الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التفكك الأسري (دعوة للمراجعة)

نخبة من الباحثين

الأسرة والصحة النفسية

الصحة النفسية للأسرة هي إحدى الدعامات المهمة لأي مجتمع، فإذا صحت الأسرة نفسيا صح المجتمع كله، وإذا اضطربت الصحة النفسية للأسرة كان مصيرها التفكك، الشيء الذي ينتج عنه نسق سلوك مضطرب وغير سوي يخل بتوازن المجتمع كله.

ويمكن القول بصفة عامة: إن الأسرة الإسلامية والعربية تتمتع بصحة نفسية جيدة إذا ما قورنت بالأسرة الغربية.. فالتكامل والتماسك والمساندة بين الأفراد، والذي يقوم على التربية الإسلامية الصحيحة، من الدعائم التي تحمي الإنسان من غائلة المرض النفسي.

فنجد في الدول الغربية مثلا، أن الناس ترتبط بالكلاب أكثر من ارتباطها بالإنسان، يتمشون معها لساعات طويلة، يعيشون معها بمفردهم لسنين طويلة، ويوفرون لها ما طاب من الطعام والشراب، وربما تحظى بوصية توفر لها رغد العيش بعد ممات صاحبها (!) ولكن في المقابل، نحن شعوب ذات حساسية عالية، شعوب مرهفة الحس، سريعة التأثر، فنحن نفرح وتنشرح صدورنا بسرعة وعمق، ونحزن بسرعة وعمق، ونتألم ونتعذب، نقلق ونتوتر، ربما لما قد يصيب الآخرين وليس ما قد يصيبنا، وهذه ربما تكون خاصة طيبة، وإن [ ص: 138 ] كانت تعرضنا للانجراح النفسي.. ومن أجل ذلك كان من مقاصد الإسلام الحنيف تهذيب النفس وترويضها.

ومع ازدياد المشاكل الاقتصادية، مع الحروب والهموم، مع توترات البحث عن سكن وعن عمل، وكل ما يحيط بالحصول على لقمة العيش من مصاعب، وأيضا كل ما يكتنف الثراء من مشاكل ومتاعب، أصبحت الأسرة لا تسلم من الإصابة ببعض الظواهر النفسية التي هي سمة العصر.

وفي عصرنا هذا أيضا، ازدادت الأمراض الجسدية والعضوية، وغدا واضحا لكل من يريد أن يفهم السلوك الإنساني -سويا كان أم غير سوي- أن يكون دارسا للجوانب العضوية والجوانب النفسية معا، فقد سقطت النظريات الثنائية التي كانت تفصل بين الجسم والنفس، بعد ما تبين أن كلا من الجسم والنفس يؤثر في (الآخر) ويتأثر به.

اضطراب الصحة النفسية للأسرة

ليس من السهل وضع تعريف لمفهوم الصحة النفسية؛ لأن هذا التعريف يرتبط ارتباطا وثيقا بتحديد معنى السواء واللاسواء في علم النفس.. والحكم بالسوية أو اللاسوية على سلوك ما، تكتنفه بعض الصعوبات، والصحة النفسية السوية لا تعني غياب المرض [ ص: 139 ] فقط، وهذا يعني أن عدم معاناة الفرد من مشاعر الإثم أو الذنب أو الخجل أو القلق أو الاكتئاب أو الأمراض النفسية الأخرى، لا يعتبر كافيا ليتمتع الفرد بحياته في ظل صحة نفسية.

فالفرد يقابل طوال حياته سلسلة من المشكلات البسيطة أو المعقدة، وعليه أن يواجهها، وأن يجد لها الحل المناسب، كما يواجه كثيرا من المسئوليات الشخصية والعائلية والمهنية والاجتماعية وعليه أن يتحملها، وعليه أن يقوم بكل المسئوليات المرتبطة بالأدوار المترتبة على المكانات الاجتماعية التي يشغلها، كل ذلك يجب أن يقوم بعبئه حتى يحقق توافقه مع نفسه ومع بيئته، وهي علامة الصحة والكفاءة النفسية العالية والمتزنة.

