غربة العربية في الواقع
العربية ومؤامرة التغريب
ومضت العربية حقبا طويلة تخدم التواصل والفكر والعلم والدين، إلى أن اصطدمت بحملات المؤامرة. والمؤامرة على العربية قديمة قدم المؤامرة على الدين، وقد لبست في بعض حلقاتها ثوب البحث العلمي، وهي صورة خادعة تجد لها ممن يلم بخيوط المؤامرة استجابة ساذجة.
ومن المعروف أن العربية كانت منحصرة في شبه الجزيرة قبل الإسلام، ثم بدأت تنتشر معه في كل اتجاه، واصطرعت مع لغات كثيرة أثرت فيها وتأثرت بها بعض التأثر، ولكنها سادت وعمت، وهي الآن تواجه صراعا شديدا بسبب ظهور جديد الحضارة والعلم الذي يفرض على العربية أن تستوعبه، وبسبب وجود لغات تنازعها البقاء، بعضها محلي وبعضها أجنبي، ولا بد أن تقاومها وتظهر عليها، وهي مطالبة بأن تتفوق على اللغات واللهجات، وتعبر عن الحضارة والعلم، وأن تستعيد دورها في إطار الجامعة الإسلامية بعد أن سلبتها إياه الجامعة اللاتينية
[1] ، وذلك بأن تستعيد مكانتها على ألسنة المسلمين ونمط تفكيرهم.
لقد كانت العربية ركنا من الأركان التي قام عليها نظام الحضارة الإسلامية بمفاهيمه ومصطلحاته ودلالاته، قبل أن يتم السطو على المصطلحات وتحريفها عن مواضعها لتزييف الحقائق وقطع التواصل بين
[ ص: 58 ] الناطقين بها، وهي مطالبة بأن تتفوق على اللغات الأجنبية وتحل محلها بالتعريب والترجمة وملاحقة المستجدات باطراد، لا أن تظل لغة «الأصالة» فحسب -كما زعموا لها– وتترك للأجنبية أن تكون لغة التقدم والتفتح، إنها مطالبة أن تكون لغة أصيلة متطورة حتى نتمكن من التفكير بها، فيتوحد أسلوب التفكير لدى ملايين المسلمين بتوحيد أسلوب التعبير عندهم.
و هـي مطالبة –كما أسلفنا القول– بأن تتفوق على العاميات؛ لأن العاميات جاوزت الحد الذي يجب أن تقف عنده؛ فمن الطبيعي أن نجد في جل اللغات ازدواجية «اللغة المكتوبة» و «اللغة المنطوقة»، ولكن المشكل هـو أن تزاحم العاميات اللغة الفصحى على ألسنة الناطقين وفي وسائل الإعلام... ولقد استمر الأمر كذلك حتى أصبحنا نسمع دفاعا عن العاميات والدوارج واللهجات المحلية ، بدعوى أنها اللغة المحكية ولغة الخطاب اليومي ولغة الواقع
[2] ، وأن العربية لغة كلاسيكية لم تعد تفي بمطالب الواقع المتطور.
[ ص: 59 ]
وقد صادف هـذا الصراع والتمكين للعاميات واللهجات مشكلة أخرى مكنت لها وزادتها رسوخا في المجتمعات العربية وفي أوساط القراء، وهي توقف القارئ عن متابعة النصوص العربية الجيدة، وفرضت مناهج التدريس نصوصا معينة على المتخصصين، بعيدة عن ميولهم وأذواقهم فرضا، ولم تراع هـذه المناهج أهمية إثارة حب الأدب والنصوص في نفوسهم والتعاطف معها، ففرضت عليهم بذلك غربة أدبية وتاريخية جعلت النصوص عندهم مجرد وثائق تاريخية أو فنية، وهذا جزء من غربة الدين. تقول
الأستاذة الدكتورة عائشة عبد الرحمن : «ليست عقدة الأزمة في اللغة ذاتها؛ العقدة -فيما أتصور- هـي أن أبناءنا لا يتعلمون العربية لسان أمة ولغة حياة، وإنما يتعلمونها بمعزل عن سليقتهم اللغوية: قواعد صنعة وقوالب صماء، تجهد المعلم تلقينا والتلميذ حفظا، دون أن تكسبه ذوق العربية ومنطقها وبيانها»
[3] .
