المبحث الأول
أصول التربية الأخلاقية
سنعتمد في تحليلنا لمفهوم التربية الأخلاقية وأصولها على فلسفة الإسلام أكثر من اعتمادنا على أفكار وآراء الفلاسفة المسلمين، التي تمثل اتجاها فلسفيا نظريا بحتا يمثل مدرسة في مرحلة معينة من مراحل تطور الفكر الإسلامي بل اتجاها قد يكون محل نظر؛ لأنها تعتمد على المصادر الأجنبية أكثر من اعتمادها على الوحي الإلهي، لعدم أخذهم بضوابط فهم النص أصوليا، لذا سنقتصر في هـذا المبحث على بيان أصول التربية الأخلاقية معتمدين في ذلك على دراسة فلسفة التربية الأخلاقية في الفكر الإسلامي الصافي والمبادئ والنظريات المستنبطة منه من خلال الفهم الصحيح لأحكام القرآن الكريم والسنة النبوية وما تضمنها هـذان المصدران الرئيسان من مصارد التشريع الإسلامي من مفاهيم وأسس منهجية صالحة للتطبيق العملي في كل زمان ومكان، وبيان قدرتها على تنظيم حياة الفرد واستيعاب حركة الحياة وصولا إلى تحقيق الحياة الإنسانية المتكاملة وما فيها من سعادة الدارين للفرد والمجتمع.
ولهذا كان اعتمادنا أساسا على المنهج التربوي والأخلاقي الذي اعتمدته الشريعة الإسلامية، ثم نعرج إلى أفكار الفلاسفة؛ لأنهم سبقونا في [ ص: 44 ] التحليل والغوص والاستنباط، من أجل الوصول إلى تحديد المفهوم الصحيح للتربية الأخلاقية وأصولها في ضوء فهمنا وتحليلنا لمشكلاتنا الفكرية والتربوية المعاصرة.
ومن محاسن هـذا المنهج هـو الاعتماد المباشر على الفلسفة الإسلامية والنهل من مواردها وبحث مشكلاتنا بحثا موضوعيا بعيدا عن المؤثرات، وهذا يفضي إلى فهم فلسفة الإسلام في الأخلاق فهما موضوعيا عن طريق فهم أحكامه فهما شموليا، ونعني بذلك أن كل جزئية يجب أن تفهم من خلال فهم المنطق الشمولي الداخلي الذي يربط بين الأجزاء، إذ بدون هـذا الربط المحكم لا تكون الصورة واضحة.
فالمفهوم الشمولي لأحكام الإسلام يتجلى من الاعتماد الشامل على القدرة الذاتية في فهم الفكر الإسلامي ومنطلقاته فهما حقيقيا معمقا.. فالإسلام لا يخضع للفلسفة، كما لا يقرب بينه وبين أفكار الفلاسفة أو يوفق بينهما للخروج برأي مشترك، وإنما تعرض آراء الفلاسفة وأفكارهم على أحكام الشريعة الإسلامية، فإذا وافقتها أخذنا بها وإذا تعارضت معها ضربنا بها عرض الحائط، فمصدر الشريعة هـو الوحي الإلهي، ولهذا قال تعالى في وصف القرآن الكريم: ( ( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) ) (النساء:82). [ ص: 45 ]
وقد استنبط المفسرون [1] من هـذه الآية الكريمة مسائل منها: التدبير والتدبر عبارة عن النظر في عواقب الأمور وأدبارها، ويستدل منها على أنه تعالى احتج بالقرآن على صحة نبوة محمدصلى الله عليه وسلم من ثلاثة أوجه: فصاحته، واشتماله على الأخبار عن الغيوب، وسلامته عن الاختلاف.
وفي تفسير سلامة القرآن عن الاختلاف ذهب أكثر علماء الكلام أن المراد منه أن القرآن كتاب كبير، وهو مشتمل على أنواع كثيرة من العلوم، فلو كان ذلك من عند غير الله لوقع فيه أنواع من الكلمات المعبرة عن المعاني المتناقضة، لأن الكتاب الكبير لا ينفك عن ذلك، وهو المراد منه الاختلاف في رتبة الفصاحة حتى لا يكون في جملته ما يعد في الكلام الركيك، بل بقيت الفصاحة فيه من أوله إلى آخره على نهج واحد، ومن المعلوم أن الإنسان وإن كان في غاية البلاغة ونهاية الفصاحة، فإذا كتب كتابا طويلا مشتملا على المعاني الكثيرة، فلابد أن يظهر التفاوت في كلامه، ولما لم يكن القرآن كذلك علمنا أنه المعجز من عند الله تعالى.
أما مصدر الفلسفة فهو العقل، والعقل تارة يخطئ وتارة يصيب، ولهذا حرصنا على أن نعتمد على الفلسفة النابعة من صميم الإسلام نفسه، وبلوغ ذلك ليس بالأمر الهين، إذ يتطلب تحديد كثير من الأمور، منها: الرجوع إلى الأحكام والمبادئ والحقائق المستنبطة من القرآن والسنة [ ص: 46 ] دون الرجوع إلى أفكار الفلاسفة المسلمين، كما فعل بعض المستعربين؛ لأن الإسلام شيء وأفكار الفلاسفة شيء آخر، على الرغم من استنادهم إلى الشريعة واعتمادهم عليها في صياغة أفكارهم ونظرياتهم.. وبما أن احتمال خطئهم من حيث أنهم بشر يكون واردا، فإن نسبة خطئهم إلى الإسلام فيه إساءة للإسلام وتشويه لمبادئه، ولو من غير تعمد، أما التفريق فمن شأنه أن ينسب الخطأ إلى أفكارهم، وهو شيء منطقي مقبول.
على أننا لا نأنف من جهود هـؤلاء الفلاسفة الذين كان لهم الفضل في تحليل شخصية الفرد وسلوكه الإنساني وسبر مجاهل النفس والغوض في أعماقها، لذا جاءت أفكارهم مطابقة لمرحلتهم، ونحن لا يمكننا التسليم بحلولهم ولا نرتض بعموم المرحلة من حيث إنها عالجت مشكلات تعود إلى المواجهة الفكرية بين الإسلام والحضارات المحيطة به في حقبة زمنية معينة، وهذا يملي علينا أن نحلل المشكلات الخاصة بعصرنا لتشخيص أسبابها وإيجاد الحلول المناسبة لها وفق تصورنا، وليس وفق تصورهم، من أجل الإحاطة بحقيقة هـذه المشكلات ومن ثم الاستفادة من المعطيات العلمية التي وفرتها الحضارة المعاصرة؛ لأن زمننا غير زمنهم، ومشكلاتنا غير مشكلاتهم، فغاية بحثنا بلسمة أدوائنا ومشاكلنا الفكرية والتربوية والأخلاقية والنفسية لا بلسمة أدواء غيرنا، برؤيا واقعية تسودها الحكمة والعقلانية. [ ص: 47 ]
لذا ينبغي أن نلجأ في ذلك إلى المعين الأساس وهو الشريعة الإسلامية دون اللجوء إلى حلول الفلاسفة المسلمين أو غيرهم، إلا أن ذلك لا يعني، كما أكدنا أكثر من مرة، أن موقفنا يتسم بالرفض لكل الأفكار، فما اتفق مع طبيعة مشكلاتنا المعاصرة أخذنا به وما تعارض معها صرفنا النظر عنه، فنحن نجتهد في وضع الحلول المناسبة لأدواء عصرنا كما اجتهد هـؤلاء الفلاسفة في بلسمة أدواء عصرهم، وكل يجد غايته في القيم الضرورية ومقاصد الشريعة الإسلامية، التي تظهر الجانب الأخلاقي للتشريع الإسلامي وهدفه في المحافظة على إنسانية الإنسان في صورة حضارية رائعة.
