أولا: المنهج الإسلامي للحفاظ على الأسرة وعلاج مشكلاتها
يتركب هذا المنهج من عدة دعائم، أهمها:
* الرغبة المتبادلة والاختيار المطلق والرضا الكامل ، فالحياة الزوجية ينبغي أن تتحقق لها هذه الدعامة حتى يمكن أن تكون حياة مستقرة، يأنس كل طرف فيها إلى شريك حياته ورفيق عمره، ولهذا لا يجوز أن تزوج امرأة بغير رضاها، ولا يكره رجل إلى العيش مع امرأة ينفر منها ولا يميل إليها، وفي هذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تنكح الثيب حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن، [ ص: 41 ] وإذنها الصموت ) [1]
ويؤكد ابن القيم " المتوفى سنة 751هـ " حق المرأة في الموافقة والرضا بقوله: " إن البكر البالغة العاقلة الرشيدة لا يتصرف أبوها في أقل شيء من ملكها إلا برضاها، ولا يجبرها على إخراج اليسير منه، فكيف يجوز له أن يتصرف فيها هي بدون رضاها، ومعلوم أن إخراج مالها بغير رضاها أسهل عليه من تزويجها بمن لا تريد؟! " [2]
وإذا كان الرضا والرغبة المتبادلة في حياة زوجية أمرا مشروعا فإن الرؤية مشروعة أيضا ليكون هذا الرضا جديا ومنبثقا من شعور ورغبة وقائما على حقيقة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( انظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما ) [3] ، أي فإنه أدعى إلى أن يبارك بينكما، فتجتمعا على وفاق وخير، وتتعاونا على ما فيه صلاح أمركما ومستقبلكما.
ولحرص الإسلام على أن تؤسس الأسرة على دعامة راسخة من [ ص: 42 ] الرغبة الصادقة كانت الخطبة مرحلة تمهيدية تسبق عقد الزواج، بحيث إذا آنس كل من الرجل والمرأة في هذه المرحلة من نفسه الاطمئنان إلى من يقترن به، قام عقد الزواج على دعامة متينة ترجى معها العشرة الحسنة، والحياة الزوجية الآمنة المطمئنة.
* القيم الثابتة عماد الاختيار
يحض المنهج الإسلامي في اختيار شريك العمر على أن يكون عماد هذا الاختيار القيم الثابتة وعدم الاغترار بالقيم الزائلة، ولذلك كان الدين والخلق الطيب دعامة أساس في هذا المنهج، وكان ما سوى هذه الدعامة كالجمال والمال والحسب مساعدا له بعد توافر عنصر الدين والخلق . . فهذا العنصر هو الذي يحمي الحياة الزوجية من بوادر النشوز والإعراض، ولـه دوره الفاعل في التغلب على ما قد يعترض الأسرة من مشكلات تهدد أمنها واستقرارها، فضلا عن أنه يهيئ الجو الصالح لتربية الأبناء تربية سليمة.
والآثار كثيرة في الحض على أن يكون الاختيار في الزواج مناطه الاعتصام بحبل الله . . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت [ ص: 43 ] يداك ) [4]
وقال: ( إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض ) [5]
. وقد حذر الرسول عليه الصلاة والسلام من الزواج من المرأة الحسناء التي لا تتمتع بالدين والخلق العظيم، لأنها نشأت في بيئة فاسدة، قال: ( إياكم وخضراء الدمن، قالوا: وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء ) [6]
ويؤكد الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض ما يروى عنه أن الاهتمام بأعراض الحياة الدنيا في الزواج مجلبة للشقاء والتعاسة، فقد قال صلى الله عليه وسلم ( لا تزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين، ولأمة خرماء سوداء ذات دين أفضل ) [7]
ولا يعني دعوة الإسلام إلى أن يكون الدين والخلق قوام الحياة الزوجية أنه ينبذ المال والجمال وما إليهما، وإنما يعني أن يكون [ ص: 44 ] الدين والخلق الشرط الأساس لقيم علاقة مقدسة وميثاق غليظ . . المهم إسلاميا أن يتمتع الرجل والمرأة بالدين والخلق.
* مراعاة الكفاءة بين الزوجين
ويقتضي الحديث عن حسن الاختيار وما يجب أن يتمتع به كل من الزوجين من الدين والخلق، والإشارة إلى موضوع الكفاءة، فلهذا الموضوع صلة وثيقة بحسن الاختيار وآثاره في منهج الإسلام في حماية الأسرة.
والكفاءة [8]
يراد بها أن يكون بين الزوجين قدر من التقارب في أمور مخصوصة يعتبر الإخلال بها مفسدا للحياة الزوجية.