إن وجود لغة عليا للفكر والأدب والعلم مع لهجات محلية للتعامل، ظاهرة طبيعية عرفتها العربية منذ قديمها الجاهلي، وتعرفها الدنيا في سائر اللغات الحية
[4] . ولهجات العربية عايشت الفصحى ولم تجر عليها، فظلت اللغة العربية لغة الدين والدولة والعلم والتعليم إلى يومنا هـذا، وظلت جامعة تجمع بين المسلمين على اختلاف أجناسهم وألوانهم وأقطارهم. وإذا كان هـناك من مفاضلة بين فصيحة وعامية فلم يدعى المتكلمون إلى اختيار الأدنى وترك الأعلى الذي في بقائه بقاء للقرآن الكريم؟
[ ص: 60 ] لكن الاستعمار استغل هـذه الظاهرة الطبيعية ليحارب العربية الفصحى، بلهجاتها الشعبية للوصول إلى تمزيق نسيج الأمة وفك وحدة اللغة والمزاج والفكر والفعل، وليجعل من الأمة الإسلامية عقليات متضاربة بدلا من عقلية واحدة. وهكذا ارتبطت العامية بالوجود الاستعماري الفرنسي والإنجليزي والإسباني، عندما صارت سلاحا ضد العربية الفصحى تناصبها العداء، وانطلقت حملات الاستعمار في المغرب والمشرق تكشف عن «جمود» الفصحى و «تخلف» أصحابها، وتدعو للعامية؛ لأنها قريبة من الأميين وليسر أدائها –بزعمهم– مثلما تدعو للغة المستعمر في التعلم والتقدم. وقد كانت
الجزائر ، بحكم سبق الاستعمار إليها، حقل التجربة في غزو الاستعمار لغرب العالم الإسلامي، وكانت
مصر مجالا للغزو في مشرق البلاد الإسلامية؛ ففي سنة 1893م ألقى المهندس الإنجليزي
«ويلكوكس» محاضرة في
مصر دعا فيها إلى إحلال العامية محل الفصحى في الكتابة والتأليف، وكان موضوعها هـو التساؤل : لم لم توجد قوة الاختراع لدى المصريين إلى الآن؟ وكان جوابه طبعا: أن العربية الفصحى -ولا شيء غيرها- هـي التي أماتت قوة الاختراع فيهم، ولا أمل في إحيائها إلا باتخاذ العامية بدلا منها.
ولا ننسى هـنا ما ذهب إليه العلامة الإنجليزي
«الدوس هـكسلي» من تخطئة من قال بضرورة كتابة العلم بلغة عامة الإنجليز؛ لأن ذلك يضعف المواهب العلمية ويقضي على ملكة الإنشاء بالفصحى، وترقية عقول العامة لفهم لغة العلم أفضل من نزول العلماء إلى العامة، فيتراجعون ويتأخرون.
[ ص: 61 ]
كما لا ننسى أن
إفريقيا كان يلاحقها شبح «الفرنكفونية» وذلك لمطاردة اللهجات المحلية والقضاء عليها، فجيش الاستعمار الفرنسي جيشا ذا عدة ثقافية واقتصادية وسياسية وذا نظريات علمية وآراء أكاديمية وعلماء يجتهدون في تسويغ سياسته والدفع بخططه وتثبيت وجوده، ثم ما لبثت هـذه المطاردة الفرنكفونية أن تطورت في صيغ مختلفة منها إحداث «اللجنة العليا للدفاع عن اللغة الفرنسية ونشرها» سنة 1966م، التي تحولت فيما بعد إلى «اللجنة العليا للغة الفرنسية»، ومنها إحداث «وكالة التعاون الثقافي والتقني» سنة 1970م ضمت خمسا وعشرين دولة ناطقة باللغة الفرنسية جزئيا أو كليا، وما زالت فرنسا إلى اليوم، تواصل عملها على إنعاش لغتها وثقافتها في الدول الإفريقية، بل نشطت في ذلك خصوصا بعد حركات الاستقلال الصورية التي عرفتها المستعمرات الفرنسية القديمة
[5] ، وقد عملت هـذه المنظمات الفرنسية على هـز الكيان اللغوي في إفريقيا الفرنكفونية وغرس بذور الثنائية اللغوية وتعهدها ورعايتها، للحفاظ على مصالح
فرنسا الاستعمارية في المنطقة، بل عمد
[ ص: 62 ] الاستعمار -كما تذكر النصوص
[6] - إلى إشهار السلاح في وجه العربية، وذلك بإصدار قرارات بحظر استعمال اللغة العربية بالقوة.
