ثالثا: أثار التفكك الأسري
ما دام التفكك الأسري حقيقة لا جدال فيها، وما دامت له أسبابه العديدة، وهذه الأسباب بعضها داخلي، وبعضها الآخر خارجي، وقد أوجزت الحديث عن أهمها آنفا، فإن له آثارا خطيرة على الأسرة والمجتمع:
* فالحياة الأسرية بين الزوجين يسودها القلق وعدم الاحترام المتبادل وكذلك عدم صيانة الأسرار الزوجية، لانهيار القيم الأخلاقية، وعدم إدراك الرجل والمرأة أن الحياة الزوجية شركة [ ص: 68 ] اجتماعية رأس مالها السكينة والود والألفة والرحمة والرعاية، وليست ميدانا للمبارزة والعناد أو السيطرة و التحكم.
* وقد يمثل التفكك بين الزوجين مظهرا سلبيا، يعبر عنه بامتناع كل منهما عن الحياة الزوجية الطبيعية، فهما متخاصمان لا يكلم أحدهما الآخر، أو أن الزوج يهجر فراش زوجته فلا يعاشرها بالمعروف، وإن كانا أمام الناس غير ذلك، وهذا الامتناع هو ما يعرف بالهجر أو الطلاق الصامت، أو فقدان لغة الحوار.
* وقد يتجاوز الأمر حدود السلبية ويتحول التفكك إلى عنف قد يصدر من الرجل ضد المرأة أو العكس. وليس العنف إلا ردة فعل لتصرفات الآخرين، فالرجل الذي يمارس العنف مع زوجته يثير لديها غريزة العنف . . وكذلك ممارسة العنف ضد الأبناء يثير لديهم غريزة العنف ضد الآباء مستقبلا.
والعنف يبدأ بالكلمة النابية أو الاستهانة التي تحمل الآخر على التمرد ورد الإساءة بمثلها أو أشد منها، وقد يتطور الأمر إلى الضرب وإلحاق الأذى المادي الذي يبلغ أحيانا درجة الإقدام على ارتكاب جريمة القتل. [ ص: 69 ]
* ومن آثار التفكك الأسري المدمرة كثرة الطلاق دون سبب مشروع . . والطلاق يؤدي إلى التمزق العاطفي للأبناء بسبب الحيرة في الانحياز لأي طرف، الأب أم الأم، فضلا عن فقدهم للشعور بالأمن نتيجة للاضطراب والتفرق الذي حل بالأسرة، ويؤثر هذا على تحصيلهم العلمي وتفوقهم الدراسي.
* والأطفال بعد الطلاق قد يستخدمون أحيانا كوسيلة للانتقام والإيذاء المتبادل بين الزوجين، فالأم تحرم الأب من رؤية أولاده، والأب يحاول أن يضم الأولاد إلى حضانته، ويعيش الأبناء تجربة نفسية قاسية تترك في وجدانهم انطباعا سيئا عن الجو الأسري والعلاقات الزوجية، وتدفع المرأة المطلقة ثمنا غاليا لطلاقها، فهي تحرم من الإعالة والإشباع العاطفي، وتتعرض لقيود على تصرفاتها، وينظر إليها المجتمع نظرة فيها الكثير من التوجس، وهذا يجعلها تنظر إلى الحياة بمنظار قاتم، وقد تنجرف في تيار الانحلال إذا لم تجد زوجا تعيش في كنفه.
* ولا يقتصر أثر التفكك الأسري على الأبناء على تخلفهم الدراسي وحسب، فالأبناء الذين ينشأون في أسرة مفككة لا تعرف بين أفرادها غير النفور والكراهية لا تكون نشأتهم [ ص: 70 ] طبيعية، وتترسب في أعماقهم مشاعر الكراهية نحو الحياة والأحياء، ويتمثل ذلك في الانحراف والتمرد على القيم والنظم والقوانين وإدمان الموبقات والمخدرات، فضلا عن العزوف مستقبلا عن الحياة الزوجية.
إن الأبناء في ظل هذا التفكك الأسري قد تمتد إليهم أيدي المجرمين، الذين يتخذون منهم وسيلة لنشر السموم، أو سرقة الآخرين، وتصبح الطفولة البريئة مباء للانحراف، وتشهد محاكم الأحداث صورا من الجرائم التي يرتكبها الأطفال الذين لم يعيشوا في أسرة مترابطة. كما أن هؤلاء الأطفال الذين فقدوا حياة الأسرة الآمنة المطمئنة تستهويهم غالبا حياة التمرد والإدمان، ويتحول هؤلاء في المستقبل إلى طاقة معطلة أو مدمرة، ويرتد هذا على المجتمع بخسارة فادحة تعوق نموه.