وتنظر منظمة الصحة العالمية إلى الصحة بصفة عامة من الزوايا الإيجابية، فمفهوم الصحة لديها «حالة تشير إلى اكتمال الجوانب الجسمية والعقلية والاجتماعية، وليست مجرد غياب المرض أو الوهن».. وهناك سمات أساسية لا بد أن تتوفر لدى كل فرد من أفراد الأسرة حتى نستطيع على ضوئها أن نقول: إن هذا الإنسان يتمتع بصحة نفسية متكاملة، أو على الأقل لديه درجة مقبولة من التكيف والاتزان النفسي. [ ص: 140 ]

ومن أهم هذه السمات التي يمكن استخلاصها في هذا الصدد:

1- العلاقة الصحية مع الذات: وتتمثل في ثلاثة أبعاد، هي فهم الذات، وتقبل الذات، وتطوير الذات.

2- المرونة: وهي تعني أن الفرد السوي يجد دائما بدائل للسلوك الذي يفشل في الوصول من خلاله إلى الهدف حتى يصل لغايته، أو أن ينصرف عن الموقف كلية إذا وجد أن المشكلة أو الهدف أعلى من مستوى إمكاناته، أو أنها لا تستحق الجهد الذي سيبذل فيها، وهي دلائل سمة المرونة.

3- الواقعية: وتعني التعامل مع حقائق الواقع، فالذي يحدد أهدافه في الحياة وتطلعاته للمستقبل على أساس إمكاناته العقلية، وعلى أساس المـدى الذي يمكن أن يصل إليه باستعداداته الخاصة، فرد سوي.

4- الشعور بالأمن: يشعر الفرد السوي بالأمن والطمأنينة بصفة عامة، وهذا لا يعـني أن السـوي لا ينتـابه القلق ولا يشعر بالخوف ولا يخبر الصراع، بل إنه يقلق عندما يعرض له تأثير القلق، ويخاف أن يهدد أمنه، ويخبر الصراع إذا واجه بعض مواقف الاختيار الحاسمة، أو بعض المواقف التي تتعارض فيها المشاعر، ولكنه في كل الحالات السابقة يسلك السلوك الذي يعمل مباشرة على حل [ ص: 141 ] المشكلة، أو يعمل على إزالة مصادر التهديد، ويحسم الأمر باتخاذ القرار المناسب في حدود إمكاناته.

5- التوجه الصحيح: عندما تعرض للشخص السوي مشكلة فإنه يفكر فيها، ويحدد عناصرها، ويضع الحلول التي يتصور أنها كفيلة بحلها، وفي المقابل فإن السلوك غير السوي لا يتجه مباشرة إلى المشكلة ولكنه يعمد إلى الدوران حولها، متهربا من اقتحامها مباشرة.

6- التناسب: وهو من السمات الهامة التي تميز السلوك السوي، وهو يعـني عـدم المبالغة، خـاصة في المجـال الانفعالي، ولذلك نقـول: إن هناك تناسبا بين سلوك السوي و الموقـف الذي يصـدر فيه السلوك، أما السلوك غير السوي فيتضمن مبالغة في الانفعال تزيد عما يتطلبه الموقف.

7- الإفادة من الـخبرة: تفيد الـمواقـف السابقة الفـرد، فهو يـغيـر ويعدل من سلوكه حسـب ما تعـلـمه من الـمواقف السابقة، مـما يجعله يضيف جديدا لمجموعة الخبرات التي تعملها، وهذا يجعله أكثر قدرة على مواجهة المواقف المستقبلية، وعكسه تماما يكون الفرد غير السوي.

وبما أن الشخصية هي التنظيم «السيكولوجي» العام للفرد، نستطيع أن نقول: إن درجة السواء النفسي للفرد هي الركيزة الأساس [ ص: 142 ] للمكون النفسي للأسرة، وإذا انصهرت المكونات الإيجابية وكانت هي السائدة كانت الأسرة أكثر ترابطا وانسجاما، ومتى ما قويت وتراكمت المكونات والعوامل النفسية السالبة للأفراد كان مصير الأسرة التفكك والتشرذم.

المحك الإسلامي وأهميته في ترابط الأسرة

اقترح العلماء عدة محكات للتمييز بين الصور السوية والصور غير السوية من السلوك للفرد والأسرة، وأهم هذه المحكات هي المحك التحليلي، الذي قاده ونظر له « فرويد »، معتمدا فيه على مراحل النمو الإنساني.. ثم يأتي المحك السلوكي، الذي يقوم على التعلم واكتساب الخبرات.. وهناك المحك الإنساني، والذي من أبرز علمائه « كارل دوجرز »، وتقوم أسس هذه المدرسة على الاعتراض على التحليل النفسي والسلوكي، والتركيز على الجوانب الخاصة التي تميز الإنسان عن الحيوان، مثل الحرية والإرادة والمسئولية والإبداع.. ويلاحـظ أن المحكـات الثـلاثـة يناقض بعضها بعضا بصورة واضحة، مما يجعلها غير مؤهله لتفسير السلوك الإنساني.