و لقد كان الهدف من وراء ذلك وقف العربية عن النمو، وهي لغة الفكر والعلم والعبادة لدى ملايين المسلمين، وإحداث لغة وسطى بين العامية والفصحى، وذلك للنزول بالثقافة والفكر إلى مستوى العامية.
ويتصل بهذا الهدف إقصاء القرآن الكريم عن اللغة، وعزل البلاد العربية، والفت في عضدها، وإبعادها عن فهم كتابها، وتعطيل أحكامه.
لقد استطاع الاستعمار بكل ما أوتي من قوى أن يستحوذ على البلدان المغلوبة على أمرها، وأن ينشئ خطابا لغويا استعماريا حول اللغة والثقافة يقدح في ثقافة تلك البلدان ويغض من شأنها الحضاري والتاريخي، زاعما أن اللغات الأوربية هـي اللغات الحقيقية التي تحمـل العلم والحضارة والثقافة، ولا يحصل على التقدم والرقي إلا بـها، ولا يولج عالم الحداثة والمعاصرة إلا بوساطتها، أما ما عداها فلا يعدو أن يكون لهجات أو لغيات أو لغات
[ ص: 63 ] قديمة لا تقوى على حمل الأفكار الحديثة والمفاهيم العلمية الجديدة، ولم تلبث أهداف الخطاب الاستعماري العنصرية أن تغلغلت في نفوس كثير من أبناء هـذه الأمة، فباتوا يستمسكون بها ويدافعون عنها ويتبنونها
[7] .
و من رواد هـذا الخطاب اللغوي الاستعماري العالم اللغوي
«شليجل Schlegel» صاحب نظرية التطور والارتقاء في اللغات البشرية، وقد قسم اللغات إلى فصيلة تحليلية وأخرى إلصاقية وثالثة عازلة
[8] ، وتعد اللغات الهندية-الأوربية -في نظره- في «قمة هـرم الارتقاء والتطور»، ولغات «السود في أسفل السلم»، لأنها لغات «بدائية»
[9] ويمثل
«شليجل» -في تصوره ونظرياته- التوافق التام بين الخطاب الإداري الاستعماري والخطاب اللساني في بداية القرن العشرين، حيث كانت الإدارة الاستعمارية تستعين بالعلماء والباحثين والمفكرين في تسويغ هـيمنتها وبسط نفوذها وترسيخ عقيدتها التي تزعم أن الشعوب المستعمرة حظيت بتعلم لغة العالم المتحضر، وأن لهجاتها هـي لا تقوى على حمل ثقل الأفكار الحديثة والمفاهيم العلمية، وليست أهلا لأن تصبح لغات صالحة للتعليم والبحث والثقافة.
[ ص: 64 ]
غُرْبَةُ العربيّةِ في الواقع
العربيّةُ ومؤامرةُ التّغريب
ومَضَت العربيّةُ حقَبًا طويلةً تخدم التّواصلَ والفكرَ والعلمَ والدّينَ، إلى أن اصطدمت بحملاتِ المؤامرةِ. والمؤامرَةُ على العربيّةِ قديمةٌ قِدمَ المؤامرةِ على الدّينِ، وقد لبست في بعضِ حلقاتِها ثوبَ البحثِ العلميِّ، وهي صورةٌ خادعةٌ تجدُ لَها ممّن يُلمُّ بخيوطِ المؤامرةِ استِجابةً ساذجةً.
