الحادي عشر: عامل الثقافة والفكر
ثقافة كل أمة هـو رأسمالها الكبير، من هـنا لا نجد أمة دون ثقافة وفكر، لكن قد نجدها بدون حضارة، وفي عالمنا المعاصر، نجد ملايين من البشر في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية ، لهم ثقافتهم وفكرهم، لكنهم يعيشون خارج (فضاء ) الحضارة، وإن استعملوا واستهلكوا بعض منتجاتها [1] .
1- أعتبر ما تقدم مسلمة، لا تحتاج لجدل كبير، كما أعتبرها القضية الأولى.
2- الثقافة تصنع الولاء أولا، وتمنحه طواعية، دون إكراه.
3- الثقافة تموت أو تـذبل، ومثـلها الفكر، إذا حصل انفصال بين الوعي والواقع.
4- هـناك قوانين في الحياة، يصـعب تجـاوزها أو تجاهلها، فالاستبداد في الحكم يفضي عادة إلى تخلف العقل، والتخلف يؤدي إلى تخلف التربية، وتخلف التربية يقود إلى نقد التراث الديني، وهكذا يحصل دوران في حلقة مفرغة، إذ يجري التنقل من المشاكل الثقافية إلى السياسية إلى التاريخية، دون حسم مشكلة من هـذه المشاكل. [ ص: 143 ]
5- العالم -قديمه وحديثه- يشهد صراعات ثقافية، وغير ثقافية، فإذا وجد تدفق ثقـافي أو (قـصف إعـلامي) ، وعـلى أكثر من جبهة، وعجزت الثقافة المحلية عن المقاومة والاستيعاب، فهنا احتمالان:
أ- أن تتفكك الثقافة الأضعف.
ب- أن تعدل من آلياتها، وتكيف نفسها.
6- كـل ثقـافة وفكر لا بد لـه من (مـرجـعية ) ، فالعقل البشري يصعب عليه العمل دون مرجعية، تمنحه أسسا كي يستند إليها، وإلا حصل انقسام، وتحولت الأمة إلى أمم.
7- هـل يمكن حل كافة الثقافات، ودمجها في ثقافة واحدة؟
إن التاريخ لم يسجـل أن أمة تخلت عن ثقافتها كليا، واندمجت في ثقافـة غيـرهـا، إلا إذا غـيرت دينـها وكـافة معتقداتها، وغيرت لغتها.
8- مهمة الإنسان المثقف العمل لحل مشاكل أمته، فإن تحول إلى مجرد (سمسار ) لثقافة أخرى، فهو يخون بلده وأمته، كما يخون أمانة العلم والثقافة.
إن بعض مثقفي العالم الثالث، اتخذ من العلم والثقافة سلما لتحسين وضعه، والحيازة على أكبر قدر من المغانم، متحالفا مع السلطة، مانحا ظهره لشعبه وأمته. [ ص: 144 ]
9- سلوك الإنسان يجري منبثقا عن فكر وثقافة، والأمة تقيم حضارة كثمرة لعقيدة وثقافة، وكلما كانت العقيدة والثقافة حية، كان التحضر أسرع وأنجز، فإذا تحول الفكر إلى مجرد أحلام، وصارت الثقافة مجرد عرف أو صف كلام، فإن العد التنازلي للحضارة يبدأ ويستمر، حتى تسقط الحضارة، أو تتحول إلى جسد لا روح فيه.
10- يقول (فرانك أنلو ) [2] (راقب أفكارك فإنها تتحول إلى كلمات.. راقب كلماتك فإنها تصبح أفعالا.. راقب أفعالك فإنها تتحول إلى عادات.. راقب عاداتك فإنها تصبح طباعا.. راقب طباعك فإنها ظلال مصيرك ) .
إذا كان هـذا يصدق على الفرد، فهو يصدق على الأمة، فالتاريخ لم يسجل نهضة ولا تحضرا جاء صدفة، دون تخطيط وتصميم، وعمل جاد، يشارك فيه الحاكم والمحكوم على حد سواء.
11- المقصود بالثقافة والفكر: تكوين رؤية شاملة للحياة والوجود والهدف من ذلك؛ لأن التحضر سلوك جماعي، يتجمع في وحدة ثقافية جامعة، تدفع بالأفراد نحو محصلة مشتركة في العمران المعنوي والمادي، وكل هـذا يتطلب نوعا من التجانس يمكن تسميته بـ (الإجماع الثقافي ) ، وهو ما توفره في العادة العقيدة الواحدة، أما الإجماع السياسي، فتوفره قيادة [ ص: 145 ] (كارزمية ) ، ذات مواصفات عالية، وأهداف سياسية مشتركة.
ويمكن أن أقول: إن الأفكار هـي (وقود ) التحضر، وبدونها يصعب قيام تحضر مفيد.
12- الثقافة والفكر قد تكون دينية، متأتية من مصدر سماوي غيبي، حقيقي أو أسطوري، أو فكر بشري، وهنا سنجد أن (الدين ) هـو الأكثر دواما والأقوى، لذا وجدنا الحضارات الكبرى كلها كانت تقوم في أساسها على (دين ) ، أو متطورة عنه، فإن لم تكن كذلك فربما سقطت الحضارة، ومثلها الدولة، دون عدوان خارجي -كما سقط الاتحاد السوفيتي- وفي مدة قصيرة نسبيا.
وأخيرا، الثقافة والفكر مقدمة أو شرط للتحضر، لكن ليس كل ثقافة أو فكر بإمكانها أن تنتج حضارة، إلا أنه لا حضارة بدون ثقافة أو فكر، وأمثل لذلك بأن صحة الصلاة تتوقف على وجود طهارة (وضوء ) سابق، ولكن ليس كل من يتوضأ يصلي.. ويحلو لي أن أذكر (طلبتي ) بأن نهر الحياة يجري، وعلى جانبه الحضارة، وعلى الجانب الآخر الفكر والثقافة، ويربط بين الضفتين قنطرة هـي (القيم ) .