ومن هنا برز نموذج مقترح لمحـك إسلامي، يميز بين السـلوك السـوي والسلوك غير السوي.. ويقوم المحك الإسلامي في السلوك على فكرة التوازن، أو الوسطية، بين الأطراف أو الأقطاب.. والتوازن [ ص: 143 ] هنا لا يعني احتلال نقطة متوسطة بين طرفين أو قطبين، وإنما يعني الجمع بين محاسن الطرفين دون عيوبهما.

ويعتبر التوازن هو السمة الرئيسة في المحك الإسلامي، ولذا يمكن أن نطلق عليه «محك التوازن»؛ لأنه يعتمد على تحقيق التوازن بين جوانب النفس الإنسانية، ويوفق بين النزعات المتقابلة في الطبيعة البشرية، من الخوف والأمل، الحب والكره، الواقع والخيال، الجوانب الحسية والجوانب المعنوية، رغبة الفرد في السيطرة ورغبته في الخضوع، كما يقوم على تحقيق التوازن بين الفرد من ناحية والمجتمع بمنظماته وهيئاته من ناحية أخرى، والكون بأسره من ناحية ثالثة.

ويمكن تلخيص بعض جوانب المحك الإسلامي فيما يلي:

1- الإسلام وسط بين الجماعية والفردية: فهو يلغي الحواجز بين الفرد والمجتمع، فلا ينظر إلى الفرد إلا على أنه فرد في جماعة، كما لا ينظر إلى الجماعة إلا باعتبارها جماعة مكونة من أفراد.. وإذا كان المسلم مطالبا بالانتماء إلى الجماعة، فإنه مطالب أيضا بإعمال عقله وضميره في كل سلوك، حتى لو انتهى ذلك به إلى مخالفة الجماعة.. فالإسلام ينهي عن الإمعية، وهي تقابل في المصطلح النفسي «المسايرة الآلية». [ ص: 144 ]

ولذا فالمسلم مطـالب بمقاومة ضغـوط الجمـاعـة عنـدما تخـطئ أو تنحرف، وعلى ذلك فالمسلم لا يخـاف إلا الله ولا أحد سـواه، ولا يخشى في الحق لومة لائم..

ويخاطب القرآن الرسول صلى الله عليه وسلم قائلا: ( وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ) (الأحزاب:37) .

2- الإسلام وسط بين الروحية والمادية: ولكبح جماح شهوة المتعة، والسمو بالسلوك الإنساني، يدعو الإسلام إلى التمتع بالطيبات في حدود ما أحل الله، على ألا ينسينا ذلك حق الله وحق الآخرين علينا:

( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا ) (القصص:77) .

3- السلوك السوي في الإسلام وسط بين العبادة والعمل: من المعلوم أنه لا رهبانية في الإسلام، فالمسلم مطالب بأن يعمل وأن يتعبد، بدون أن ينسيه أحدهما الآخر:

( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ) (الجمعة:10) .

4- الجمع بين التطوع والالتزام: تمثل الأركان الخمسة في [ ص: 145 ] الإسلام قمة الالتزام بالنسبة للمسلم.. وبجانب هذه الأركان الملزمة هناك النوافل والسنن والأعمال التطوعية من مجالات البر والخير، فهي اختيارية، ويثاب عليها المسلم، وليس هناك حد أقصى لما يمكن للمسلم أن يقوم به من أعمال الخير: ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) (المطففين:26) ، ولكن كل حسب استطاعته؛ لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها.

5- السلوك السوي في الإسلام يتحدد بالوازع الداخلي والوازع الخارجي: يهتم الإسلام بتربية الضمير، أو الوازع الداخلي عند الفرد، ويعتبره الرقيب الحقيقي على أفعاله، لأنه الرقيب الدائم والمصاحب، ولكن الإسلام يعمل حسابا لأولئك الذين تغلبهم دوافعهم، أو الذين لم ينم لديهم الضمير بدرجة كافية، فيقيم الوازع الخارجي رقيبا عليهم، ورادعا لهم، وليحميهم من أنفسهم، بدون يأس من أن يعودوا إلى حظيرة الصواب يوما ما، فالله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.