ومن المعروفِ أنّ العربيّةَ كانت منحصِرَةً في شبهِ الجزيرةِ قبلَ الإسلامِ، ثمّ بدأت تنتشرُ معه في كلِّ اتّجاهٍ، واصطرعت مع لُغاتٍ كثيرةٍ أثّرت فيها وتأثّرت بِها بعضَ التّأثُّرِ، ولكنّها سادت وعمّت، وهي الآنَ تواجه صراعًا شديدًا بسببِ ظهورِ جديدِ الحضارةِ والعلمِ الذي يفرِضُ على العربيّةِ أن تستوعِبَه، وبسببِ وجودِ لغاتٍ تُنازِعُها البقاءَ، بعضُها محلّيّ وبعضُها أجنبيٌّ، ولا بدَّ أن تُقاوِمَها وتظهَرَ عليها، وهي مُطالَبَةٌ بأن تتفوّقَ على اللّغاتِ واللّهجاتِ، وتعبِّرَ عن الحضارةِ والعِلم، وأن تستعيدَ دورَها في إطارِ الجامِعةِ الإسلاميّةِ بعدَ أن سَلَبَتْها إيّاه الجامعةُ اللاّتينيّةُ
[1] ، وذلكَ بأن تستعيدَ مكانَتَها على ألسنةِ المسلِمينَ ونمطِ تفكيرِهم.
لقد كانت العربيّةُ ركنًا من الأركانِ التي قامَ عليها نظامُ الحضارةِ الإسلاميّةِ بمفاهيمِه ومصطلحاتِه ودلالاتِه، قبلَ أن يتمَّ السّطوُ على المُصطلَحاتِ وتحريفُها عن مواضعِها لتزييفِ الحقائقِ وقطعِ التّواصلِ بين
[ ص: 58 ] النّاطقينَ بها، وهي مُطالَبةٌ بأن تتفوّقَ على اللّغاتِ الأجنبيّةِ وتحلَّ محلَّها بالتّعريبِ والتّرجمةِ وملاحَقةِ المُستجدّاتِ باطّرادٍ، لا أن تظلَّ لغةَ «الأصالةِ» فحسبُ -كما زعموا لها– وتترك للأجنبيّةِ أن تكونَ لغةَ التّقدّمِ والتّفتّحِ، إنّها مُطالَبَةٌ أن تكونَ لغةً أصيلةً متطوِّرةً حتّى نتمكّنَ من التّفكيرِ بها، فيتوحّد أسلوبُ التّفكيرِ لدى ملايينِ المسلِمينَ بتوحيدِ أسلوبِ التّعبيرِ عندهم.
و هـي مطالبةُ –كما أسلفنا القولَ– بأن تتفوّقَ على العامّيّاتِ؛ لأنّ العامّيّاتِ جاوزتِ الحدَّ الذي يجبُ أن تقفَ عندَه؛ فمن الطّبيعيّ أن نجدَ في جلِّ اللّغاتِ ازدواجيّةَ «اللّغةِ المكتوبةِ» و «اللّغةِ المنطوقة»، ولكنّ المشكلَ هـو أن تُزاحمَ العامّيّاتُ اللُّغَةَ الفصحى على ألسنةِ النّاطقينَ وفي وسائلِ الإعلامِ... ولقد استمرَّ الأمرُ كذلِك حتّى أصبحنا نسمعُ دفاعًا عن العامّيّاتِ والدّوارِجِ واللّهجاتِ المحلّيّةِ ، بدعوى أنّها اللّغةُ المحكيّةُ ولغةُ الخطابِ اليوميِّ ولغةُ الواقعِ
[2] ، وأنّ العربيّةَ لغةٌ كلاسيكيّةٌ لم تعدْ تَفي بمطالبِ الواقعِ المتطوِّرِ.