ومع اختلاف آراء الفقهاء في الأمور المخصوصة التي ينبغي أن يكون بين الزوجين تقارب فيها وليس المساواة الكاملة، فإنهم متفقون على أن الدين والخلق والصلاح والتقوى أساس الكفاءة بين الزوجين، وأن ما سوى هذا من الحرفة والمال والحسب لا يراد بها التفريق بين الناس والحكم عليهم بأنهم طبقات اجتماعية لكل منها منزلتها الخاصة، وإنما يراد بها أن يكون بين الزوجين قدر من التقارب في المستوى الاجتماعي والمبادئ، فذلك أنفى للشقاق، وأدعى [ ص: 45 ] للوفاق والوئام، وأجدر أن يجعل من الزواج خير علاقة توثق عرى المصاهرة، وتوسع دائرة الأسرة .. فالعلاقة الزوجية ليست مجرد علاقة بين فردين، ولكنها مع هذا علاقة بين أسرتين.
فالفقهاء فيما صدر عنهم من آراء في موضوع الكفاءة والمعاني المعتبرة فيها لم يكونوا في غفلة عن أن الإسلام دين الأخوة والمساواة، وأن التفاضل بين الناس في هذا الدين مناطه تقوى الله عز وجل، ولكنهم توخوا مصلحة الأسرة وصلة المصاهرة، وراعوا مشاعر المرأة إذا ما تزوجت من دونها منزلة. فهي وإن رضيت به لا تسلم من نظرات النقد والتعيير، حتى ممن رضيت به زوجا، فتضيق بحياتها مع هذا الزوج، وتبدأ مرحلة النفور منه وعدم النزول على مقتضى قوامته وسلطانه، وقد يستغل قوامته استغلالا مسيئا لها، فتضطرب الحياة الزوجية، ويسودها التفكك والشقاق، ويكون التفريق.
على أن الكفاءة ليست من شروط صحة العقد، وإنما هي شرط لزوم، فالعقد بدونها يقع صحيحا نافذا، ولكنه قابل للفسخ، إذ يجوز لولي الأمر أن يرفع الأمر إلى القاضي ليفسخ العقد لعدم الكفاءة، والقاضي يجيبه إلى طلبه بشرط ألا تكون المرأة قد حملت أو ولدت، محافظة على الولد. [ ص: 46 ]
* قيام عقد الزواج على التأبيد
يمتاز عقد الزواج في الإسلام على سواه من العقود بأن موضوعه الإنسان، أكرم المخلوقات، ومن ثم كان هذا العقد من أهم العقود وأكرمها، ويتجلى ذلك في قيامه على التأبيد والدوام، فلا يعرف التأقيت أو التحديد، وهو أمر يتلاءم مع وظيفة الأسرة في المجتمع ورسالتها المقدسة في الحياة.
ولا تناقض بين جواز التفريق بين الزوجين في الإسلام مع قيام عقد الزوجية على الدوام، لأن الإسلام يريد لهذا العقد أن يكون تعبيرا عن علاقة زوجية تفيض بمعاني الاستقرار والسكن والمودة والرحمة، فإذا اضطرب جو الأسرة وساءت العلاقة بين الزوجين إساءة بالغة، وباءت كل محاولات الإصلاح والتوافيق بالبوار، فإن الإسلام يبيح انفصام هذا العقد تحت ضغط الضرورة الملجئة، لأن هذا خير من استمرار علاقة زوجية لا تعرف غير الشقاق والصراع، ولهذا كان الرأي الراجح أن الأصل في تشريع الطلاق هو الحظر وإنما يلجأ إليه عند الاضطرار والضرورة.
إن قيام عقد الزواج على التأبيد، وأن انحلاله لا يكون إلا بوفاة أحد الزوجين أو كليهما، يؤمئ إلى مسئولية كل من الرجل والمرأة عن حماية هذا العقد، وتجنب كل ما يؤثر على رابطة العلاقة [ ص: 47 ] الزوجية، ومقاومة مشاعر الكراهية والنفور،
قال تعالى: ( وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) (النساء: 19) .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا يفرك ـ أي لا يبغض ـ مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقا رضي منها خلقا آخر ) [9]
فإذا وقع خلاف بين الزوجين فإن الإسلام يحثهما على الاستقلال بإصلاح ما شجر بينهما من خلاف إن استطاعا، قال سبحانه: ( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير ) (النساء: 128) ،
فإن عجزا بعث ولي الأمر من أهلها من يصلح بينهما،
قال الله تعالى: ( وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ) (النساء: 35) .