6- الجمع بين التواضع والعزة: الإسلام يطالب المسلمين بأن يكونوا متواضعين لله وللناس:

( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) (الفرقان:63) ، [ ص: 146 ] ويطالبهم بأن يكونوا ذوي عزة ومنعة: ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون ) (المنافقون:8) .

وبجانب ذلك، فإن السلوك السوي في الإسلام هو توازن بين الحرية والمسئولية، وتوازن بين الثبات والتغير، وتوازن بين الإيجابية والسلبية.. وهو كذلك يجمع بين المثالية والواقعية.. وبما أن التفكك الأسري ما هو إلا اضطراب في محكات السواء والتوازن لأفراد الأسرة، فإن المحك الإسلامي يبقى هو الأمثل لحماية الأسرة من التفكك.. وإذا أخذ عدة أفراد في الأسرة الواحدة بهذا المحك، فإن من يضل منهم أو يفتقد الطريق، سوف يعود إلى الجادة؛ لأن البيئة العامة في الأسرة قائمة أصلا على السواء والتوازن.

الأسرة والأمراض النفسية

لا بد من الإقرار بالأهمية المتزايدة للصحة النفسية، خاصة في حياة الأسرة.. والصحة النفسية السليمة، التي تعني الجوانب السلوكية والعاطفية والاجتماعية للحياة اليومية، تؤثر بصورة مباشرة على الأسرة، فهي تكون وسيلة للترابط والتضامن الأسري.. واضطراب هذه الصحة قد يكون سببا مباشرا في تفكك الأسرة واختلال توازنها. [ ص: 147 ]

والأمراض النفسية، أصبحت اليوم منتشرة بصورة لا يمكن تجاهلها، حيث إن حوالي 30% من أفراد الأسر يعانون من حالات نفسيه تتفاوت في درجة شدتها وآثارها السلبية، فمثلا مرض الاكتئاب النفسي من الأمراض الشائعة جدا، خاصة وسط النساء، ولكن بكل أسف فإن معظم هذ الحالات لم تشخص، ولم تتقدم للأطباء من أجل العلاج والتأهيل النفسي، وربما يكون السبب في عدم تشخيصها هو الجهل أو التجاهل، أو خوف الوصمة الاجتماعية.. ووجود مثل هذه الحالات الكامنة في داخل الأسرة، تكون بلا شك عاملا هاما في اضمحلال الكفاءة النفسية للأسرة، وربما تفككها.

والمرض النفسي لأحد الزوجين، سواء كان هذا المرض معروفا ومشخصا أم لا، ربما يكون السبب الرئيس للخلافات الزوجية التي قد تنتهي بالطلاق وضياع الأطفال.. ولازلنا نعاني في مجتمعاتنا من مشاكل التنشئة الخاطئة للأطفال، كما أن تعاملنا مع الأمراض النفسية والعقلية يشوبه الكثير من القصور واللامبالاة في بعض الأحيان.. ومن يصاب بمرض نفسي أو عقلي لا شك أنه يعاني، ولكن معاناة الأسرة لا تقل عن معاناة المريض، بل تزيد في بعض الحالات. والمرض النفسي، مثل القلق والتوتر والمخاوف والوساوس [ ص: 148 ] والاكتئاب، يسبب ألما فظيعا لصاحبه.. والمرض العقلي مثل الفصام، الذي لا يكون فيه الإنسان مرتبطا بالواقع، مع وجود اضطراب في أفكاره وسلوكه وتصرفاته وحكمه على الأمور بصورة غير صحيحة، يسبب إزعاجا فظيعا للأسرة وللجيران ولزملاء العمل.

