الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        البعد الحضاري لهجرة الكفاءات

        نخبة من الباحثين

        3- محتوى البعد الرسالي في هـجرة العقول المسلمة

        الإسلام دين عالمي، على معنى أنه موجه للناس كافة، والمسلمون جماعة مكلفون بتبليغه في كل زمان ومكان، وكل فرد من أفراد المسلمين مكلف أيضا بهذا التبليغ على قدر طاقته،

        وهو مدلول قوله تعالى: ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن [ ص: 47 ] اتبعني ) (يوسف:108) ، وكلما توفرت إمكانيات التبليغ المادية والمعنوية بأقدار أكبر أصبح واجب الدعوة آكد وأثقل، سواء بالنسبة إلى مجموع الأمة أو بالنسبة إلى أفراد المسلمين على حد سواء.

        والمسلمون في مقابل ذلك التبليغ وفي سبيل إتقانه وإحسانه أيضا مدعوون بحكم الدين إلى أن يتحروا الحق أينما كان، وأن يأخذوا به ويتبعوه ويعملوا وفقه.. وإذا كان الحق في شرح أحوال الوجود وفي توجيه الحياة يجدونه في دينهم تاما غير منقوص، فإنه في الشئون الكونية المادية، وفي الشئون التقنية والإدارية المدبرة للحياة، قد يجدونه في الكسب الإنساني العام، فيكونون مدعوين دينا إلى أن يطلبوه من ذلك الكسب، وفقا في ذلك للمأثور الإسلامي من أن ( الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها ) [1] .. وقد كانت التجربة الحضارية الإسلامية في ذلك تجربة ثرية غنية، حيث استفاد المسلمون في بناء حضارتهم استفادة كبيرة من حضارات الأوائل وعلومهم الكونية كما هـو معلوم.

        من هـذا المنطلق ذي الوجهين: عالمية الدين المقتضية للتبليغ، وواجب الاستفادة من الحق الذي يتضمنه الكسب الإنساني العام، [ ص: 48 ] يمكن أن ترتسم الملامح الأساسية لمحتوى البعد الرسالي في هـجرة العقول المسلمة إلى الغرب، إذ يكون هـو أيضا محتوى ذا اتجاهين متكاملين: ينحو في الأول منحى العطاء بتبليغ الإسلام إلى أهل الغرب، وينحو في الثاني منحى طلب الحقيقة من كسوبهم العلمية الكونية والتقنية والإدارية لإفادة الإسلام والمسلمين بها، فتكون إذن رسالة مزدوجة النفع: عطاء لما هـو موجود من حقائق الإسلام وقيمه، وأخذ لما هـو مفقود من حقائق العلم الكوني والتقني والإداري.

        أ- رسالة التبليغ

        تعني هـذه الرسالة تبليغ الدين لأهل الغرب، وهو تبليغ لرسالة إيمانية حضارية شاملة، تتعلق بالمعتقد المفسر للوجود وللكون وللحياة، كما تتعلق بالقيم الخلقية والإنسانية العامة، وبالقوانين المنظمة للحياة في جميع وجوهها، توخيا في ذلك كله لسبل مختلفة متعددة، تلتقي جميعها عند الحسنى في طريقة التبليغ، وتفترق بعد ذلك من حيث الكيفية، بحسب أحوال المخاطبين بالدعوة، وبحسب الظروف المحيطة بها.

        والعقول الإسلامية المهاجرة إلى الغرب هـي عقول تنتمي إلى الإسلام وأهله، معتقدا وحـضارة وتاريخا، وهي وإن كان بعضها [ ص: 49 ] لا يلتزم بالإسلام التزام دعوة وتبليغ أو التزام تطبيق شامل لمقتضياته، فإنها جميعها أو معظمها تحمل رؤيته العقدية الفلسفية المفسرة للوجود، كما تحمل قيمه الإنسانية والحضارية العامة، وهي لذلك تعتبر بهجرتها إلى ديار الغرب نقلة لأنموذج ثقافي حضاري من مناخه الإسلامي إلى مناخ غربي ذي ثقافة وحضارة مغايرة، وذلك ما يوفر فرصة لدور رسالي يمكن أن تقوم به هـذه العقول في مهجرها الجديد. ويتمثل هـذا الدور الرسالي بمجمله في تبليغ الإسلام إلى أهل الغرب تبليغا يشمل جوانبه المختلفة، ويتم بأساليب متنوعة بحسب المقامات والأوضاع.