[ ص: 59 ]
وقد صادف هـذا الصّراعُ والتّمكينُ للعامّيّاتِ واللّهجاتِ مشكلةً أخرى مكّنت لها وزادتها رسوخًا في المجتمعاتِ العربيّةِ وفي أوساطِ القُرّاءِ، وهي توقٌّفُ القارِئِ عن متابعةِ النّصوصِ العربيّةِ الجيّدةِ، وفرضت مناهجُ التّدريسِ نصوصًا معيّنةً على المتخصِّصينَ، بعيدةً عن ميولِهم وأذواقِهم فرْضًا، ولم تُراعِ هـذه المناهجُ أهمّيّةَ إثارةِ حبِّ الأدبِ والنّصوصِ في نفوسِهم والتّعاطُفِ معها، ففرَضَت عليهم بذلك غُربةً أدبيّةً وتاريخيّةً جعلت النّصوصَ عندهم مجرّدَ وثائقَ تاريخيّةٍ أو فنّيّةٍ، وهذا جزءٌ من غربةِ الدّينِ. تقولُ
الأستاذة الدكتورة عائشةُ عبد الرّحمن : «ليست عُقْدَةُ الأزمةِ في اللّغةِ ذاتِها؛ العُقدةُ -فيما أتصوّرُ- هـي أنّ أبناءَنا لا يتعلّمونَ العربيّةَ لسانَ أمّةٍ ولغةَ حياةٍ، وإنّما يتعلّمونَها بمعزلٍ عن سليقتِهِم اللّغويّةِ: قواعدَ صنعةٍ وقوالِبَ صمّاءَ، تُجهِد المعلّمَ تلقينًا والتّلميذَ حفظًا، دونَ أن تُكسِبَه ذوقَ العربيّةِ ومنطقَها وبيانَها»
[3] .
إنّ وجودَ لغةٍ عُليا للفكرِ والأدبِ والعلمِ مع لهجاتٍ محلّيّةٍ للتّعاملِ، ظاهرةٌ طبيعيّةٌ عرفتها العربيّةُ منذ قديمها الجاهلِيِّ، وتعرِفُها الدّنيا في سائرِ اللّغاتِ الحيّةِ
[4] . ولهجاتُ العربيّةِ عايشت الفصحى ولم تَجُرْ عليها، فظلّت اللّغةُ العربيّةُ لغةَ الدّينِ والدّولةِ والعلمِ والتّعليمِ إلى يومنا هـذا، وظلّت جامعةً تجمعُ بين المسلمينَ على اختِلافِ أجناسِهم وألوانِهم وأقطارِهم. وإذا كان هـناك من مُفاضلةٍ بين فصيحةٍ وعامّيةٍ فَلِمَ يُدْعى المتكلِّمونَ إلى اختيارِ الأدنى وتركِ الأعلى الذي في بقائهِ بقاءٌ للقرآنِ الكريم؟
[ ص: 60 ] لكنّ الاستعمارَ استغلَّ هـذه الظّاهرةَ الطّبيعيّةَ ليُحاربَ العربيّةَ الفصحى، بلهجاتِها الشّعبيّةِ للوصولِ إلى تمزيقِ نسيجِ الأمّةِ وفكِّ وحدةِ اللّغةِ والمزاجِ والفكرِ والفعلِ، وليجعلَ من الأمّةِ الإسلاميّةِ عقليّاتٍ متضاربةً بدلا من عقليّةٍ واحدةٍ. وهكذا ارتبطت العامّيةُ بالوجودِ الاستعماري الفرنسيّ والإنجليزيّ والإسباني، عندما صارت سلاحًا ضدّ العربيّةِ الفصحى تُناصبُها العداءَ، وانطلقت حملاتُ الاستعمارِ في المغربِ والمشرِقِ تكشفُ عن «جمودِ» الفصحى و «تخلُّفِ» أصحابِها، وتدعو للعامّيّةِ؛ لأنّها قريبةٌ من الأمّيّين وليُسْرِ أدائها –بزعمهم– مثلما تدعو للغةِ المستعمِرِ في التّعلُّم والتّقدّمِ. وقد كانت
الجزائر ، بحكم سبقِ الاستعمارِ إليها، حقلَ التّجربةِ في غزوِ الاستعمارِ لغربِ العالمِ الإسلاميّ، وكانت
مصرُ مجالا للغزوِ في مشرقِ البلادِ الإسلامية؛ ففي سنة 1893م ألقى المهندس الإنجليزيّ
«ويلكوكس» محاضرةً في
مصر دعا فيها إلى إحلالِ العامّيّةِ محلَّ الفصحى في الكتابةِ والتّأليفِ، وكانَ موضوعُها هـو التّساؤل : لِمَ لَمْ توجدْ قوّةُ الاختراعِ لدى المصريّين إلى الآن؟ وكانَ جوابُه طبعًا: أنّ العربيّةَ الفصحى -ولا شيءَ غيرُها- هـي التي أماتت قوّةَ الاختِراعِ فيهم، ولا أملَ في إحيائها إلاّ باتخاذِ العامّيّةِ بدلا منها.
