المرحلة الثانية: مرحلة الدراسات الإنسانية والاجتماعية الحديثة
تطورت الدراسات الغربية التي تناولت المجتمعات المسلمة إلى مستوى آخر، حين انضوت تحت لافتة العلوم الإنسانية والاجتماعية، متجاوزة بذلك المرحلة الاستشراقية، سواء على المستوى العلمي أو التخصصي أو منهجية التعامل، وقد اختطت هـذه الدراسات لنفسها أكثر من منحى:
- دراسات تمت داخل المؤسسة الاستشراقية، لكنها أخذت عناوين جديدة كالأنثروبولوجيا، ومقارنة الأديان، واللسانيات، والتنمية السياسية، ونحوها، مستخدمة في ذلك مناهج وأساليب وتقنيات بحثية جديدة.
- دراسات المناطق: برز اهتمام نوعي في حقل العلوم الإنسانية [ ص: 24 ] والاجتماعية لدى العديد من الجامعات والمراكز العلمية والدوريات في الغرب، تمثل فيما سمي بـ «دراسات المناطق Area Studies» كدراسات الشرق الأوسط والدراسات الأفريقية وغيرها. وإذا كانت هـذه الدراسات، وهي تتناول النواحي النفسية والاجتماعية والدينية وغيرها، ظلت تستند إلى الموروث الاستشراقي، إلا أن تركيزها كان ينصب على ما هـو راهن وماثل من الظواهر والإشكاليات، مع محاولة الابتعاد عن الحجاجية والتصادم التي عرفت بها الدراسات الاستشراقية، فضلا عن الاستعانة بأدوات العلوم الإنسانية والاجتماعية وتقنياتها المستحدثة.
- دراسات عبرت عن نفسها في صورة خطاب معرفي، بسطت خلاله – وبشيء من المبالغة - النتائج التي تمخضت عن الدراسات الإنسانية والاجتماعية.
- معطيات بحثية روج لها خبراء ومعنيون داخل المؤسسات السياسية الغربية الفاعلة.
- ما تم ترجمته وتوظيفه في إطار المعرفة المدرسية والمناهج التعليمية، من معلومات وأفكار ونمطيات، دارت حول (الآخر)
[1] .
في ظل كل هـذه المراحل أو المستويات ظل البحث الغربي، سواء في مناهجه أو مفاهيمه أو نظرياته أو أنماطه التحليلية، مرتبطا بنموذجه المعرفي الخاص، الذي حكمته جملة من التحيزات، التي منعته من سبر غور الخصائص [ ص: 25 ] الذاتية (للآخر) وحالت بينه وبين ملامسة الحقائق الموضوعية، وبالتالي لم تكن توصيفاته ونتائجه ومقترحاته تعبر عن حقيقة الإنسان المدروس ومطالبه الأساسية، بقدر ما كانت تعبر عن رؤية الغرب وأنساقه المعرفية وأشكال علاقته بالآخرين.
ومن هـنا، ما كان إخضاع الشعوب المسلمة لعلوم خاصة يمثل اعترافا بخصوصيات تلك الشعوب، ولا توجها نحو الاهتمام بذاتياتها المستقلة، بل كان يعبر عن تلك المنزلة الأدنى، التي أنزل فيها الغرب غيره حتى سوغ لنفسه أن يفرد دراسة ذلك (الغير) ضمن علوم خاصة
[2] .
لذا فقد مثل الاستشراق - كأول مرحلة من تلك المراحل - «اختراعا غربيا» - على حد تعبير إدوارد سعيد - وعكس لا وعي الغرب وهو يصوغ موضوعاته عن (الآخر) على نحو يبتعد فيه مرة عن الواقع، ويرسمه أحيانا بـ «غرائبية» تصلح لتأثيث المتخيل الغربي - كما يقول « تيري هـانتش »
[3] أكثر من صلاحيتها لإغناء المعرفة وتقديم الحقيقة. ولعل الدراسات في المراحل والعناوين اللاحقة لا تختلف في جوهرها عن دراسات المرحلة المذكورة، حيث تعود البحث الغربي على تبديل أسلوب تعامله مع [ ص: 26 ] الظواهر دونما تغير حقيقي، سواء في المنطلقات أو المناهج أو المفاهيم، عدا أنه في المراحل الأولى، وعلى مستوى الأهداف، كان يقدم خدمة للإدارات الخارجية للمستعمر، ويصوغ خطابا معرفيا موجها للداخل؛ بينما أخذ في المراحل اللاحقة يضيف هـدفا آخر يتصل بالمتلقين في البلدان المدروسة، يتمثل في محاولة جعل هـؤلاء لا يرون أنفسهم ومجتمعاتهم إلا من خلال ما تصوغه عنهم الرؤية الغربية
[4] . وبهذه الانعطافة مثل البحث الغربي أحد أهم الأدوات المستخدمة في عمليات الغزو الثقافي.
وهذه الدراسة، تعنى بعرض المنطلقات الفكرية والنفسية والآيديولوجية، التي شكلت هـوية المنهج المعرفي، الذي حكم الدراسات الغربية التي تناولت الإنسان والمجتمع، في أفريقيا المسلمة بوجه خاص، ومتابعة بعض تجلياتها في بعض الفروع العلمية، مع محاولة استخلاص ما تستظهره وتستبطنه من تحيز، سواء على مستوى المنطلقات، أو المفاهيم، أو النظريات، أو التحليلات، أو الغايات.
وبهذا المعنى، فهذه الدراسة لا تتضمن تحليلا مباشرا لمضمون دراسات بعينها، بل تهتم باستخلاص الاتجاهات العامة التي تنطوي عليها مجمل الدراسات الغربية التي تناولت أفريقيا المسلمة بوجه خاص، والتي ينطوي خلفها منهج معرفي ونموذج إرشادي. [ ص: 27 ]
لهذا، عنينا بـ «المنهج المعرفي الغربي» بصفته تلك: الشبكة التي تتضمن المسلمات، والمفاهيم، والنظريات، والتحليلات، والغايات، التي ستخضع للمقارنة والتحليل والنقد على نحو إجمالي، والأمر كذلك نفعله عندما ننتقل إلى ملامسة «المنهج المعرفي الإسلامي» الذي تقدمه هـذه الدراسة بصفته بديلا لدراسة الإنسان والمجتمع في أفريقيا المسلمة.
وفي الجزء الأخير، حيث تقف الدراسة على واقع تدريس العلوم الإنسانية والاجتماعية في أفريقيا المسلمة، فإنها تحاول الخروج بمقترح منهاجي لتدريس هـذه العلوم في المؤسسات التعليمية الأفريقية، وتحديدا الجامعات الإسلامية، اهتداء «بالمنهج المعرفي الإسلامي» والمصادر التي تكونه، وليس من شك بأن ترجمة هـذا المنهج على الصعيد المذكور له قيمته التربوية والتغييرية، خاصة إذا ما عرفنا بأن الكثير من المتعلمين والباحثين في أفريقيا المسلمة، ما برح يقدم نفسه ومجتمعه وفقا لما تعكسه المرآة الغربية.
وأخيرا، إذا كانت هـذه الدراسة تتجه نحو نقد المعالجة المعرفية الغربية للإنسان والمجتمع في أفريقيا المسلمة بوجه خاص، فلعل محاولتها وضع بديل معرفي إسلامي يندرج ضمن عمليات تحرير المعرفة، وبالتالي تأصيلها إسلاميا؟ [ ص: 28 ]