فإن لم يجد كل ذلك في إصلاح ذات بينهما فقد تبين أنه لا مصلحة لأسرة ولا للأمة في هذا الارتباط، ومن ثم شرع الله الطلاق في أضيق الحدود دفعا للمضار التي تنشأ من اجتماع الزوجين على بغض وكراهية. [ ص: 48 ]
وبهذا يتضح أن جواز الطلاق عند الضرورة لا يتعارض مع دعامة قيام الأسرة على الدوام.
* تنظيم الحقوق والواجبات
الأسرة أصغر وحدة اجتماعية، وهي تبدأ بالزوجين، ثم يكثر أفرادها بالإنجاب، ولكي تستقر حياة هذه الوحدة، ويسود هذه الحياة الترابط الحميم، كان لا بد من وضع دستور ينظم الحقوق والواجبات في الأسرة، وقد قرر هذا الدستور قوامة الرجال على النساء،
قال الله تعالى: ( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ) (النساء: 34)
وقال الله عز وجل : ( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة ) (البقرة: 228) ،
وهي درجة القوامة والرئاسة البيتية الناشئة عن عهد الزوجية، وضرورة الاجتماع، وقد كلفها الرجل لأنه أقدر على القيام بها بسبب ما أودع الله فيه من قوة في البدن والعز والعمل.
إن هذه القوامة، ليست محاباة للرجل أو إلغاء لشخصية المرأة، وليست كذلك سبيلا للاستبداد والسيطرة من قبل الرجل، إنها تعني المسئولية، مسئولية الرجل عن الأسرة من حيث الإنفاق والرعاية والحماية وحسن العشرة،
وكان من أولويات حسن العشرة [ ص: 49 ] أن يتشاور الزوجان في كل ما يهم الأسرة، وأن يكون بينهما الاحترام المتبادل لكل الآراء مع مناقشتها في هدوء وسماحة نفس وسعة صدر.
وعلى المرأة في مقابل ما فرض الإسلام على الرجال من التزامات وواجبات أن تطيع زوجها فيما لا معصية فيه، وأن تنهض برسالتها المقدسة وهي الأمومة ورعاية البيت على أحسن وجه، ولهذا كان قرارها في البيت بمقتضى عقد الزواج حقا للرجل عليها.
ويقتضي حق القوامة ومسئولية الرجل عن الأسرة زجر المنحرفين، وتوجيه من تسول له نفسه إثما ومنكرا إلى سبيل الرشاد والفلاح.
وفضلا عن الحقوق والواجبات بين الزوجين، تعبر بعض آيات القرآن الكريم عن العلاقة الزوجية أروع تعبير،
في مثل قوله تعالى: ( هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ) (البقرة:187) ،
فهي علاقة الامتزاج الكامل والستر المشترك، ولن تكون كذلك إلا إذا عبرة أصدق تعبير عن المودة والرحمة والإحسان ليسود جو الأسرة الوئام والحبور،
قال تعالى: ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) (الروم: 21) . [ ص: 50 ] وكما نظم الإسلام العلاقة بين الزوجين، نظم هذه العلاقة بين الآباء والأبناء، فجعل على الآباء أن يحسنوا تربية أبنائهم، والعدل بينهم في المعاملة والعطاء حتى لا ينزغ الشيطان بينهم بالفساد والأحقاد .. كذلك فرض على الأبناء أن يحسنوا إلى آبائهم وبخاصة عند امتداد العمر بهؤلاء، لأنهم يصبحون في حاجة إلى مزيد من الرعاية والحماية، قال الله تعالى: ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ) (الإسراء:23 ـ 24) .
ولا شك في أن الأمر بالإحسان إلى الوالدين، وفي توجيه الآباء نحو ما يجب عليهم قبل أبنائهم، وفي بيان طبيعة العلاقة الزوجية وأنها علاقة امتزاج كامل، وسكن مشترك، في أن هذا كله يدل على أن الأسرة المسلمة أسره متراحمة مترابطة، لا تعرف التفكك أو الشقاق، ما دامت معتصمة بذلك المنهج الذي يحمي الأسرة من غوائل الانحراف أو الصراع. تلك أهم الملامح العامة للمنهج الإسلامي التي جعلت من [ ص: 51 ] الأسرة المسلمة أسرة متميزة بقيمها ومبادئها، أسرة تحكمها دائما خلال التعاطف والتراحم والإحسان، فإذا انحرفت عن ذلك المنهج عانت من التمزق والتفكك والعقوق، ولذا كانت ظاهرة التفكك الأسري المعاصرة تعبيرا عن الانحراف عن ذلك المنهج، بالإضافة إلى بعض العوامل المساعدة التي تضافرت فعملت على خلخلة كيان الأسرة المسلمة، وخططت منذ نحو قرن لغربتها وتغريبها وتوهين الروابط بين أفرادها.
وفيما يلي تفصيل لأهم الأسباب التي كانت من وراء هذا التفكك وآثاره.