        ومن هـذا التبليغ تبليغ عقدي، يتمثل في عرض دعوي للإسلام في تفسيره للوجود وفي تنظيمه للحياة، وفق ما تسمح به الظروف والمقامات، وذلك على اعتبار أنه رؤية أخرى غير الرؤية السائدة عند الناس في بلاد الغرب، وعلى اعتبار أن تلك الرؤية تحمل من الحق والخير للإنسانية ما تكون به حلا لما تعانيه من المشاكل المختلفة الوجوه، بحيث تكتسب في عقول المخاطبين مصداقية تجعلها جديرة بالاهتمام والنظر والتأمل. وهذا الضرب من التبليغ ينحو المنحى النظري، وساحته في الغالب هـي ساحة الحوار الفكري والتدافع الفلسفي بين المفاهيم والنظريات والمذاهب. [ ص: 50 ] ومنه تبليغ قيمي، يتمثل فـي عرض دعوي أيضا للقيم الإسلامية ذات الطابع الخلقي والإنساني منها على وجه الخصوص، وهو عرض لمنظومة من القيم المتـكاملة التي تـحدد المبادئ الكبرى الحاكمة للعلاقات بين بني الإنسان سواء على المستوى الإنساني العام، أو على مستوى الجماعات والفرق، أو على مسـتوى الأسر، أو على مستوى الأفراد.

        وإذا كان هـذا التبليغ القيمي يمكن أن يكون عرضا نظريا حواريا، فإن الجانب الأهم فيه هـو العرض الفعلي العملي متمثلا في التحلي بتلك القيم في التعامل مع الآخرين على جميع مستويات التعامل، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وإنسانيا، بحيث تقدم تلك المنظومة القيمية للناس أنموذجا عمليا يعيشها أهل الغرب واقعا في تعاملهم مع العقول المهاجرة، ويشاهدونها أنموذجا تطبيقيا في حياتهم.

        ومنه تبليغ حضاري تعميري، يتمثل في عرض الأنموذج الإسلامي من جهة التعمير في الأرض، وذلك فيما يتعلق على سبيل المثال بالاهتمام بالعلم الكوني والجد فيه بالبحث والابتكار، والاهتمام بالتكنولوجيا والجد فيها بالاختراعات والتصنيع، والعناية بالعمل كله والإتقان فيه، والإحسان في التعامل البيئي في كل اتجاهاته [ ص: 51 ] ومستوياته، والإنتاج الفني المميز في المجال المعماري خصوصا وفي غيره من المجالات عموما، والنحو في ذلك كله نحوا ثقافيا إسلاميا يبدو في مختلف تلك التصرفات، إن بصفة مباشرة أو غير مباشرة، بحيث يرتبط في ذهن المتعامل معها والراصد لها ظاهرها المشهود بخلفيتها المرجعية الثقافية الإسلامية.

        ومن البين أن هـذا العرض الدعوي الحضاري هـو بالأساس عرض عملي تطبيقي، وإن كان فيه من دور للمناظرة والحوار فهو دور تابع للتطبيق والعمل.

        ب- رسالة الانتفاع

        لا شك أن البلاد الغربية حققت أقدارا كبيرة من التقدم في العلوم الكونية وتطبيقاتها التكنولوجية، وفي التنظيم الإداري والسياسي للحياة الاجتماعية.. والعقول الإسلامية المهاجرة، بما تنطوي عليه من قوة، قادرة على أن تستوعب ذلك التقدم بكفاءة عالية، بل هـي قادرة على أن تساهم فيه بالإنتاج كما أثبتت ذلك التجربة الواقعية متمثلة في تحقيق الكثير منها لإنجازات اختراعية معتبرة وصلت بها إلى أعلى مراتب الجوائز العالمية.

        وبما أن هـذه العقول المهاجرة، وإن كانت قد انتقلت من بلادها الإسلامية إلى البلاد الغربية، فإن ذلك لا يعني انبتاتها عن البلاد التي [ ص: 52 ] هاجرت منها، بل هـي حتى وإن هـاجرت الهجرة الدائمة فتكون بالمعنى السياسي منتمية إلى مهاجرها، فإنها تبقى باعتبارها مسلمة منتمية إلى دائرة الأمة الإسلامية، بالمعنى العقدي والثقافي والحضاري، وهذا الانتماء يقتضي منها أن تقوم بدور رسالي تجاه الأمة التي تنتمي إليها، ولكنه دور رسالي في اتجاه معاكس للدور السابق، إذ هـو يتجه من بلاد المهجر نحو البلاد الإسلامية.

        ويتمثل هـذا الدور في إفادة البلاد الإسلامية بما يتيسر الإفادة به مما توصلت إليه الحضارة الغربية من العلوم الكونية والاختراعات التقنية والنظم الإدارية، وذلك بنقل تلك المكاسب إلى المسلمين، وتيسير سبل استفادتهم منها، وإدخالها إلى حركة الحياة، ويمكن أن يشتمل هـذا الدور على عدة عناصر مختلفة ولكنها متكاملة.

