ثانـيـا: الأصـالـة
المقصود بالأصالة هنا، ما يتميز به منهج ابن نبي من حيث المرجعية الفكرية والروحية، وما يمتلكه من منهج ومصطلحات. ولعل أول ملاحظة يمكن تسجيلها هي الحضور الخلدوني القوي في كل إنتاجه الفكري، فهناك شبه واضح بين رؤية ابن نبي (رحمه الله) للتطـور الاجتمـاعي وبين رؤيـة ابن خلـدون ، غير أن ابن نبي لا يعتبر تلميذا نبيهالابن خلدون فقط، بل استفاد بطريقة ذكية من التطورات الأخيرة التي وصلت إليها العلوم الاجتماعية. وبالرغم من أن ابن نبي يبدو قارئا ومتأثرا بابن خلدون [1] من خلال المقدمة، فإن تأملاته الفلسفية ورؤيته [ ص: 180 ] للحضارة تذهب إلى أبعد من التراث الخلدوني [2] وما لمسناه في تأمله في سنن التاريخ، وقيام الحضارة وحتى تفسير حركة الحضارة، فإن ابن خلدون يبدو المرجع الفكري الأول لابن نبي دون منازع.
وإذا كان كل مفكر أو كاتب أو باحث ذي منهج ورسالة عميقة يريد تبليغها، فإنه يقدمها بإبداع مصطلحات ومفاهيم ومضامين جديدة، فإن ابن نبي غير مستثنى من هذا. فعلى الرغم من أنه وظـف التـراث الفـكـري السـابـق لـه، خاصة مـن ابـن خلدون، وعلماء الاجتماع، فإن أطروحته جديدة وأصيلة، على مستوى المصطلحات والمفاهيم والمنهج، وما لاحظناه في الفصول السابقة من أدوات تحليلية تبدو متميزة، وفي نسق مترابط، بحيث إنها أدوات مترابطة تشكل المنظور الحضاري، [ ص: 181 ] وإن صح التعبير (المنهج البنابي ) [3] في التحليل وتفسير ظاهرة الحضارة، ومنهجية بنائها. وليس معنى هذا أن أفكار ابن نبي لم يسبقه إليها أحد، وإنما ما يمكن قوله: إن هذه الأفكار موجودة قبله ولكن في صـورة أفكار جزئـية، ولا تشـكل نسـقـا متكامـلا، أو منهجا قائما بذاته.
ولم يسبق في علم الباحث أن وجد عند أي عالم اجتماع أو مؤرخ من مؤرخي الحضارات، توظيفا مترابطا يشكل إطارا متكاملا لكل من الأعمار الثلاثة للمجتمع، والمراحل الثلاث للحضارة، والدورة الحضارية، والعوالم الثلاثة (الأفكار، والأشخاص، والأشياء ) ، وشبكة العلاقات الاجتماعية، والفكرة الدينية المركبة، في نسق تحليلي تفسيري لكيفية عمل القوانين التاريخيـة والنفسيـة والاجتمـاعيـة وتأثيـرها في حـركة المجتمع والحضارة.
إضافة إلى أن أصالة ابن نبي تكمن في وعيه بموقع الإسلام من عملية التغيير التي تنشدها الأمة في بنائها الحضاري، [ ص: 182 ] وأهمية الاستفادة من الخبرة الإنسانية مهما كانت، ولهذا لم يقع فيما وقع فيه الكثير من المفكرين من جلد للذات، أو تحامل على التراث، كما أنه لم يقع في ما أسماه هو نفسه بحالة إخلاص مفرط تدفعه إلى الدفاع غير الواعي عن واقع المسلمين المريض، مما يحجبه عن رؤية الحقيقة الموضوعية. ولهذا لما رأى من المسلمين من وقع في هذه الحالة، حاول التفريق بين الإسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان من حيث هو رسالة الله الخاتمة إلى الناس أجمعين، وبين الحقيقة الموضوعية التي تجعل من المسلمين مثل بقية الأمم الأخرى تسري عليهم سنن الضعف والقوة، ارتباطا بما يقدمونه من جهد بشري في إطار سنن الله في الآفاق والأنفس والتاريخ.
كما أنه فيما يخص التعامل مع الحضارة الغربية عاب على المفكرين المسلمين -كما سبق في الفصل الأول- المواقف الحدية بين من يرى أن الغرب خير كله، وبين من يرى أن الغرب شيطان وشر كله، واعتبر هذه الحالة من مخلفات ثقافة مسلم (ما بعد الموحدين ) المتسمة بالحدية، والتي ترى في الشيء إما أنه طاهر مقدس وإما دنس حقير. ودعا إلى دراسة الحضارة الغربية [ ص: 183 ] باعتبارها ظاهرة خاضعة للدراسة، ولكن في إطار أسمى من الدراسات المقارنة أو المقاربة أو الجدالية، وذلك في إطار دراسة القوانين التي تحكم ظاهرة الحضارة نفسها.
ولهذا يمكن القول: إن ابن نبي على الرغم من أصالة وتميز منهجه، فإنه كان منفتحا على التراث الإنساني في جميع مستوياته.. وعلى الرغم من توظيفه لكثير من مصطلحات علم النفس وعلم الاجتماع والعلوم الطبيعية، والفلسفة، وفلسفة التاريخ، وهي علوم أغلبها تطور في الغرب، فإنه استطاع تطويعها، وتوظيفها ضمن سياق آخر، جعل منها لبنة أصيلة في بنائه الفكري، ومنظوره الحضاري. فهو بهذا الوعي، لا يمكن أن نتهمه بالوقوع في إطار المصطلحات الغربية [4]
ومن جوانب الأصالة في المنهج، أنه يهتم بالأبعاد الاجتماعية الثقافية للظواهر التي يدرسها، فلا ينحو منحى تجريديا بقدر ما يهدف إلى علاج مشكلات ملحة تتصل بالواقع الذي يؤرق المسلمين ويحد من انطلاقهم في تجديد الحياة الإسلامية، ففي (كثير من كتبه، يبدو ابن نبي أنه يدرس معظم [ ص: 184 ] القضايا ارتباطا بالوضعية التي تعيشها الأمة، وذلك من وجهتين كعالم اجتماع وكفيلسوف) [5]
ولعل هذا المنهج التكاملي بين العقل والجسم، بين العلوم الإنسانية ومعطيات الوحي، بين التراث الخلدوني والخبرة الإنسانية المعاصرة، وتوظيف التكامل بين علوم الطبيعة والعلوم الإنسانية، يبدو أنه أعطى له قدرة فكرية كبيرة على تركيب منظومة فكرية واسعة، من كلا الجانبين التاريخي والمعاصر [6] كما أعطاه قدرة على التحليل والبناء المنهجي الهادف بالدرجة الأولى إلى البحث عن حلول لأزمة الحضارة، أكثر من الغوص في الجوانب الفلسفية والأبعاد المعرفية التي رغم أهميتها، ورغم وجودها في فكر ابن نبي، فإنه لم يولها الجانب الأكبر، وهو بسبيل البحث عن القوانين التي تحكم عملية التغيير في الواقع ليقدمها للمسلمين، ليفهموا أن التغيير مهما كان مستواه فإنه يخضع لسنن صارمة، ينبغي التعامل معها، وفقهها، وإلا فإن جهودنا ستبقى تراوح مكانها وتعالج المظاهر دون أن تصل إلى لب المشكلة. [ ص: 185 ]