غربة العربية
عبد الرحمن بو درع [ ص: 25 ]
غربة الكلمة في زمن الغربة
ما زال اللسان في كل أمة جلاء الأذهان وصقل الخواطر، وديوان الأخبار والآثار. وإن لسان العرب المبين، من أبين الألسنة دلالة، وأوسعها معجما، وأذهبها في فنون القول والبلاغة، وصـنوف البيان والفصـاحة، مما خدم الكتاب المنـزل، وكلام نبيه المرسل، وكان عونا على فهمهما. ولقد عني به العلماء منذ القديم وخصوه بعناية لم يحظ بها لسان آخر؛ فوضعوا له الضوابط، خشية تفشي اللحن فيه، وجمعوا مفرداته وعباراته من البوادي ومظان الفصاحة، جمعوا الشعر من رواته، والأمثال والخطب من القبائل، وأسسوا علوم النحو والصرف والبلاغة والعروض. لقد أنفقوا الأعمار في خدمة اللغة، وبذلوا أنفسهم لحماية حواشيها من أعاصير الزمن. فظلت لغة العرب على قدمها، متجددة متطورة، متصلة اتصالا عضويا بالطبيعة والحياة، وشئون العبادة. ومرت بهذا اللسان القرون، تقلب فيها بين الصعود والهبوط، والغزارة والنزارة، وأتى عليه حين من الدهر عصفت به رياح «الحداثة» والتغيير، وتبين للعاقل –في زماننا هـذا– تغيره، ولاح للبيب تبدله؛ حيث كاد ييبس [ ص: 27 ] ضرعه بعد الغزارة، ويذبل فرعه بعد النضارة، وينحل عوده بعد الري والرطوبة، واعترته بين أهله وذويه حالة شديدة من الغربة، وهموم وكربة. ولا غرو، فإن هـذ اللسان المبين، اعتراه من الفتن ما اعترى هـذا الدين، من النوى والغربة، في وطنه وعقر داره. من هـنا يأتي هـذا البحث للنظر في بعض القضايا التي تربط العربية بالواقع، وما تعرضت له على مر السنين من حملات حرب وعداء، بسبب صلتها بالدين، فابتليت بما ابتلي به، من غربة وامتحان عسير، خرجت منه –وما زالت تخرج– سالمة معافاة لا يذعرها عائق، ولا يصرفها عن رسالتها الحضارية صارف، ولا تفزعها صيحات الخصوم. ولتسهم -من الناحية اللغوية- في هـذه التوعية الحضارية، والحصانة الثقافية، التي ترد للمسلم بين الأمم اعتباره، وتعيد بناء شخصيته، بعد الذي أصيبت به من تصدع واستلاب، وتعيد للعربية مكانتها العالمية في توطين العلم والثقافة والفكر والفن؛ إذ إن المعاصرة الحضارية والتواصل الثقافي ، يقتضيان المشاركة الفعالة والحضور الجاد بين الأمم. ولا يتم ذلك إلا بتطوير اللغة العربية وتزويدها بالمفردات الجديدة للعبارة عن الدلالات الجديدة والمفاهيم الجديدة. [ ص: 28 ]