المطلب الأول: مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مبدأ إلهي محض، إذ أن المجتمع الإسلامي قد امتاز به عما سواه، ولا تعرف جل المجتمعات غير مبدأ النزعة الفردية الذي لا يحتمل فيه أفراد المجتمع إلا ما يصيب أحدهم مباشرة، وإما ما لا يقع عليهم فلا يعنيهم في شيء أمره، وإن انتهكت فيه حرمات الله، ومست فيه قيم المجتمع الأخلاقية، لأن المجتمعات التي قامت على أساس مادي محض لا يطيق أفرادها أن يحملوا أنفسهم ما لا يمس مباشرة مصالحهم الخاصة، ولهذا فإن الجرائم التي يشتد ضرامها لا تجد من يطفئها، لأن مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا صدى له، إذ هـو مبدأ قرآني محض لا يعرفه إلا من استنار بهداه.
أما المجتمعات الإسلامية فبوجود مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجودا حسيا مباشرا يلتزم به كافة المسلمين، فإن الظاهرة الجرمية تتناسب [ ص: 78 ] تناسبا عكسيا مع الوضع الذي يسمو فيه مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ الإنسان في المجتمعات الدينية المتمسكة بهذا المبدأ لا يستطيع اقتراف الجريمة جهرا؛ لأنه يخشى من ثلاث عقوبات: الأولى عقوبة الله تعالى، والثانية عقوبة المجتمع المتمثلة برد الفعل الاجتماعي، والثالثة عقوبة القانون الذي يحكم به المحتسب أو القاضي بناء على طبيعة الدعوى.. والمحتسب هـو المسئول المباشر عن وظيفة الحسبة ، فهي نظام خاص من أنظمة الإسلام، أساسه مسئولية المسلم عن إزالة المنكر وفعل المعروف، فهي ليست غريبة عن نظام القضاء ولا بعيدة عنه.. والحسبة، كما عرفها الماوردي ، هـي: واسطة بين أحكام القضاء وأحكام المظالم [1] .
وقد ثبت مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأدلة قطعية الثبوت وقطعية الدلالة، منها قوله تعالى:
أ- ( ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) ) (آل عمران:110).
ب- ( ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هـم المفلحون ) ) (آل عمران:104).
ج- ( ( يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين ) ) (آل عمران:114). [ ص: 79 ]
د- ( ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم ) ) (التوبة:71).
هـ- واعتمد ابن حزم ، رحمه الله، في وجوب تغيير المنكر من قبل كل مسلم، كل حسب طاقته، بقوله صلى الله عليه وسلم : ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) [2] بقوله: ليس وراء ذلك من الإيمان شيء [3] .
وقال المفسر الرازي ، رحمه الله: إن (من) هـهنا للتبعيض، لدليلين: (الأول) أن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل الأمة في قوله: ( ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ) ) ، و (الثاني) هـو أنه لا مكلف إلا ويجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إما بيده أو بلسانه أو بقلبه، ويجب على كل أحد دفع الضرر عن النفس؛ إذا ثبت هـذا فنقول: معنى هـذه الآية كونوا أمة دعاة إلى الخير، آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر، وأما كلمة (من) فهي هـنا للتبيين لا للتبعيض كقوله تعالى: ( ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان ) ) ؛ ويقال أيضا: لفلان من أولاده جند، وللأمير من غلمانه عسكر، يريد بذلك جميع [ ص: 80 ] أولاده وغلمانه لا بعضهم، كذا هـهنا: ثم قالوا: إن ذلك وإن كان واجبا على «الكل» إلا أنه متى قام به قوم سقط التكليف عن الباقين، ونظيره قوله تعالى: ( ( انفروا خفافا وثقالا ) ) وقوله: ( ( إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ) ) فالأمر عام ثم إذا به قامت طائفة وقعت الكفاية وزال التكليف عن الباقين [4] .