واختلال الصحـة النفسـية، سـواء كان بسـبب أمـراض نفسـية أو عقلية، يجعل أسرة المريض تتألم، ولا يوجد مرض في أي فرع من فروع الطب يسبب ألما وإزعاجا وحيرة للأسرة مثل الـمرض النفسي أو المرض العقلي.. فأي مرض عضوي محصور في جزء من الجسم، وبالتالي فهو محصور في صاحبه، ولا تمتد آثاره إلى الآخرين (ماعدا طبعا الأمراض الـمعدية) .. وأعراض المرض العضوي إما ألم أو خلل في الوظيفة.. أما أعراض المرض النفسي أو العقلي فإن آثارها تمتد مباشرة إلى الآخرين، وتؤثر على حياتهم، إنها أعراض تشتمل في بعض الأحيان على اضطراب علاقة المريض بالآخرين خاصة أفراد أسرته.. وبقدر ما تتأثر الأسرة بالمرض النفسي أو المرض العقلي فإنها أيضا تؤثر في مسار المرض ونتائج العلاج.. بل قد تكون من أسباب المرض، أو على الأقل من العوامل التي فجرت ظهور المرض.

فالتأثير متبادل بين الأسرة ومريضها.. الألم متبادل أيضا .. ذلك أن الأسرة (ربما بحسن نيه وبسبب عدم المعرفة) قد تزيد من آلام [ ص: 149 ] المريض.. والغريب أن الحب الزائد قد يكون سببا في ازدياد آلام المريض.. والغريب أيضا أن الاهتمام الزائد قد يكون سببا في ظهور المرض.. وبالمقابل فإن الإهمال وإنكار المرض أو إنكار حق المريض في أن يمرض وأن يتألم، قد يكون سببا في مزيد من معاناة وآلام المريض!

وطريقة عمل الأسرة وتعاملها من المنظور النفسي، تثير الحيرة أحيانا، فكم من الأطفال أحضروا لنا بالعيادات النفسية وتكون شكوى الوالدين أنه غير مطيع وغير مكترث بدروسه، ويعاني من اضطراب الـمسلك، وفي النهاية نكتشف أن الطفل غير مريض، وإنـما المريض هو شخص آخر داخل الأسرة كأحد الأبوين مثلا، ويكون هو سبب الأزمة النفسية التي يعاني منها الطفل.

وكم لاحظنا أن بعض الأسر تقام داخلها أحلاف تآمرية، يستقطب فيها أحد الوالدين مجموعة من الأطفال، ويستقطب الآخر مجموعة أخرى! ولئن كانت هذه الظاهرة النفسية لا شعورية في كثير من الحالات، إلا أنها بلا شك تهز كيان الأسرة.

وها هي بعض الأسر أيضا لديها ما يعرف «بالطفل الخاص»، الذي يعامل معامـلـة فيها الكثـير مـن التدليـل، ويفـرض حـولـه طـوق نفسي مـما يضر به وبإخوته الآخرين من ناحية الـتربية والتـنشئة النفسية. [ ص: 150 ]

ولذلك فالأسرة يجب أن تعرف وأن تتثقف.. والطبيب النفسي لا يجب أن يكون اهتمـامه محـصورا فقـط في مريضه، وإنما يجب أن يمتد هذا الاهتمام ليشمل أسرة المريض.. فالأسرة شريكة في المعاناة وقـد تكون شريكة (بـدون قـصـد) في حـدوث المـرض.. والعلاج لا يمكن أن يحقق نجاحه الأكمل إلا باشتراك ومعاونة الأسرة.

من سمات الأسرة المسلمة:

وفيما يلي محاولة لتلمس بعض الملامح والسمات التي تتصف بها الأسرة الإسلامية والعربية في كثير من الأحيان:

1- إننا كثيرا لا نعترف بالمرض النفسي، أو ننكر على أي إنسان الحق في أن يتألم نفسيا.

2- مشكلتنا أننا لا نهتم إذا عبر أحد أعزائنا عن معاناته النفسية، ولكننا ربما نعطي اهتماما سخيا إذا اشتكى عضويا.

3- مشكلتنا أن سخـاءنا مادي، واهتمامنا محدود بالمعنويات، معاناة وعطاء.

4- مشكلتنا في كثير من الأحيان أننا نرفض أن نعرف، بل ونقاوم بشدة من يحاول أن يأخذ بأيدينا لنعرف، ونظل متشبثين ببعض الأمور القديمة البالية. [ ص: 151 ]

5- مشكلتنا الكبرى هي اختفاء الحوار في البيت الإسلامي العربي.. وبالتالي كلامنا النافع الذي يلبي الحاجات النفسية لأفراد الأسرة قليل، ولذا فإن تعبيرنا عن متاعبنا معدوم.