لقد أثبتت الدراسات أن ظواهر الإجرام والعنف وانحلال الأخلاق، وتوتر العلاقات بين الدول، وظهور القيادات التي كانت سببا في الحروب المدمرة، وحدوث القلاقل والمجاعات المهلكة، مردها إلى أن الروابط النفسية في الأسر ضائعة، وأن أجيالا تربت وترعرعت بعيدا عن مشاعر الحنان والمودة والرحمة فانتكست [ ص: 71 ] فطرتها، وانغمست في بؤر الفساد، واستحوذ عليها حب الانتقام وإراقة الدماء والاستهانة بكرامة الإنسان.
إن كل ما ينشأ في أسرة لا تعرف غير العواطف النبيلة والمشاعر الطيبة والتوجيه الحكيم والحنان الفطري، تكون نشأته سوية تكسبه قوة في الجسم والعقل، وتجعل منه في المستقبل طاقة مبدعة. ولهذا كان الأبناء الذين لا ينشأون في أسر، ولا يذوقون حنان الأبوين، ولا يتمتعون بما يتمتع به سواهم ممن شبوا في رعاية الوالدين، مهما توفر لهم دور الرعاية الاجتماعية وملاجئ اللقطاء أسباب الصحة الجسمية، يشكلون خطرا على المجتمعات.
ومن هنا يبدو واضحا مدى خطورة تفكك الأسرة على الأبناء، إذ لا تقتصر آثاره على تخلفهم الدراسي والخلقي وعدم الإسهام في نهضة المجتمع وقوته، وإنما تمتد لتؤكد مشكلة خطيرة تتطلب الوقوف عندها، وهي ما يسمى بـ " صراع الأجيال " ، التي ساعد على تفاقمها ـ بالإضافة إلى التفكك الأسري ـ اتساع الهوة بين الآباء والأبناء في ظل التطور الحضاري المادي المذهل . . كما أن لوسائل الاتصال المعاصرة دورها في هذه المشكلة، وكذلك القنوات الفضائية وشبكة الإنترنت، لما تقدمه من انفتاح كبير على عالم الغرب بسيئاته وحسناته. [ ص: 72 ]
وهذه المشكلة تعاني منها معظم الأسر في جميع المجتمعات البشرية، على تفاوت في درجتها وخطورتها بين مجتمع وآخر.
وإذا كان لكل زمان أعرافه ومفاهيمه، وإذا كان الأبناء قد خلقوا لعصر غير عصر الآباء، فإن هذا لا يعني التنكر الكامل للثوابت والقيم التي لا تعرف عصرا دون عصر ولا جيلا دون جيل، ولكن مشكلة الصراع بين الأجيال ـ كما يطلق عليها ـ تمثل عدوانا على القيم الثابتة والعواطف الفطرية، كما تمثل تنكرا لفضل الآباء، واتهاما لهم بالتخلف الحضاري والفكري، وأنهم يهتمون بعواطف وتقاليد اجتماعية لم يعد لها مكان في عصر المادة والاستقلال الشخصي.
وإذا كان للتفكك تلك الآثار على الزوجين والأبناء، فإن آثاره على المجتمع أخطر، فالأسرة قاعدة الحياة البشرية وقوام المجتمع، فإذا تعرضت للاضطراب والتصدع والصراع، ولم تقم برسالتها في التربية والتوجيه، فإنها بدلا من أن تكون قوة دفع في المجتمع للخير والإصلاح، تتحول إلى قوة جذب للوراء، ولا يكون لها عطاء نافع، فيخسر المجتمع بذلك خسارة فادحة، خسارة أجيال تدمر ولا تعمر، أجيال تعوق مسيرة التنمية والنهضة. [ ص: 73 ]
الخلاصة
إن قوة المجتمع ونهضته من قوة الأسرة ومتانة العلاقة بين أفرادها . . فإذا ساد التفكك الأسري، فإن المجتمع يفقد أهم رافد من روافد قوته واستقراره، ويعاني من الضعف والاضطراب، لأن التفكك الأسري يعطل الطاقات البشرية عن الإنتاج، ويدفعها إلى مجالات التخريب والتدمير ونشر الجريمة، وإشاعة الخوف بين الناس، وجعل العلاقات الاجتماعية بينهم أوهى من خيط العنكبوت، وكل هذا يعرقل مسيرة التطور والتنمية في المجتمع، ويقضي بالتخلف وفقد القوة الدافعة نحو التجديد والبناء.
من هنا، كانت حماية الأسرة من التفكك حماية للمجتمع من مشكلات شتى، تمتص الطاقات، وتشغل عن العطاء والتعمير، وتكون عامل هدم وتدمير. [ ص: 74 ]