وللمفسرين باع طويل وكلام جزيل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصفته أسمى وظيفة اجتماعية تفضي إلى إصلاح «الكل» بوساطة «الكل»، وتبدي المجتمع عالما أمثل ينهي عن الرذيل والأرذل، ويأمر بالفضيل والأفضل، وكان كل واحد في المجتمع مسئول عن واجب التربية والتوجيه، وقد آثرنا الاستشهاد ببعض نصوص علمائنا، رحمهم الله:
1- قال الرازي ، رحمه الله السابق نفسه. : الدعوة إلى الخير جنس تحته نوعان: (أحدهما) الترغيب في فعل ما ينبغي وهو الأمر بالمعروف، (والثاني) الترغيب في ترك ما لا ينبغي وهو النهي عن المنكر، فذكر الجنس أولا ثم أتبعه بنوعيه مبالغة في البيان، وأما شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فمذكورة في كتب الكلام.
2- ( قال سيدنا علي ، رضي الله عنه: أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) ، ( وقال أيضا: من لم يعرف قلبه معروفا ولم ينكر منكرا تكسر وجعل أعلاه أسفله ) . [ ص: 81 ]
4- ( روى الحسن عن سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أنه قال: يا أيها الناس ائتمروا بالمعروف وانتهوا عن المنكر تعيشوا بخير. )
5- في قوله تعالى: ( ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ) ) (الحجرات:9) قدم الإصلاح على القتال، وهذا يقتضي أن يبدأ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالأرفق مترقيا إلى الأغلظ فالأغلظ، وكذا قوله تعالى: ( ( واهجروهن في المضاجع واضربوهن ) ) (النساء:34)، يدل على ما ذكرناه.. ثم إذا لم يتم الأمر بالتغليظ والتشديد وجب عليه القهر باليد، فإن عجز فباللسان، فإن عجز فبالقلب، وأحوال الناس مختلفة في هـذا الباب [5] .
6- قال ابن حزم الأندلسي : والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضان على كل أحد، على قدر طاقته، باليد فمن لم يقدر فبلسانه، فمن لم يقدر فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان، ليس وراء ذلك من الإيمان شيء. [6] ، قال عز وجل: ( ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هـم المفلحون ) ) (آل عمران:104)، وقال تعالى: ( ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ) ) .(الحجرات:9) [ ص: 82 ]
7- وقال المفسر القرطبي ، رحمه الله: دلت هـذه الآية على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجبا في الأمم المتقدمة، وهو فائدة الرسالة وخلافة النبوة.. ( وعن درة بنت أبي لهب قالت: قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر، فقال: يا رسول الله، أي الناس خير؟ فقال صلى الله عليه وسلم : خير الناس أقرؤهم، وأتقاهم، وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر، وأوصلهم للرحم ) [7] . وفي التنزيل: ( ( المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ) ) ، فجعل تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقا بين المؤمنين والمنافقين، فدل على أن أخص أوصاف المؤمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورأسها الدعاء إلى الإسلام والقتال عليه.
8- وقد أجمع المسلمون، فيما ذكر ابن عبد البر ، أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه، وأنه إذا لم يلحق بتغييره إلا اللوم الذي لا يتعدى إلى الأذى فإن ذلك لا يجب أن يمنعه من تغييره. فإن لم يقدر فبلسانه، فإن لم يقدر فبقلبه ليس عليه أكثر من ذلك، وإذا أنكر بقلبه فقد أدى ما عليه إذا لم يستطع سوى ذلك، قال: والأحاديث عن النبي في تأكيد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جدا ولكنها مقيدة بالاستطاعة.
9- وروى الأئمة ( عن أبي سعيد الخدري ،رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم [ ص: 83 ] يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) [8] ، قال العلماء: الأمر بالمعروف باليد على الأمراء، وباللسان على العلماء، والقلب على الضعفاء، يعني عوام الناس، فالمنكر إذا أمكنت إزالته باللسان للناهي فليفعله، وإن لم يمكنه إلا بالعقوبة أو بالقتل فليفعل، فإن زال بدون القتل لم يجز القتل.