6- قليلون جدا الذين يعرفون شيئا عن الطب والصحة النفسية.. وما يعرفونه قليل جدا، وهو مأخوذ عن أجهزة الإعلام، وكثـيرا ما تنقصه الدقة.

7- من مشاكلنا أن مفهوم العلاج الديني اختلط لدى الكثيرين، وتم استغلاله لمنافع دنيوية من آخرين، وقد حملنا العين والسحر والمس فوق طاقتها، وهذا أنسانا الرقى الشرعية والمعلوم من الدين بالضرورة.

8- من مشاكلنا أننا نرتكب أخطاء تربوية كبيرة، خاصة حين نعامل أطفالنا كشريحة واحدة، ويفوت علينا أن لكل طفل كيانه ووجدانه ودرجة استعداده الخاصة به، فهناك من يفيد معه التشجيع، وآخر لا بد أن يكون أسلوب الترهيب هو الأنفع معه، وثالث بين هذا وذاك، وهكذا.

موقف البيت العربي من الطب النفسي

ومن خلال التجارب والخبرة في التعامل مع المريض العربي بصفة [ ص: 152 ] عامة، يمكن أن نلخص موقف البيت العربي من الطب النفسي على النحو التالي:

1- ما زالت زيارة الطبيب النفسي من الأشياء المفزعة، التي تهز الأسرة، وترفضها بشدة في البداية.. فإذا اشتكى عضو في الأسرة من مشكلة نفسية وتجرأ وطلب زيارة الطبيب النفسي، فإن رد الفعل الأول والتلقائي من الأسرة هو الرفض بشدة، ومحاولة تهوين الأمر بأن الحالة لا تستحق استشارة طبيب.

2- بعض الناس الذين يتألمون نفسيا يترددون كثيرا في زيارة الطبيب النفسي، خشية افتضاح أمرهم.. فهذه الزيارة تعني أنهم مصابون بالجنون.. فلدى بعض الناس تصور خاطئ، وهو أن كل من يزور الطبيب النفسي مختل عقليا.

3- والذي يزور العيادة النفسية من المرضى النفسيين يجـيئ بعـد تردد طـويل، وبعد معانـاة أطـول، استهلكت وقته وصحته وأمنه وسعادته.

4- وإذا عاد المريض بدواء قرره له الطبيب النفسي، فإن الأسرة تفزع مرة ثانية.. وبناء على معلومات خاطئة، يتصورون أن هذه الأدوية تسبب الإدمان، ويتبارون في نصح المريض بعدم تعاطيها، ويشككون فيها، وبذلك يزيدون من حيرته [ ص: 153 ] ومعاناته.. بعضهم يتصور أنها تؤذي المخ أو الكبد وأنها نوع من المخدرات التي ربما تفتك به.

5- وفي الحالات التي تقتنع فيها الأسرة بأهمية العلاج، وخاصة في حالة الـمريض العقلي، فإن الأسرة تنصح أو تأمر مريضها بالتوقف عن العلاج بعد فترة معينة، إذ يكون المريض قد أظهر تحسنا، ولا يدرون ضرورة في استمراره على العلاج.. والنتيجة طبعا هو تدهور حالة المريض مرة أخرى.

6- مـع ظهور أي أعـراض جـانـبـية فـي بـدايـة العـلاج، حـتى ولـو كانت بسيطة، فإن الأسرة تمنع مريضها من الاستمرار في العلاج، أو قد يتوقف المريض ذاته عن استعماله، وقد لا يعاود الاتصال بالطبيب أو زيارته مرة أخرى، وقد يذهبون به إلى طبيب ثان وثالث.

7- زيارة الطبيب النفسي قد تكون بداية لمشاكل جديدة في حياة الأسرة.. فالزوجة يضايقها أن يذهب زوجها إلى طبيب يحكي له مشاكله، وقد تكون هذه المشاكل مرتبطة بحياته الزوجية.. والزوج يزعجه أن تفضي زوجته للطبيب بأسرارها. ولذا يحاول الطرف السليم أن يفت في عزم شريك حياته المريض ويثنيه عن الذهاب إلى الطبيب، أو إنهاء العلاج قبل أن يتم، وإذا وجد [ ص: 154 ] معارضة، فإنه يبدي تذمره وعدم ارتياحه، وذلك مما يخلق صراعات جديدة.

