المبحث الثاني: أساس المواطنة في الدولة
تكونت الدولة الإسلامية، منذ نشأتها بالمدينة تحت قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى أساس دستوري مكتوب، من رعايا مختلف الديانات: المسلمون من المهاجرين والأنصار، وأهل الكتاب من اليهود، وبقايا مشركي المدينة؛ وقد أطلق عليهم رعايا الدولة الإسلامية «وإن كان معنى (الرعية) كما جاء في الحديث الشريف [1] ، ينطبق على عدة صور من المسئولية، إلا أن القدر المشترك هـو رعاية جميع حقوق الرعية... ورعاية جميع الحقوق المشروعة هـي لب كلمة : "المواطنون" بحسب المصطلح المعاصر، فلا وجه للتفريق بين مدلول الرعايا والمواطنين في المجتمع الإسلامي» [2] .
- مفهوم المواطنة
تشير دائرة المعارف البريطانية (3/332) إلى أن «المواطنة علاقة بين فرد ودولة، كما يحددها قانون تلك الدولة، وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق في تلك الدولة». وتؤكد أن «المواطنة تدل ضمنا على [ ص: 62 ] مرتبة من الحرية مع ما يصحبها من مسئوليات».. وعلى الرغم من أن الجنسية غالبا ما تكون مرادفة للمواطنة، حيث تتضمن علاقة بين فرد ودولة، إلا أنها تعني امتيازات أخرى خاصة، منها الحماية من الخارج [3] . نلاحظ أن هـذه الموسوعة لا تميز بين المواطنة والجنسية، لأنهما تتضمنان علاقة بين الفرد والدولة على حد سواء.
- الجنسية في الشريعة الإسلامية
كان الفقهاء يطلقون على الدولة الإسـلامية اسـم ( دار الإسلام ) ، كما كانوا يصفون الأفراد الذين يستوطنون فيها بأنهم ( أهل دار الإسلام ) أي من أتباع الدولة الإسلامية، وكان ارتباط الأفراد بالدولة ارتباطا خاصا، لا يشبه ارتباط الفرد بالفرد؛ لأن الدولة الإسلامية ليست فردا، وإنما هـي منظمة سياسية، كما لا يشبه ارتباط الفرد بالأمة، لأن الأمة ليست منظمة سياسية كالدولة، فرابطة أفراد شعب (دار الإسلام) بهذه الدار رابطة سياسية وقانونية؛ لأن الدولة الإسلامية وهي منظمة سياسية طرف فيها، ولأن آثارا قانونية تنتج عنها، ويلتزم بها الفرد والدولة، فهذه الآثار هـي الحقوق التي يتمتع بها الفرد في ظل الدولة والواجبات التي يلتزم بها قبلها، وهذه الرابطة هـي الجنسية بمفهومها الحديث، وإن لم يسمها الفقهاء بهذا الاسم [4] . [ ص: 63 ]
- الجنسية في المفهوم المعاصر
هي «نظام قانوني، تضعه الدولة»، لتحدد به وضع الشعب فيها، ويكتسب عن طريقه الفرد صفة تفيد انتسابه إليها» [5] . فالجنسية صفة في الفرد تفيد انتماءه إلى الدولة وعضويته في شعبها.. ليس هـذا فحسب، بل إن هـذه الصفة تنبثق عن شعور نفسي وروحي تجسده وتدل عليه، فالجنسية إذا تفيد روح الانتماء، وهذا الانتماء ليس سياسيا وحسب، بل هـو انتماء روحي وعاطفي، يؤكده المفهوم الاجتماعي للجنسية، إذ أن هـذا الشعور النفسي لا ينشأ إلا عن وجود ارتباط اجتماعي قبل الارتباط القانوني والسياسي بين الفرد والمجتمع الذي يعيش فيه [6] .