10- ويتجلى أصول مبدأ التكافل الاجتماعي في النهي عن المنكر، قال القرطبي ، رحمه الله: ولو رأى زيد عمرا وقد قصد مال بكر فيجب عليه أن يدفعه عنه إذا لم يكن صاحب المال قادرا عليه ولا راضيا به.. والنهي عن المنكر من مقومات المجتمع الأمثل، قال القرطبي ، رحمه الله: كل بلدة يكون فيها أربعة فأهلها معصومون من البلاء: إمام عادل لا يظلم، وعالم على سبيل الهدى، ومشايخ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويحرضون على طلب العلم والقرآن، ونساؤهم مستورات لا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى. [9]
11- والمجتمع المحروم من فضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يوشك أن يهبط دون المستوى الإنساني، قال الفقيه الكبير ابن تيمية ، رحمه الله: وكل بني آدم لا تتم وصلتهم لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بالاجتماع والتعارف والتناصر، فالتعاون والتناصر على جلب منافعهم، والتناصر لدفع مضارهم، ولهذا يقال: الإنسان مدني بالطبع، فإذا اجتمعوا فلا بد لهم من [ ص: 84 ] أمور يفعلونها يجتلبون بها المصلحة، وأمور يجتنبونها لما فيها من المفسدة، ويكونون مطيعين للآمر بتلك المقاصد، والناهي عن تلك المفاسد، فجميع بني آدم لا بد لهم من طاعة آمر وناه.. وأن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة، ولهذا يروى: «الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة»، وإذا كان لا بد من طاعة آمر وناه فمعلوم أن دخول المرء في طاعة الله ورسوله خير له.
ويمكن إيجاز الهدف الأسمى من رسالة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم وممن سبقوه من الأنبياء والمرسلين بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إذ أن جماع الدين وجمع الولايات هـو أمر ونهي، فالأمر الذي بعث الله به رسوله هـو الأمر بالمعروف، والنهي عن الذي بعثه به هـو النهي عن المنكر، وهذا نعت النبي والمؤمنين [10] ، كما قال تعالى: ( ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) ) .
وهذا هـدف الوظائف والولايات بناء على مقتضى الفقه الإداري الإسلامي فجميع الولايات الإسلامية إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء في ذلك ولاية الحرب الكبرى، مثل نيابة السلطنة، والصغرى مثل ولاية الشرطة ، وولاية الحكم ، أو ولاية المال وهي ولاية الدواوين المالية وولاية الحسبة [ ص: 85 ]
ولهذا يحرم على الإمام أن يستعين بمن ليس أهلا لما أسند إليه من الوظائف والولايات، لأن هـذا خلاف لمقتضى الحكمة التي توجب وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، جاء في الأثر، عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه: ( من قلد رجلا على عصابة وهو يجد في تلك العصابة من هـو أرضى لله منه فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين ) [11] . فالواجب إنما هـو أرضى من الموجود، والغالب أنه لا يوجد كامل، فيفعل خير الخيرين ويدفع شر الشرين.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من واجبات المحتسب واختصاصاته، قال فقهاؤنا، رحمهم الله: وأما المحتسب فله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما ليس من خصائص الولاة والقضاة وأهل الديوان ونحوهم، وكثير من الأمور الدينية هـو مشترك بين ولاة الأمور، فمن أدى فيه الواجب وجبت طاعته فيه، فعلى المحتسب أن يأمر العامة بالصلوات الخمس في مواقيتها ويعاقب من لم يصل بالضرب والحبس، وأما القتل فإلى غيره، ذلك أن الصلاة هـي أعرف المعروف من الأعمال، وهي عمود الإسلام وأعظم شرائعه، وهي قرينة الشهادتين، ولهذا كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه، يكتب إلى أعماله: إن أهم أمركم عندي الصلاة، من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها كان لما سواها أشد إضاعة. [12] [ ص: 86 ]
وإذا كان مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب على الأفراد بناء على قدرتهم وطاقتهم فإنه يجب على الدولة وجوبا عمليا ونظريا، إذ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يتم إلا بالعقوبات الشرعية، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وإقامة الحدود واجبة على ولاة الأمور، وذلك يحصل بالعقوبة على ترك الواجبات وفعل المحرمات.
ولو استغرقنا في علة الإباحة والتحريم لتجلى مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر علة أساسية، فالطيبات لأنها من المعروف فقد أباحها الله، والخبائث لأنها منكرة فقد حرمها الله تعالى، وفي هـذا قال الفقيه ابن تيمية ، رحمه الله:
وقوله سبحانه وتعالى في صفة النبي صلى الله عليه وسلم : ( ( يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ) ) ، (الأعراف:157)، هـو لبيان كمال رسالته، فإنه صلى الله عليه وسلم، هـو الذي أمر الله على لسانه بكل معروف، ونهى عن كل منكر، وأحل كل طيب، وحرم كل خبيث، وتحريم الخبائث يندرج في معنى «النهي عن المنكر» كما أن إحلال الطيبات يندرج في «الأمر بالمعروف» لأن تحريم الطيبات مما نهى الله عنه، وكذلك الأمر بجميع المعروف، والنهي عن كل منكر، مما لا يتم إلا للرسول صلى الله عليه وسلم ، الذي تم الله مكارم الأخلاق المندرجة في المعروف.
ولعظمة تأثير مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على استقامة المجتمع وصلاحه وسمو مسيرته المثلى نحو الحياة الفضلى، قال فقهاؤنا: فإذا لم يقم به من يقوم بواجبه أثم كل قادر بحسب قدرته، إذ هـو واجب على [ ص: 87 ] كل إنسان بحسب قدرته، قال ابن تيمية : وإذا كان كذلك، فمعلوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإتمامه بالجهاد هـو من أعظم المعروف الذي أمرنا به، ولهذا قيل: ليكن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر، وإذا كان هـو من أعظم الواجبات والمستحبات فالواجبات والمستحبات لا بد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة، إذ بهذا بعثت الرسل ونزلت الكتب، والله لا يحب الفساد، بل كل ما أمر الله به فهو صلاح.
ولا خلاص للمسلم من المسئولية عن أفعال غيره إلا إذا التزم بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لهذا قال سبحانه وتعالى: ( ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) ) (المائدة:105)، خاطب الله سبحانه وتعالى المؤمنين بأسلوب الجمع، ولولا هـذه المسئولية التكاملية لخاطبهم بأسلوب الإفراد، ولهذا ( قال الخليفة الراشد أبو بكر الصديق ، رضي الله عنه: أيها الناس إنكم تقرءون هـذه الآية: ( ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) ) وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه ) [13] [ ص: 88 ]
وقد ورد في هـذا النص القرآني الوهاج لفظ الضلال والهدى، والضلال يركم بظهور الفواحش، والاهتداء يكون بأداء الواجب المتجلي بمبدأ الأداء بالمعروف والنهي عن المنكر.
وما أبدع سياسة المفكرين المسلمين في العمل بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذ أنهم نهجوا نهج الفقهاء في حكم الدفاع الشرعي، إذ إن الدفاع الشرعي مباح بحدود عدم تجاوز المعتدى عليه، إذ المقصود بالأمر بالمعروف إيقاع المعروف، وبالنهي عن المنكر زوال المنكر، فإذا ارتفع الغرض بالأمر السهل، لم يجز العدول عنه إلى الأمر الصعب. وهذا مما يعلم عقلا وشرعا، أما عقلا فلأن الواحد منا إذا أمكنه تحصيل الغرض بالأمر السهل لا يجوز العدول عنه إلى الأمر الصعب، وأما شرعا فهو قوله تعالى: ( ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ) ) فالله تعالى أمر بإصلاح ذات البين أولا، ثم بعد ذلك بما يليه، ثم بما يليه، إلى أن انتهى إلى المقاتلة.
ولا يستطيع حتى المستضعف في المجتمع الإسلامي أن يتخلى عن مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ لأن الذي تنتهك حرمات الله أمامه يصب عليه العقاب الاجتماعي في المجتمع المسلم، إلا إذا أبدى القرائن الدالة على عدم رضاه. [ ص: 89 ]
والمنكرات من حيث الوقوع والأثر تنقسم إلى قسمين:
الأول: ما يقع على ذات العالم به.
الثاني: ما يقع على غير العالم به.
أما ما يقع على ذات العالم به فينقسم إلى قسمين، الأول: صورته أن يقع اعتداء على جزء يسير جدا من مال رجل متسم بالثراء العالي، والثاني: أن يقع الغصب على مال رجل متسم بالإعسار المتقع، ولا يسقط شرعا حق المطالبة في كلتا الصورتين، لأن الشريعة الغراء تسد كل ذريعة تفضي إلى الإخلال بمصلحة الأمة، ولا يمكن الاحتجاج باغتصاب أموال الأغنياء بحجة عدم تأثير ذلك عليهم، وهذا النهج المستقيم لا يدل على وقوف الشريعة إلى جانب الموسرين بل يدل على وقوف الشريعة الغراء إلى جانب المعسر والموسر، درءا للفوضى الاجتماعية المتحققة في إباحة اغتصاب أموال ما لا يؤثر عليهم.. ويتجلى وقوف الشريعة الغراء إلى جانب المعسرين كوقوفها إلى جانب الموسرين في قوله تعالى: ( ( وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ) ) (الذاريات : 19) فالمحروم له حق ثبت شرعا في مال الغني، ولكنه لا يستحصله إلا عن طريق الدولة المسئولة عن أخذ الزكاة وتقسيمها على من تثبت حقوقهم بأموال الأغنياء. والتحصيل الشخصي يمثل افتيات على حق الدولة.
أما القسم الثاني: وهو ما يقع على غير العالم به، فإنه يجب عليه أن يغير ذلك المنكر حسب طاقته، وهذا يدل على أن الشريعة الإسلامية قد شرعت أحكام التكافل الاجتماعي ، لأن كل روح في المجتمع مسئولة [ ص: 90 ] عما يقع على نظيرها، ولا يمكن التخلص من المسئولية بحجة عدم وقوع المعتدى عليه تحت ولاية العالم بما وقع عليه والقادر على إنقاذه، وقد تجلت هـذه التفصيلات في صور القتل بسبب عند الفقهاء. [14]
وحيث إن الشريعة الإسلامية الغراء أشرقت لتستقيم بها الحياة، فقد شرعت مبدأ « رفع الحرج »، ومبدأ « الضرورات تبيح المحظورات »، ومبدأ « درء الضرر الأكبر بالضرر الأصغر »، ومبدأ « مراعاة أخف الضررين »، وبناء على هـذه المبادئ المجمع عليها، ولئلا يصاب المسلم برد فعل نفسي فيما لو كلف فوق طاقته، فقد شرعت الشريعة الإسلامية حكم جواز فعل المنكر عند الإكراه الملجئ والضرورة القصوى، ويتجلى ذلك فيما يأتي:
1- يكون فعل الحرام واجبا إذا تلبس المسلم بالإكراه الملجئ، كما لو اشتدت به المخمصة حتى كان على شفا حفرة الموت، ولا شيء أمامه سوى لحم الخنزير أو لحم ميتة، أو اشتد به ظمأ البيداء ولا ماء أمامه سوى الخمر.
إن فعل الحرام في هـذه الصور يكون واجبا درءا للضرر الأكبر المتمثل بالموت، وكذلك التلفظ بكلمة الكفر تجوز مع الإكراه الملجئ ، بشرط اطمئنان القلب بالإيمان، قال تعالى: ( ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) ) (النحل:106). [ ص: 91 ]
2- في الضرر الجماعي الذي تتهدد به مصلحة الأمة يجوز رمي بعض المسلمين إذا تترس الأعداء بهم، إذا كان قتل الجزء وسيلة إلى حياة الكل.
قال القاضي أبو يعلى الحنبلي : «وكذلك إن تترسوا بأسارى المسلمين، ولم يتوصل إلى قتلهم إلا بقتل الأسرى» [15] .
وينقسم الأمر بالمعروف إلى قسمين، بناء على ذات المعروف، فإن كان ذلك المعروف واجبا فإن الأمر به واجب أيضا، وإن كان المعروف نافلة فإن الأمر به مندوب أو مباح، حسب مرتبته، قال القاضي عبد الجبار : إن المعروف على قسمين: أحدهما واجب، والآخر ليس بواجب، فالأمر بالمعروف واجب بالنافلة نافلة.