        ومن تلك العناصر: تمثل مكاسب الحضارة الغربية تمثلا صحيحا، سواء تعلق ذلك بالعلوم الكونية أو بالعلوم الإنسانية، بحيث تكون العقول المهاجرة مسـتوعبة لتلك المكاسـب على حقيقتها كما هـي عند أهلها دون تأويل لما يقبل منها التأويل، استيعابا يشمل مفردات العلوم كما يشمل منازلها في الشبكة المعرفية العامة، عموديا في التاريخ، وأفقيا في المشـهد المعرفي الشامل، فيكون علمـهم فيها [ ص: 53 ] لا يقل عن علم مخترعيها بها، تحصيلا للموجود المتراكم، ومتابعة للحادث الجديد، وذلك على نحو ما كان من صنيع الإمام الغزالي حينما درس، الفلسفة اليونانية فاستوعبها بدقة فاقت أحيانا علم أهلها بها، كما يبدو فيما دونه في كتابه الشهير «مقاصد الفلاسفة».

        ومنها تبين الخلفيات الثقافية والأسس المرجعية لكل ما يقع استيعابه من تلك العـلوم، سواء ما كان منها كونيا أو تكـنولوجيا أو إنسانيا، فإنه لا شيء منها إلا وهو ناشئ في منشأ ثقافي فلسفي ذي صفات خاصة، فيكون متأثرا بذلك المنشأ، إن قليلا أو كثيرا، وإن بصفة مباشرة أو غير مباشرة، فيكون استيعاب العقول المهاجرة لتلك المكاسب العلمية استيعابا لذاتها، واستيعابا أيضا لعللها وأسبابها، ومراجعها وموجهاتها، وأهدافها ونهاياتها، بحيث يكون العلم بها غير مقتصر على صورها، وإنما يكون شاملا لأبعادها المختلفة، فنية وثقافية وفلسفية، مهما بدا في بعضها من تمحض فني مثل بعض العلوم الكونية والتكنولوجية.

        ومنها العمل على نشر تلك المكاسب العلمية في أوساط الأمة الإسلامية وترويجها فيها، وذلك بتيسير وصولها إليها في مؤلفات [ ص: 54 ] توجه بحيث تناسب أوضاعها، أو بالتعليم المباشر في مؤسساتها حينما تسنح الفرصة لذلك، أو بمساعدة مؤسساتها العلمية بأي وجه من وجوه المسـاعدة على الحصـول عليها ونشـرها ضمن برامجـها، أو بمساعدة أبناء الأمة من البعثات الدراسية العلمية على استيعاب أكبر الأقدار منها، أو بأي وجه آخر من الوجوه الميسرة لانتقال تلك المكاسب العلمية المختلفة الوجوه إلى الأمة الإسلامية.

        ومنها تهيئة المكاسب الحضارية الغربية في وجوهها التطبيقية، بحيث تتلاءم مع الوضع الثقافي للأمة الإسلامية، وتسهم في تنميتها من خلال تلك الثقافة، لتنحو في وجهتها الحضارية وجهة متميزة تتلافى فيها النواقص والمنـزلقات التي وقعت فيها الحضارة الغربية، وتنسجم مع المقاصد التي يحددها دينها الذي هـو منبع ثقافتها ومرشد مسيرتها، وذلك بما يكون من ملحظ في التعامل معها لمناشئها الثقافية ومرجعياتها الفلسفية التي تؤثر فيها صياغة وغاية وتطبيقا، فيفصل فيها ما هـو حقائق مجردة عما هـو مستصحبات ثقافية فلسفية، وتقدم من قبل العقول المهاجرة للأمة على هـيئة من ذلك الفصل، وعلى تنبيهات إلى تلك المستصحبات، لتكون ملائمة لوضعها الثقافي ومقاصدها الدينية. [ ص: 55 ] إن هـذا المحتوى للبعد الرسالي في هـجرة العقول المسلمة، في طرفي الأخذ والعطاء، من شأنه أن يغير طبيعة تلك الهجرة من مجرد حركة انتقال آلي تحولت به تلك العقول من ضفة حضارية إلى أخرى، ومن نمط اجتماعي إلى آخر، عابرة ما بينهما من هـوة في سبيل تحقيق مآرب فردية ضيقة، مثل العيش في رفاهية من الحياة، أو الاطمئنان بالأمن، أو إشباع الطموح العلمي، مع بقاء تلك الهوة الفاصلة على حالها، إلى انتقال يحمل معه مخزونا ثقافيا قيميا حضاريا يبلغه إلى أهل الغرب، ويشارك به في حركة الحوار الحضاري من أجل المصلحة الإنسانية العامة.

        ومن شأن ذلك أن يغير من طبيعة تلك الهجرة لتكون هـجرة واصلة بين حضارتين، تحمل من كل منهما إلى الأخرى ما هـي في حاجة إليه من الحق النظري والعملي، لينمو الخير فيها وتضيق مساحة القصور، فتضيق إذن تلك الهوة الفاصلة، وتقترب الأمة الإسلامية من أمم الغرب بما تقدم إليهم من القيم الخلقية والدينية، وبما تأخذ من الكسوب المادية والإدارية، وفي ذلك خير الإنسانية، وفيه على وجه الخصوص خير الإسلام والمسلمين.. وإن العقول الإسلامية المهاجرة لمـؤهلة للقيام بهذا الدور الرسالي في هـجرتها. [ ص: 56 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية