا، وافقهم في ذلك أو خالف، ومن أن يكون ذلك بإعانة البعض في التنبيه على صور المسائل، والتنبيه على مآخذ الأحكام من الأدلة التفصيلية، أو بغير إعانة منه.. فما يظن فيمن كان موافقا لشيخه في أكثر المسائل، لكنه يعرف لكل حكم دليلا ويطمئن قلبه بذلك الدليل، وهو على بصيرة من أمره، أنه ليس بمجتهد ظن فاسد) [13] . والاجتهاد هـو معرفة الحكم الشرعي بدليله ولو كان متبعا لغيره في الحكم، فإذا وصل الفقيه لهذه المرحلة كان ذا ملكة فقهية.. فالاجتهاد والملكة الفقهية متقـاربان، ويؤيد ذلك أنه يشـترط لهما أن يكون الشخص فقـيه النفس بأن يكون شـديد الفهم لمقاصد الكـلام. ولأن الفقيه من اتصف بعلم الفقه أو بالاجتهاد، فلا يتصور فقيه غير مجتهد ولا مجتهد غير فقيه على الإطلاق، كما أشار التفتازاني [14] .