هذا المفهوم المركب للجنسية نجده في الدولة الإسلامية قديما بوجود تلك الرابطة الروحية والاجتماعية التي تربط الأفراد بالدولة، وإن اختلف أساس وجود هـذه الرابطة والآثار المترتبة عليها لاختلاف المصدر «القانوني» الشرعي المنشئ لها [7] .. فقد عاش المسلمون مع غيرهم ممن يخالفونهم في العقيدة، يشاركونهم الحياة المجتمعية في رابطة إنسانية نابعة من الإسلام، ذلك أن «دستور» المدينة يقرر «أن المواطنة في الدولة الإسلامية تتسع لتشمل غير المسلمين من أبناء الوطن الأصليين، وأولئك الذين يختارون أن ينضموا إلى [ ص: 64 ] جماعة الإسلام السياسية» [8] . فالمواطنة في الدولة الإسلامية الأولى لم تنحصر في المسلمين وحدهم، بل امتدت لتشمل اليهود المقيمين في المدينة، واعتبرتهم «الوثيقة» من مواطني الدولة - أمة مع المؤمنين – وحـددت ما لـهم من الحقوق وما عليهم من الواجبات، وهذا ما نراه في البند رقم (25) : «وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين..»؛ ولم يقف الأمر عند يهود بني عوف وحدهم، وإنما امتد لباقي قبائل اليهود، بل إن بعض بنود «الوثيقة» تنص على واجبات على المشركين من أهل المدينة، مما يشير إلى أنهم دخلوا في حكم الدولة الجديدة وخضعوا لأسس تنظيمها التي وردت في وثيقتها، وأوضح هـذه البنود البند رقم (20ب) : «وأنه لا يجير مشـرك مالا لقريش ولا نفسا ولا يحول دونه على مؤمن». وهكذا يتبين أن عنصر الإقليم، «المدينة»، والإقامة فيه عند نشأة الدولة هـو الذي أعطى اليهود والمشركين حق المواطنة، وضمن لهم التمتع بالحقوق التي كفلتها «الوثيقة»، بعد أن كان هـذا الحق يقوم بين القبائل على أساس صـلتها أو انحدارها من أصل مشترك، كما كان في الجاهلية [9] .
«فاختلاف الدين ليس، بمقتضى أحكام «الصحيفة»، سببا للحرمان من مبدأ « المواطنة »، كما كان ذلك مطبقا في الدول التي عاصرت الدولة الإسلامية في بدء تكوينها» [10] .. والمواطنة لا تساوي الانتماء الديني دائما، بل يمكن أن تفترق عنه حين يكون المجتمع السياسي مكونا من فئات ذات [ ص: 65 ] انتماء ديني متنوع؛ وقد يتساويان كما في حال وجود مجتمع ذي انتماء ديني واحد، فيلتقي مفهوم الأمة مع مفهوم الدولة و (المواطنة) ، كما يمكن أن يكون هـناك وطن واحد يضم أمتين، كما هـو الحال في «الصحيفة» التي تعالج علاقات الأمتين الإسلامية واليهودية، فهي لم تحرم حق المواطنة على غير المسلمين، ما داموا يقومون بالواجبات المترتبة عليهم [11] كالدفاع عن المدينة مع المؤمنين بالنفس والمال في حال تعرضها لعدوان خارجي يهدد أمنها واستقرارها، كل من جانبه الذي قبله، وكذلك تبادل المعلومات والمشاورات والتناصح في الأمور التي تعود بالخير والبر على أبناء الوطن جميعا [12] .
ويترتب على انتماء المتعاقدين للدولة، وفقا للبنود الواردة في «الوثيقة»، أن ينعم أهلها، من المسلمين وغير المسلمين، بالعصمة في أنفسهم وأموالهم، فهم جميعا آمنون بأمان الإسلام: المسلمون بإسلامهم والذميون بسبب عقد الذمة، وهي نفس آثار انتماء الأشخاص إلى دولهم وفقا لرابطة الجنسية، بمفهومها القانوني.
- مواطنة المسلم
اعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن أساس (المواطنة) والانتماء لهذه الدولة هـو الهجرة إليها، فعلى من يريد أن يكون مواطنا في مجتمع المدينة أن يهاجر إليها، لكي يتحقق في المسلم الذي يسكن في الدولة الإسلامية رابطان أساسيان هـما: [ ص: 66 ] الإيمان أولا، والولاء للنظام المعمول به في الدولة ثانيا؛ أما المسلمون الذين يفضلون التوطن خارج حدود الدولة الإسلامية فلا يعدون من مواطني الدولة الإسلامية لانقطاع الولاية، وإن لم يمنع من وجوب النصر عند تعرضهم للاضطهاد في الدين،
والأصل في هـذا قوله تعالى: ( إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير ) (الأنفال:72) [13] ، فهذه الآية الكريمة تتوافق مع بنود «دستور» الدولة الإسلامية الذي وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة بين «المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم» فالجزء الأول من الآية [14] يذكر أن من يقطن خارج حدود الدولة الإسلامية يخرج عن دائرة (الولاية السياسية) ، أما الجزء الثاني فيوضح دخولهم في دائرة الأخوة الدينية على الرغم من خروجهم عن دائرة الولاية السياسية. [ ص: 67 ] «فالمواطنون المسلمون في هـذه الدولة أساس وحدتهم إيمانهم بهذا الدين الجديد، عقيدة وتشريعا، بديلا عن الوثنية والعصبية القبلية، بقطع النظر عن الأصل واللون، فكان هـذا معيارا مرنا لتكوين الأمة الجديدة من دون الناس» [15] طبقا لما نصت عليه «وثيقة» المدينة في بندها رقم (2) الذي ألغى رباط العصبية القبلية تماما، وأقام بدلا عنها رباط العقيدة.