ولا ننسى هـنا ما ذهب إليه العلاّمةُ الإنجليزيّ
«الدّوس هـكسلي» من تخطئةِ من قالَ بضرورةِ كتابةِ العلمِ بلغةِ عامّةِ الإنجليزِ؛ لأنّ ذلك يُضعفُ المواهبَ العلميّةَ ويقضي على مَلَكَةِ الإنشاءِ بالفصحى، وترقيةُ عقولِ العامّةِ لفهمِ لغةِ العلمِ أفضلُ من نزولِ العُلَماءِ إلى العامّةِ، فيتراجعونَ ويتأخّرونَ.
[ ص: 61 ]
كما لا ننسى أنّ
إفريقيا كانَ يُلاحقُها شبَحُ «الفرنكفونيّة» وذلكَ لمطاردةِ اللّهجاتِ المحلّيّةِ والقضاءِ عليها، فجيّشَ الاستعمارُ الفرنسيُّ جيشًا ذا عدّةٍ ثقافيّةٍ واقتصاديّةٍ وسياسيّةٍ وذا نظريّاتٍ علميّةٍ وآراء أكاديميّةٍ وعُلَماء يجتهدون في تَسويغِ سياستِه والدّفعِ بخُطَطِه وتثبيتِ وجودِه، ثمّ ما لبثَت هـذه المُطاردةُ الفرنكفونيّةُ أن تطوّرت في صيغٍ مُخْتلفةٍ منها إحداثُ «اللّجنة العُلْيا للدّفاعِ عن اللّغةِ الفرنسيّةِ ونَشْرِها» سنةَ 1966م، التي تحوّلت فيما بعدُ إلى «اللّجنة العليا للّغةِ الفرنسيّة»، ومنها إحداثُ «وكالة التّعاوُنِ الثّقافيّ والتّقْنيّ» سنة 1970م ضمّت خمسًا وعشرينَ دولةً ناطقةً باللّغةِ الفرنسيّةِ جُزْئيًّا أو كلّيًّا، وما زالت فرنسا إلى اليومِ، تواصلُ عَمَلَها على إنعاشِ لغتِها وثقافتِها في الدّولِ الإفريقيّةِ، بل نشطت في ذلك خصوصًا بعد حركاتِ الاستقلالِ الصّوريّةِ التي عرفتها المُسْتَعْمراتُ الفرنسيّةُ القديمةُ
[5] ، وقد عملت هـذه المنظَّماتُ الفرنسيّةُ على هـزِّ الكيانِ اللّغويّ في إفريقيا الفرنكفونيّةِ وغَرْسِ بذورِ الثُّنائيّةِ اللّغويّةِ وتعهُّدِها ورِعايتِها، للحفاظِ على مصالحِ
فرنسا الاستعماريّةِ في المنطقةِ، بل عمد
[ ص: 62 ] الاستعمارُ -كما تذكرُ النّصوصُ
[6] - إلى إشهارِ السّلاحِ في وجهِ العربيّةِ، وذلكَ بإصدارِ قراراتٍ بحظرِ استعمالِ اللّغةِ العربيّةِ بالقوّةِ.
و لقد كان الهدفُ من وراءِ ذلك وقْفَ العربيّةِ عن النّموِّ، وهي لغة الفكرِ والعلمِ والعِبادةِ لدى ملايينِ المسلمينَ، وإحداثَ لغةٍ وسطى بين العامّيةِ والفصحى، وذلكَ للنّزولِ بالثّقافةِ والفكرِ إلى مستوى العامّيّةِ.
ويتّصلُ بهذا الهدفِ إقصاءُ القرآنِ الكريمِ عن اللّغةِ، وعزلُ البلادِ العربيّةِ، والفتُّ في عضدِها، وإبعادُها عن فهمِ كتابِها، وتعطيلُ أحكامِه.
لقد استطاعَ الاستعمارُ بكلِّ ما أوتيَ من قُوى أن يستحوذَ على البلدانِ المغلوبةِ على أمرِها، وأن يُنشئَ خطابًا لغويًّا استعمارِيًّا حولَ اللّغةِ والثّقافةِ يَقْدَحُ في ثقافةِ تلكَ البُلدانِ ويغضّ من شأنِها الحضاريِّ والتّاريخيّ، زاعمًا أنّ اللّغاتِ الأوربّيةَ هـي اللّغاتُ الحقيقيّةُ التي تحمـلُ العلمَ والحضارةَ والثّقافةَ، ولا يُحْصَلُ على التّقدّم والرّقِيِّ إلاّ بـها، ولا يولَجُ عالمُ الحداثةِ والمُعاصَرةِ إلاّ بوساطتِها، أمّا ما عداها فلا يعدو أن يكونَ لهجاتٍ أو لُغَيّاتٍ أو لُغاتٍ
[ ص: 63 ] قديمةً لا تقوى على حملِ الأفكارِ الحديثةِ والمفاهيمِ العلميّةِ الجديدةِ، ولم تلبثْ أهدافُ الخطابِ الاستعماريِّ العُنْصُرِيّةُ أن تغلغلت في نفوسِ كثيرٍ من أبناءِ هـذه الأمّةِ، فباتوا يستمسكونَ بها ويُدافعونَ عنها ويتبنَّوْنَها
[7] .
و من روّادِ هـذا الخطابِ اللّغويّ الاستعماريّ العالِمُ اللّغويّ
«شليجل Schlegel» صاحبُ نظريّةِ التّطوُّرِ والارْتِقاءِ في اللّغاتِ البشريّةِ، وقد قسّمَ اللّغاتِ إلى فصيلةٍ تحليليّةٍ وأخرى إلصاقيّةِ وثالثةٍ عازلةٍ
[8] ، وتُعدُّ اللّغات الهندية-الأوربّيّةُ -في نظرِه- في «قمّةِ هـرمِ الارْتِقاءِ والتّطوّرِ»، ولُغات «السّودِ في أسفلِ السّلّمِ»، لأنّها لُغاتٌ «بدائيّةٌ»
[9] ويُمثّلُ
«شليجل» -في تصوّرِه ونظريّاتِه- التّوافُقَ التّامَّ بينَ الخطابِ الإداريِّ الاستعماريّ والخِطابِ اللّسانيّ في بدايةِ القرنِ العشرينَ، حيث كانت الإدارةُ الاستعماريّةُ تستعينُ بالعلماءِ والباحثين والمفكّرينَ في تسويغ هـيمنتها وبسطِ نفوذِها وترسيخِ عقيدتِها التي تزعم أنّ الشّعوبَ المُسْتَعْمَرَةَ حظيت بتعلّمِ لغةِ العالَمِ المتحضِّرِ، وأنّ لهجاتِها هـي لا تقوى على حملِ ثقلِ الأفكارِ الحديثةِ والمفاهيمِ العلميّةِ، وليست أهلا لأن تصبِحَ لغاتٍ صالحةً للتّعليم والبحثِ والثّقافة.
[ ص: 64 ]