وقد وجدت التربية الأخلاقية منذ وجدت المعرفة، ومنذ أن شغف المفكرون حبا بالتفكير والإبداع، فقد بحثها فلاسفة اليونان والرومان والفلاسفة المسلمون، كما ذكرنا، وما أكثر باحثيها في هـذا القرن المتسم بتشعب العلوم وتخصصها، وحسبنا نقدا للأقدمين والمحدثين التأمل في آثار التربية وفي ثمارها، إذ أزكى ثمارها الاستقامة الناجمة عن التوجيه الصحيح، لأن العلة والأصل أبلغ في التأثير من النتيجة أو الظاهرة، فالتغيير ينصب على العلة ليتغير الأثر تبعا له، وليس العكس، وإذا أمعنا النظر في سلوك الفرد المعاصر وجدناه، يافعا كان أو شابا أو كهلا أو شيخا، ذكرا كان أو أنثى، لم يوجه التوجيه السليم، أي أن البذر والإنبات لم يكن صحيحا، [ ص: 48 ] ولهذا خاطب الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: ( ( فاستقم كما أمرت ) ) (هود:112).
فعلى الاستقامة يترتب كثير من الآثار الخطيرة والمهمة في الحياة المعاصرة، وإن هـي إلا لحظة تأمل في الحربين العالميتين، الأولى والثانية، التي أذكى ضرامها أشد المجتمعات حضارة وتقدما، الحربين التي أكل لظاهما أفئدة الملايين من البشر، وما تبع ذلك من نيران قضت على الألوف من البشر، في كوريا وفيتنام وفلسطين، يستدل منها على صحة ما ذهبنا إليه.
ولم يستطع المختصون في التربية وعلم النفس القضاء على جرائم الدماء، إذ دلت الإحصائيات الجنائية المعتمدة في أغلب بلدان العالم على أنها تتكاثر، لأن الإنسان فقد الرادع الذاتي، ونعني به الخوف من الله، لهذا قلنا بخطأ النظريات التي تجاهلت هـذه الحقيقة.
وتجلت ثمار التربية الأخلاقية في المجتمع الإسلامي، إذ نجحت في أن تربي مجتمعا فاضلا متكافلا وأفرادا بطراز فريد من الرجال والنساء لم يشهد التاريخ مثله، استهجن كل منهم الجريمة ذاتيا، وإذا اقترفها أحدهم بإغواء شيطاني طهر روحه من أدرانها، وإن كان ثمن هـذا التطهير روحه. [ ص: 49 ]
وفي التاريخ الإسلامي المشرق يتجلى مبدأ التكفير عن الذنب، وإن اقترف سرا، في شواهد كثيرة، حرصا من هـؤلاء على نيل العقاب في الدنيا، الذي من شأنه أن يطهر أنفسهم في الآخرة، فشعور الجاني وإحساسه بأن الذي يناله إنما هـو تطبيق لأمر الباري عز وجل هـو الذي يفسر حرص الكثير من مرتكبي الجرائم والمعاصي على الإقرار باقتراف جرائمهم ونيل الجزاء المفروض، مما يساعد على توبتهم واندماجهم في المجتمع.
كما تجلى ذلك في قصة ماعز والغامدية، إذ اقترف ماعز جريمة الزنا سرا، ثم أقر أمام الرسول صلى الله عليه وسلم وأصر على إقراره أربع مرات، وفي كل مرة كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلتمس له عذرا، حتى تأكد من سلامة عقله من أهله، ثم طهره باستيفاء حد الرجم منه.. وكذا الغامدية، إذ أرجأ الرسول صلى الله عليه وسلم استيفاء الحد منها لأنها كانت حاملا، ثم أصرت على إقرارها بعد الولادة، ثم أرجأ صلى الله عليه وسلم عقوبتها إلى الفطام، وأصرت على إقرارها، إذ جاءت الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بعد الفطام وبيد ابنها كسرة خبز، حرصا منها على تطهيرها باستيفاء الحد منها.. والفترة الزمنية بين كل إقرار واضحة. [ ص: 50 ]