الأسرة المنتجة للمرض النفسي

الأسرة المنتجة للمرض، فرض يطرحه بعض علماء النفس والأطباء النفسيون معا، وذلك بعد أن اكتشفوا من خلال الدراسة والعلاج الدور الكبير الذي تلعبه الأسرة في اضطراب الفرد، وهم بذلك يعطون لبنية الأسرة وظروفها الاقتصادية والاجتماعية بصفة عامة ثقلا خاصا في توفير الصحة أو نشأة المرض.

وفرض «الأسرة المنتجة للمرض»، يقوم على أساس أن هناك بعض الأسر -بحكم بنيتها- أسر غير سوية.. ويفصح عامل اللاسواء في الأسرة عن نفسه من خلال أحد الأبناء.. وعادة ما يكون هذا الابن أكثر الأبناء تهيأ للإصابة بالمرض، وقد يكون أساس هذا التهيؤ وراثته لقدر أكبر من الاستعداد للمرض.

وطبقا لهذا الفرض، فإن مرض الفرد في هذه الحالة مرض أسرة بكاملها، أفصح عن نفسه من خلال أضعف الحلقات في الأسرة، وهو الطفل الأكثر تهيأ للاضطرابات. [ ص: 155 ]

ويلاحظ أن معظم الدراسات والبحوث التي تمت في إطار فرض «الأسرة المنتجة للمرض» تمت على مرضى «الفصام»، وهو مرض عقلي رئيس.. وقد ركز « هندرسون » في أبحاثه، على العوامل البيئية، وفي مقدمتها الأسرة، واعتبر أن «باثولوجية» العصاب هي أساس «باثولوجية» العلاقات البيئية الشخصية.. وخصت معظم هذه الدراسات الأم بقدر أكبر من عامل اللاسواء، وبالتالي النصيب الأوفى من مسئولية اضطراب الطفل.

وفيما يلي بعض العمليات المرضية في «الأسرة المنتجة للمرض»:

1- المناخ الوجداني غير السوي: يرى « أكرمان AcKerman» أننا في أسر الكثير من المرضى أمام جو أسري غير طبيعي وغير سوي.. ويركز « أكرمان» على الاتجاهات العاطفية المتفاعلة في الأسرة، ويرى أنه يوجد فيها نوع من التناقض بين ما يبدو على السطح، وما يحدث في الداخل، فما يبدو على السطح يوحي بالهدوء والثبات والاستقرار، ولكن هذا الهدوء لا يقوم على أسس قوية داخل الأسرة، وعلى نوعية العلاقات بين أفرادها.

وعليه فإن هذا الهدوء الظاهري والمصطنع عرضة لأن تمزقه بعض الثورات الانفعالية العنيفة التي ربما تبدأ من حادث صغير تافه [ ص: 156 ] ولكنها سرعان ما تجتاح الأسـرة كـلها، وينـقلب الهدوء إلى إثارة غامرة وذعر شديد، وهذا بلا شك سوف يحول المنزل إلى مكان موحش، فارغ من العلاقات الإنسانية الدافئة.

وفي مثل هذه الأسرة، حرص على تأكيد قيم التفاني الكاذب، والتضحية الجوفاء، التي لا مبرر لها.. ويشعر أبناء هذه الأسر بالقلق والذنب، وتسري عدواها بسهولة من واحد إلى آخر.

وفي هذا الجو الكئيب، يخاف عضو الأسرة دائما من أن يلام، وأن يسب، وأن يعاقب.. وكدفاع ضد هذا الخوف، تنمو لدى عضو الأسرة الحاجة إلى كبش فداء، وإلى إلصاق التهم بالآخرين، ودمغهم بأوجه النقص بأسلوب إسقاطي.

2- فجاجة الوالدين: يعتبر عدم اكتمال نضج الشخصية، أو الفجاجة عند الوالدين -أحدهما في بعض الأحيان، أو كليهما في معظم الأحيان- في مقدمة العوامل المهيئة للمرض عند الأبناء.. وقد تحدث عن هذا العامل بعض الباحثين البارزين الذين اجتهدوا في البحث عن دور العوامل الأسرية في الاضطرابات النفسية، وقد خلص « بوين Bowin» إلى أن علاقة المريض بأمه عامل حاسم في نشأة المرض ونموه، خاصة مرض الفصام. [ ص: 157 ]

ويرى « بوين » أن نسبة الفجاجة عند الآباء تتركز عند أحد الأبناء، وبالتـالي فإن هـذا الابن يكون حـاملا لدرجـة أكبر من عـدم السـواء مما هو موجود عند أي من والديه، وهكذا قد تستمر عملية الفجاجة من جيـل إلى جيل، وينتج عن هذا التـراكم نمو الأعراض المرضية، كما أن التباعد العاطفي بـين الوالـدين، أو ما أسماه «بـوين»: «الطلاق العاطفي»، يؤدي، بجانب ذلك، إلى أن تميل الأم لتكون الطرف المسيطر، بينما يتخذ الوالد موقف الخنوع.

