ما حوته المقدمة:
1- في العمران البشري: وهي تقابل (علم الاجتماع العام ) ، وقد درس ابن خلدون ظواهر المجتمع البشري، والقواعد التي تسير عليها المجتمعات.
2- في العمران البدوي، وقد درس الاجتماع البدوي، كاشفا أهم خصائصه المميزة، وأنه أصل الاجتماع الحضري وسابق عليه.
3- في الدولة والخلافة والملك: وهو يقابل (علم الاجتماع السياسي ) ، وقد درس قواعد الحكم والنظم الدينية وغيرها.
4- في العمران الحضري: وهو ما يقابل (علم الاجتماع الحضري ) ، وقد شرح كافة الظواهر المتصلة بالحضر، وأصول المدنية، وأن التحضر هـو غاية التمدن.
5- في الصنائع والمعاش والكسب: وهو ما يقابل (علم الاجتماع الاقتصادي ) ، وقد درس تأثير الظروف الاقتصادية على أحوال المجتمع.
6- في العلوم واكتسابها: وهو ما يقابل (علم الاجتماع التربوي ) ، وقد درس الظواهر التربوية، وطرق التعلم وتصنيف العلوم.
كما درس الاجتماع الديني والقانوني، رابطا بين السياسة والأخلاق. لقد استودع ابن خلدون (مقدمته ) كل خبراته المعرفية والسياسية؛ ولأن البيئة لم تكن مهيئة، لم يستفد أحد من كل ذلك.
الإنسان والتمدن
يعتقد ابن خلدون بأن الإنسان مدني بطبعه، ولذا فهو ميال [ ص: 175 ] للاجتماع ببني جنسه، يدفعه في ذلك أكثر من دافع [1] :
1- الضرورة: ولها جانب اقتصادي ودفاعي، فالإنسان لا يحصل على حاجاته إلا بمعونة من الآخرين، والصراع بين البشر والحيوان يدفع بالإنسان إلى الاحتماء بالآخرين، والتعاون معهم لهذا الغرض.
2- الشعور الفطري: فالإنسان يميل فطريا للاجتماع بأخيه الإنسان، يأنس به ويسر للقائه.
3- ميل الإنسان لتحقيق فكرة الجمعية وذاك بإرادته.
الإنسان والحكومة
يرى ابن خلدون أن الإنسان حين وجد العدوان من أخيه عليه، حمله ذلك على اصطناع الحكومة، من أجل كبح العدوان البشري.. ومن إدراكاته الجيدة رسم العلاقة بين الدولة والمجتمع، فهو يرى أن بينهما نوعا من (التلازم ) فالدولة تتسم بالقهر والغلبة، وبلون من ألوان الإكراه، والذي هـدفه المصلحة العامة.
ويكرر ضرورة الربط بين السياسة والأخلاق، معتبرا الأخيرة الموجه والهادي إلى السياسة، وأن الأخلاق تكسب الدولة قوة واحتراما. كما أن الدعوة (الدينية ) تزيد في قوة الدولة.. ويعتبر الحروب ظاهرة اجتماعية قديمة، سببها انتقام بعض الناس من بعض.. ولو عاش ابن خلـدون اليـوم، [ ص: 176 ] لـوجد للحـروب أسـبابا جـديـدة، كـل الجدة، وربما كانت لتجريب سلاح، أو بيعه، أو للضغط على حاكم أو نظام مكروه مشاكس.
أما أسباب (الانتقام ) في نظره، فهي كثيرة،كالـمنافسة أو العـدوان، أو غضب لله ودينه، أو غضب الحاكم لنفسه.. عن الكسب والاكتساب يرى أنه يكون بالسعي والقصد والتحصيل. وفي العلم والتعلم يرى تميز الإنسان عن كافة المخلوقات (بالفكر ) الذي نشأت عنه سائر العلوم والصناعات، وهو من هـموم البشر.
التاريخ وشروط المؤرخ
تقدم أن ابن خلدون اعتكف في قلعة (سلامة ) فكتب مؤلفه في التاريخ ومقدمته المشهورة، لذا من الطبيعي أن يتحدث عن الشروط الواجب توفرها في كتابة التاريخ، وهي تصور منهج الرجل وفهمه.
يقول في التاريخ [2] : (هو في ظاهره لا يزيد على إخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأول، تنمو فيه الأقوال، وتضرب فيه الأمثال، وتطرف به الأندية، إذا غصها الاحتفال، وتؤدي لنا شأن الخليقة، كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع للدول فيها النطاق والمجال، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال... إن في باطن التاريخ نظرا وتحقيقا، وتعليلا للكائنات ومباديها دقيقا، وعلما بكيفيات الوقائع وأسبابها عميقا... [ ص: 177 ]
إن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة، ومنهاج مستقر، إنما هـو اختلاف على الأيام والأزمنة، والانتقال من حال إلى حال، وكما يكون في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار، سنة الله التي قد خلت في عباده ) .
ولولا هـذا السجع والذي لم نألفه في كتابات ابن خلدون، لكان الفكر التاريخي غاية في الروعة، ففي التاريخ عبر، نعم، ولم يفرد الله تعالى ثلث كتابه للحديث عن الأمم الماضية، وبيننا وبينها ألوف السنين، إلا للعبرة في ذلك، وإلا لم يحفل القرآن بكل ذلك.
ولعل من الإدراكات الجيدة القـول: بأن أحوال العالم في تغير، وهي لا تسير على منهاج واحد، بل الانتقال المتواصل من حال إلى حال، يستوي في ذلك المؤمن والكافر.
إن عناية ابن خلدون بالتاريخ، ورغبته في الحصول على تفسير جيد لدوراته، لم يجعله يقبل كل خبر مسطر، ولو كان المؤرخ ثقة، لأنه في العادة ينقل عمن تقدمه، وذلك المتقدم قد يكون غافلا أو كاذبا أو متحزبا أو صاحب مصلحة، وكل ذلك يجعل المؤرخ على حذر فيما ينقل.
لقد وجد كتب التاريخ مشحونة بالمبالغات والأغلاط، لذا فقد تطلع إلى وضع منهج جديد يمنع من السقوط، وقد وضع سبع قواعد جيدة، بل رائعة، لعمل المؤرخ [3] : [ ص: 178 ]
1- تجنب التشيع للآراء والمذاهب، ومعلوم أن التشيع لطرف هـو عدو الموضوعية، ولا يتصور اجتماعهما في شخص واحد.
فالتشيع يدعو للقبول أو الرفض دون محاكمة، فإذا كان الإنسان محايدا أو على حال (الاعتدال في قبول الخبر ) فإنه يعطيه حقه من التمحيص والنظر، كي يتبين صدقه من كذبه، فإن خامر النفس تشيع لرأي أو نحلة، فالإنسان يقبل ما يوافق هـواه من الأخبار، حتى يكون ذلك التشيع غطاء على عين بصيرة النفس، فتقع في قبول الكذب ونقله.
2- تمحيص الروايات، وعدم الثقة بالناقلين، وذلك عن طريق البحث والنقد، (فلا يرجع -أي المؤرخ- إلى تعديل الرواة، حتى يعلم أن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع، وأما إذا كان مستحيلا، فلا فائدة للنظر في التعديل والجرح ) .. وهذا منهج جيد، يبدأ المؤرخ بالخبر وليس براويه.
3- معرفة جيدة بالمقاصد: فالذهول عنها يجعل المؤرخ ينقل الخبر على حسب ظنه وتخمينه، فيقع في الكذب دون أن يعلم ذلك.
4- إن منح الثقة لمؤرخ سابق، يجعل اللاحق يتوهم صدقه فيما نقل، وليس من تلازم بين ثقة المؤرخ وسحب هـذه الثقة على كافة نقوله، فثقة المؤرخ بالناقل قد تجعله يتوهم صدق ما نقل، فيقع في الخطأ.
5- ينبغي العمل على كشف الخداع والتلبيس والكذب في الأخبار، فالمؤرخ قد يكون على حال من (الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع، لأجل ما يداخلها من التلبيس والتصنيع، فينقل الخبر على غير الحق ) . [ ص: 179 ]
6- ينبغي للمؤرخ أن يبتعد عن محاولة الكسب، من خلال تقربه لأصحاب السلطة، فالنفوس مولعة بحب الثناء، والناس متطلعون إلى الدنيا وأسبابها من جاه أو ثروة.
والمشكلة كبيرة، فإذا كتب التاريخ في عهد أصحابه، برزت الحسنات، وضاعت وذابت السيئات، فإذا كتب فيما بعد، وعلى زمن وفترة معادية، برزت السيئات واختفت الحسنات، وما شاهدناه من إعادة كتابة التاريخ بعد سقوط نظام خير دليل على ذلك.
7- ينبغي أن يكون المؤرخ عارفا بطبيعة الحوادث والأخبار، فإن (الجهل بطبائع الأحوال في العمران، إذ لكل حادث من الحوادث ذاتا أو فعلا طبيعة تخصه في ذاته، وفيما يعرض له من أحواله، فإذا كان السامع عارفا بطبائع الحوادث والأحوال في الوجود ومقتضياتها، أعانه ذلك في تمحيص الخبر، على التمييز بين الصدق والكذب، وهذا أبلغ في التمحيص من كل وجه ) .
أذكر وأنا أقرأ (التوراة ) أنها تذكر معارك بين اليهود وأهل المنطقة، فتذكر أرقاما كبيرة جدا، لا يتصور وجودها قبل ألوف السنين، فتذكر أن طرفا شارك بـ (600) ألف مقاتل، والطرف الثاني بـ (400) ألف مقاتل، وهذا مستحيل عقلا، ولذا راحوا يحذفون صفرا فيصبح العدد (60، 40) ألفا، ليتحول العدد أخيرا إلى (6، 4) آلاف فقط.
لقد تنبه ابن خلدون إلى وجود تاريخ للحضارة يتمثل في تقدمها العلمي والعمراني أو تخلفهما، إلى جانب تاريخ سياسي للأمة [ ص: 180 ] والحضارة، قد يسيران جنبا لجنب، وقد يفترقان، فيتقدم واحد دون الآخر، كما لم يبالغ في استـخـلاص النتائـج من دراسـاتـه الـتاريخـية، كما يفعل بعض القائلين بـ (الحتميات) ، كما لم يسقط في الفروض والتخمينات، ولكن تأثر إلى حد كبير بما رآه وعاشه، في الأندلس والشمال الإفريقي وسائر البلاد التي زارها.