أما المنكر فإن النهي عنه واجب، سواء أكان صغيرة أم كبيرة، إذ ما من صغيرة إلا وهي مفضية إلى الكبيرة، قال تعالى: ( ( إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ) ) (الإسراء:36)، والحكم المستنبط من هـذه الآية القرآنية الكريمة أن التفكير بالجريمة محرم وإن كان ذلك التفكير لا يضر بأحد، وقد حرمه الله تعالى منعا من اقتناع القلب واعتناق فعل الجريمة، وما الأعضاء إلا سيف بيد القلب يأمرها وينهاها كما يشاء، ولهذا فإن الصغيرة يجب النهي عنها، إذ أن الذي يعتاد مصاحبة الأجنبيات يفضي فعله إلى الخلوة بهن ثم تفضي تلك الخلوة إلى جريمة الزنا، قال تعالى: ( ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) ) (الأعراف:33)، [ ص: 92 ] وقال تعالى: ( ( ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ) ) (الإسراء:32)، وقال تعالى: ( ( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) ) (الأنعام:151)، قال المفسر الرازي، رحمه الله، في قوله تعالى: ( ( ما ظهر منها وما بطن ) ) دقيقة، وهي: أن الإنسان إذا احترز عن المعصية في الظاهر ولم يحترز عنها في الباطن دل ذلك على أن احترازه منها ليس لأجل عبودية الله وطاعته، ولكن لأجل الخوف من مذمة الناس، وذلك باطل؛ لأن من كان مذمة الناس عنده أعظم وقعا من عقاب الله ونحوه فإنه يخشى عليه من الكفر؛ ومن ترك المعصية ظاهرا وباطنا دل ذلك على أنه إنما تركها تعظيما لأمر الله تعالى وخوفا من عذابه ورغبة في عبوديته [16] .
وقال تعالى: ( ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون ) ) (الأنفال:24).
إن الأحكام المستنبطة من هـذه الآية القرآنية الكريمة:
أ- أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم كطاعة الله في الأوامر والنواهي.
ب- أن كل ما أمر به الله تعالى أو الرسول صلى الله عليه وسلم واجب؛ لأنه يفضي إلى الحياة القلبية التي تهنأ بها الأرواح، سواء كان من الصغائر أو الكبائر، لأن (ما) اسم موصول لا يخص كبائر الأفعال أو صغائرها. [ ص: 93 ]
ج- أن المسلم إذا اقترف الصغيرة لا يدري متى يحول الله تعالى بالموت بينه وبين قلبه الذي تلطخ منها ولم يتطهر منها بالتوبة.
ولكي يتجنب المسلم الصغائر كما يتجنب الكبائر، فقد نهاه الله سبحانه وتعالى عن التهاون في كل أحكامه دون التذرع بصغر المنهي عليه، إذا أن ما يحسبه المسلم صغيرا قد يكون عند الله كبيرا؛ لهذا كان وجوب الانتهاء عن الصغائر كوجوب الانتهاء عن الكبائر، قال تعالى: ( ( إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هـينا وهو عند الله عظيم ) ) (النور:15)، قال المفسرون، رحمهم الله، في تفسير هـذه الآية: الواجب على المكلف في كل محرم أن يستعظم الإقدام عليه، إذ لا يأمن أنه من الكبائر، وقيل: لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار. [17]
ولئلا تنتشر الفوضى في المجتمع الإسلامي فقد حددت الشريعة الإسلامية واجبات الدولة والأفراد، وقسمت المعروف والمنكر بناء على ذلك إلى قسمين، قسم يجب على الدولة فعله؛ لأن الأفراد لا يطيقون القيام به، ولهذا كانت صيغة الأمر به والنهي عنه صياغة جماعية لا فردية؛ والصيغة الجماعية يقصد بها الدولة، إذ بيدها السلطة التنفيذية القضائية، وعلى سبيل المثال لا الحصر قال تعالى في عقوبات جرائم الحدود :
( ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم ) ) (المائدة:38)، وقال [ ص: 94 ] تعالى: ( ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) ) (النور:2)، وقال تعالى: ( ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ) ) (المائدة:33)، وقال تعالى: ( ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ) ) (البقرة:178)، وقال تعالى: ( ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هـم الفاسقون ) ) (النور:4).