كل ذلك يؤثر سلبا على الصحة والنمو النفسي للأبناء، مما ينتج عنه طفل عاجز، وحين يصبح راشدا يكون سيء التوافق، ثم يتحول إلى مريض عاجز.

3- موقف الرابطة أو الرسالة المزدوجة: وهذه من أشهر التفاعلات المرضية، التي تحدث عنها « باتسون » وزملاؤه، وفيها يكون الطفل عرضة لرسائل متناقضة من والديه.. وتعرض الطفل باستمـرار لهذا المـوقـف، من شأنه أن يـؤدي به إلى المسالك والدروب المرضية.

4- القيم الشخصية المنحرفة: وقد تحدث عن هذه القيم ودورها في نشأة المرض « شولـمان »، الذي اعتقد أن المريض يصنع [ ص: 158 ]

ولا يولد، وهذه الصناعة تبدأ من الطفولة.. ويرى « شولمان » أن هنـاك عاملا وسيطا بين التنشـئة الوالـديـة والاضطرابات النفسية، وهو ما أسماه القيم الشخصية.

وهذه القيم أو القناعات الشخصية يكونها الفرد بنفسه من خلال معيشته في كنف والديه، وفي ظل تنشئتهما له، وفي سياق تعليمهما له كيف يستجيب في مختلف المواقف.. وإذا كانت هذه القيم سوية أو صحية، فإنها تساعد الفرد على أن يتوافق مع بيئته، ويسلك سلوكا سويا، أما إذا كانت غير سوية أو منحرفة أو خاطئة، فإنها تكون عاملا من عوامل الاضطراب النفسي.

وبما أن الطفل هو أضعف الحلقات، كما أنه أطول مخلوقات الله طفولة، فإن ذلك يجعله عرضة للمؤثرات البيئية الأسرية لفترة طويلة، مما ينتج عنه الأنماط السلوكية المختلفة.

فهناك الطفل الذي يرى أنه متغير وذلك نتيجة لسلوك الوالدين نحوه، كما يوجد أيضا الطفل النزاع إلى السيطرة والتسلط، ويصطنع لذلك الأزمات العاطفية، وألوان السلوك الابتزازي، يجبر والدته على أن تسلك معه سلـوكا خاصا.. وهنـاك الطفـل القصوري العاجز، وهو سيء التوافق في معظم المواقف، مما ينتج عنه الإحباط والفشل. [ ص: 159 ]

عمليات مرضية أخرى

ومن أهم هذه الأعمال: الفشل في تكوين أسرة محورية «نووية».. وفي هذه الأسـرة يبقى أحد الوالدين أو كلاهما مرتبطا -بطريقة طفلية- بأسرته الأصلية، مما يجعله حتى بعد الزواج والإنجاب لا يستطيع أن يتجه بعواطفه إلى أسرته الجديدة.. وقد يظل بعضهم مشتتا عواطفه نحو أسرته الجديدة وأسرته القديمة.

ومن صور الفشل كذلك، الانقسامات في الأسرة، والتي أشرنا إليها بتكوين الأحلاف والتكتلات أو مجموعات داخل الأسرة.. والانحرافات في الأسرة، وإن صدرت من فرد واحد فمن شأن ذلك أن يصم الأسرة كلها بالسوء واللاخلاقية.

ومن المعضلات التي تواجهها الأسرة العزلة الاجتماعية والثقافية، وكذلك الفشل في تعليم الأبناء، وتسهيل تحررهم من الأسرة.

ومن الأساليب الخاطئة أيضا، إعاقة عمليات التنميط الجنسي والهوية الجنسية للأطفال، مما يجعلهم غير مدركين لحقائق الحياة بصورة صحيحة. [ ص: 160 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية