الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

نحن والحضارة والشهود [الجزء الأول]

الدكتور / نعمان عبد الرزاق السامرائي

حرب الروم والفرس

قضية أخرى يسجلها القرآن النازل في مكة ، ويفرد لها سورة باسم (الروم ) .. وفي ستين آية، تتحدث السورة عن صراع الفرس والروم ،

فيقول تعالى: ( الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (الروم:1-6) .

فالمسلمون المحاصرون بمكة، والواقعون تحت الإرهاق والتعذيب، ينزل عليهم قرآن يتلى إلى يوم القيامة، يتعلق باحتكاك مسلح بين أمتين على أطراف الجزيرة، واحدة صاحبة كتاب (الروم ) ، وأخرى مشركة (الفرس ) ، تكون الغلبة والانتصار من نصيب الفرس، فيحزن لذلك المسلمون وتفرح قريش وتباهي بهذا النصر، ثم لتتخذ منه عبرة فتقول: كما انتصر الفرس وهم مثلنا، على الروم وهم مثلكم، فكذلك سننتصر عليكم، فيأتي وعد من الله بأن النصر سيكون من نصيب الروم، وذلك [ ص: 74 ] في (بضع سنين ) . ويلاحظ أن القرآن غير سالك مثل التوراة في ذكر الأسماء والسنين، وحتى عدد الجنود والمقاتلين، ومع ذلك خرج على سنته، وحدد لفوز الروم بضع سنوات، وعقب على ذلك تعقيبا، وهو الأهم،

إذ قال: ( ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ) (الروم:4-5) .

وهذا درس للأمة إلى قيام الساعة، كي لا تقف موقفا سلبيا لا مبالاة فيه مما يجري في الكون، والشهادة تقتضي ذلك.. وسوف أؤجل بعض الحديث إلى بحث الأهداف الكبرى من خلق الإنسان.

ومما له صلة بالموضوع أن نجد صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم يأمر المسلمين المضـطهدين بمكـة أن يهـاجـروا للحبشة ؛ لأن فيـها ملكا لا يظلم الناس عنده، وتتكرر الهجرة، كما تحاول قريش استرداد المسلمين من هـناك، فيرفض النجاشي ذلك ويمنحهم حماية كانوا بأمس الحاجة لها.

الحديث عن مصير الفرس والروم

ليس من أهداف الإسلام الحديث عن الأمم -كما فعلت التوراة- لكنا وجدنا صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم يتحدث عن أمتين مجاورتين: الفرس والروم، فيصف مصيرهما، كما يصف بدقة علاقة المسلمين بهما، ( يقول عليه الصلاة والسلام : (فارس نطحة أو نطحتان، ثم لا فارس بعد هـذا، والروم ذات القرون، كلما هـلك قرن، خلفه قرن، أهل صبر، وأهله أهل لآخر الدهر، هـم أصحابكم، ما دام في العيش خير ) [1] . [ ص: 75 ]

وفي مسند الإمام أحمد حديث لصاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم ( يقول: (أشد الناس عليكم الروم، وإنما هـلكتهم مع الساعة. ) [2] .

وما حصل بالفعل أن جيوشنا هـزمت الفرس في القادسية ونهاوند ، فقضت على الإمبراطورية الفارسية نهائيا.

أما الروم فقد قذفنا بهم خلف البحر، ويقول أحد مؤرخي الغرب، بأننا اصطدمنا مع الروم (الغرب ) بـ (3700 ) معركة كبيرة، وما زالت المعارك حتى اليوم مستمرة.

ولعـل من تمـام البحث أن نذكر حديثـا سمعـه عمرو بن العاص رضي الله عنه عن الروم، فعلق عليه تعليقا يدل على مدى فهم العرب لجيرانهم الروم، ولمقدار إنصافهم.

فقد روى موسى بن علي عن أبيه قال [3] : ( قال المستورد القرشي ، عند عمرو بن العاص ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تقوم الساعة والروم أكثـر الناس ) ، فقـال له عمـرو: أبصر مـا تـقـول، قـال: أقـول ما سمعت من رسول الله، قال عمرو: لئن قلت ذلك إن فيهم لخصالا أربعا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، [ ص: 76 ] وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: أمنعهم من ظلم الملوك. ) لا نعلم هـل قال هـذا -داهية العرب- من عنده، أم هـو قبس من نور النبوة، وفي كل الأحوال، فهو ينـبئ عن معرفة دقيقة أولا، وعن إنصاف كبير للقوم.

التالي السابق


الخدمات العلمية