- مواطنة غير المسلم
أما بالنسبة لغير المسلمين فأساس المواطنة هـو «الولاء» للدولة الإسلامية عن طريق العهد؛ لأن حق المواطنة لا يستلزم وحدة العقيدة ولا وحدة العنصر، قال صلى الله عليه وسلم : «لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم» [16] وهذا الدليل يتوافـق مـع ما نص عليه دستور المدينة في الفقرة الأولى والثانية من البند رقم (25) الذي قرر المواطنة المتساوية لليهود وغيرهم مع المسلمين تحت لواء الدولة الإسلامية... يعيشون معصومين دما ومالا وعرضا بحكم مواطنتهم الدائمة، وعلى من يكتسب هـذا الحق أن يقوم -في نظير ذلك- بواجبات مؤداها تحقيق التكافل مع الدولة، والولاء لها، لحفظ كيانها داخليا، وفي هـذا دلالة على أمرين:
الأول: تأصيل مبدأ حرية العقيدة، وهو من المبادئ الأساس التي تقوم عليها هـذه الدولة الناشئة. [ ص: 68 ] الثاني: مبدأ التسامح مع أهل الأديان السماوية الأخرى، وذلك بأن جعل لهم الإسلام من الحقوق وأوجب عليهم من الواجبات، عين ما للمسلمين وعليهم، وليس أعدل ممن يساويك بنفسه في النصفة والعدل والحكم [17] .
وهكذا يكون لأول مرة في تلك البقاع «شعب» تتعدد فيه علاقة الانتماء إلى (وطن) فترقى العلاقة الجديدة بالناس جميعا - أهل الصحيفة - إلى ما فوق الطور القبلي [18] ، الذي كان سائدا بين العرب في العصر الجاهلي.
لقد وفرت «الصحيفة» لغير المسلم في المجتمع الإسلامي وجودا اندماجيا يحافظ فيه على جميع مكونات شخصيته، وفي طليعتها المكون الديني وما يرتبط به من ممارسات وعادات، بها يؤكد ذاته عقديا وثقافيا ونفسيا، ومعها يثبت خصوصيات هـويته داخـل المقومات العامة لهذه الهوية التي بها تكون المواطنة، مما يتحقق به الانتماء إلى ذلك المجتمع [19] .
عقد الذمة : تعطى الذمة لأهلها من غير المسلمين، وهي ما يشبه في عصرنا الحاضر - الجنسية - السياسية التي تعطيها الدولة لرعاياها، فيكتسبون بذلك حقوق المواطنة التي تربطهم، بالدولة الإسلامية، برباط الولاء والتبعية، وبالتالي يتمتعون بالحقوق المدنية والدينية والإنسـانية، ولا غرابة في ذلك ولا انتقاد فيه.. وحتى لا يتجنى أحد على الإسلام بزعم أنه يقيم تفرقة بين [ ص: 69 ] الناس بحسب عقيدتهم يجب أن نذكر أن «فكرة عقد الذمة» ليست فكرة إسـلامية مبتدأة، وإنمـا هـي مما وجده الإسلام شائعا بين الناس عند بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فأكسبه مشروعيته، وأضاف إليه تحصينا جديدا بأن حول الذمة من ذمة العاقد أو المجير إلى ذمة الله ورسوله والمؤمنين، أي ذمة الدولة الإسلامية نفسها، وبأن جعل العقد مؤبدا لا يقبل الفسخ حماية للداخلين فيه من غير المسلمين [20] ، لأنهم صاروا مواطنين عاديين لهم من الحقوق ما للمسلمين، وعليهم من الواجبات ما على المسلمين، باستثناء تلك المتعلقة بالعقيدة، وقد حذر الإسلام من اضطهاد المسلم لغير المسلم فقال (: «ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة » [21] ، وعلى هـذا «لا يجوز الاعتداء لا على أنفسهم، ولا على أبدانهم ولا على أموالهم، ولا على أعراضهم، لأنهم معصومو الدم والمال بأمانهم المؤبد» [22] ، وقال (: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما» [23] . [ ص: 70 ]