1- مفهوم التنمية في الدراسات التنموية
التنمية من الناحية اللغوية مأخوذة من نما نموا، بمعنى الزيادة في الشيء، فيقال: نما المال نموا أي زاد وكثر. وأما من الناحية الاصطلاحية فقد اختلفت الأقوال في تحديد مفهوم التنمية، وسبب ذلك اختلاف الآراء حول عملية التنمية من حيث مجالاتها وشموليتها؛ فبعضهم يقتصر في تحديد مفهوم التنمية على مجال معين كالمجال الاقتصادي مثلا، فيقوم بتعريفها من خلال هـذا المجال المحدد للتنمية، بينما بعضهم الآخر يرى أنها عملية شاملة لمختلف المجالات، فيكون تحديد المفهوم تبعا لهذه الرؤية الشمولية للعملية التنموية.
وعلى الرغم من ذلك، فإن كلمة التنمية بوصفها مصطلحا ذا معنى محددا إذا أطلقت فتنصرف إلى معنى التنمية الاقتصادية في الغالب، ذلك أن الفكر الاقتصادي الغربي هـو الذي وضع مؤشرات التنمية في العصر الحديث، من خلال منظور اقتصادي. [ ص: 74 ]
فضلا عن ذلك، فإن التلازم بين التنمية والاقتصاد في الفكر الغربي، وانتشار هـذا المنظور وهيمنته الناتجة عن الهيمنة الغربية على العالم، والتبعية التي تميز بها العالم الثالث، جعلت المؤسسات الرسمية في العالم العربي والإسلامي، ولاسيما المسئولين عن مجال التنمية، يتجهون هـذا الاتجاه الغربي في حصر التنمية في المجال الاقتصادي وإهمال ما سواها، ظنا منهم أن هـذا التبني سيقود حتما إلى تنمية بلدانهم والخروج بها من التخلف والانحطاط الاقتصادي، ولكن الواقع خيب ظنهم.
لكن هـذا المفهوم للتنمية الذي يجعل من الإنتاج مقياسا لها بحيث إذا توفر نمو وزيادة في الإنتاج كانت هـناك تنمية، وإذا انتفى انتفت، قد ضيق من مجالات التنمية في المجتمعات الإنسانية، ثم حصر طاقات الإنسان المتنوعة، والتي يمكن تنميتها، في طاقة واحدة هـي الطاقة المادية المتمثلة في الإنتاج والاستهلاك لما أنتج. زد على ذلك، فإن جعل الإنـتاج مقياسا للتنمية، بحيث تكون التنمية الاقتصادية متوقفة على الإنتاج ليس بمقياس سليم في حد ذاته، بل إن الواقع يشهد بخلاف ذلك؛ فهذا المقياس قد حقق نجاحا باهرا في البيئة الغربية، لأن هـذا التوجه في العملية التنموية كان متماشيا ومنسجما مع النظرة الغربية للكون والإنسان والحياة.
وأما بلدان العالم الإسلامي فقد تبنت المنظور الغربي للتنمية وقامت بتطبيقه رجاء حصول نمو وتطور اقتصادي، لكن هـذا الرجاء باء بالخسران المبين، لا لضعف في الموارد الأولوية أو لقلة في الموارد الطبيعية. ولكن هـذا [ ص: 75 ] التصور والتوجه الغربي في التنمية كان دخيلا على العالم الإسلامي الذي له نظرة أو تصور خاص للكون والإنسان والحياة. وبناء على ذلك، فقد «انقضت ثلاثة عقود من «التنمية» وما تزال الدول -التي اصطلح على تسميتها بالنامية أو المتخلفة- تعاني من نفس الأزمات السياسية للمجتمع المتخلف، ولم تحقق تقدما ملحوظا في معظم المجالات السياسية والاقتصادية، بل إنها تراجعت في كثير من هـذه النواحي إلى مستويات من الممارسة والأداء والفعالية أدنى مما كانت عليه» [1] .
فهذا الخلل في مفهوم التنمية جعل المهتمين بها يعيدون النظر في تحديد معنى التنمية إدراكا منهم أن عملية التنمية ليست بمقصورة على الجانب الاقتصادي، لأن هـناك جوانب أخرى لها أهميتها في تحقيق نجاح التنمية الاقتصادية، فضلا عن الاهتمام بالإنسان بوصفه المحور الأساس للتنمية. وبناء على ذلك بدأ يظهر التوجه نحو التنمية الشاملة لمختلف مجالات الحياة والأنشطة الاجتماعية فنجمت «التنمية الاجتماعية» التي تهدف إلى إحداث تنمية بشرية.
وعلى الرغم من ظهور هـذا النوع من التوجه نحو التنمية الاجتماعية، فإن بعضا من علماء الاقتصاد حاولوا تسخيـر التنمية الاجتماعية لخدمة التنمية الاقتصادية بحيث تستثمر الأولى لحساب الثانية. وهذا التصور للتنمية [ ص: 76 ] الاجتماعية نجده عند هـيجنـز (Higgins) الذي عرفها بقوله: «عملية استثمار إنساني تتم في المجالات أو القطاعات التي تمس حياة البشر مثل التعليم والصحة العامة والإسكان والرعاية الاجتماعية ... الخ، بحيث يوجه عائد تلك العملية إلى النشاط الاقتصادي الذي يبذل في المجتمع» [2] . لكن علماء الاجتماع يخطـئون هـذا المفهوم للتنمية الاجتماعية ويرون أنها «العملية التي تبذل بقصد ووفق سياسة عامة لإحداث تطور اجتماعي واقتصادي للناس وبيئاتهم، سواء كانوا في مجتمعات محلية أو إقليمية أو قومية، بالاعتماد على المجهودات الحكومية والأهلية المنسقة، على أن يكتسب كل منهما قدرة أكثر على مواجهة مشكلات المجتمع نتيجة لهذه العمليات» [3] .