المبحث الثالث: حقوق (الآخر) باعتباره كيانا منفصلا
(الدولة غير المسلمة)
المطلب الأول: (الآخر)/(الدولة غير المسلمة): تقنين للعلاقة وتشريع للتعارف
بدأ الفقهاء المسلمون يتناولون قضايا القـانون الدولي في كتب الفقه فيما يعرف بالسير، أي طريقة معاملـة المسلمين لغير المسـلمين خارج (دار الإسلام)، وخاصة تصرف الدولة الإسلامية في علاقاتها مع الشعوب الأخرى، ومقتضاه أن العلاقات الدولية في الإسلام، الأصل فيها «السلم»، بل البر والإقساط والتعاون والرحمة، بالنسبة للأمم الأخرى،
لقوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ) (البقرة:208).
والأصل أيضا في العلاقات الدولية في الإسـلام تحريم البغي والعدوان، أو التعاون والتحالف على العمل على ارتكابه؛
لأنه تعاون على الإثم: ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) (البقرة:190)..
والبر كلمة جامعة يندرج في مفهومها الكلي كافة ضروب «التعاون» في سبيل الخير الإنساني العام، وفي مقدمتها المواثيق والمعاهدات والاتفاقيات بين الدول، في جميع مجالات الحياة، السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية [ ص: 59 ] والثقافية والعلمية، شريطة ألا تصادم أمرا قاطعا أو تمس العقيدة أو المقاصد الأساسية لهذا التشريع.
يتبين مما تقدم أن الدولة الإسلامية تحترم الكيان المادي والمركز السياسي للدول الأخرى، كما أنها تحترم مركزها الأدبي، وبالمقابل فإن من حقها أن تطالب الدول الأخرى بمثل هذا الاحترام.
كما أن التضامن الدولي واجب، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم بالتعارف خطابا موجها للناس كافة، لا إلى المسلمين فحسب،
بدليل قوله تعالى: ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) (الحجرات :13)،
وهذا هو جوهر التواصل الحضاري الذي يؤكد تحقيق مبدأ السلم العالمي.
المطلب الثاني: من واجبات الدولة الإسلامية تجاه الدول (الأخرى)
إن الواجبات المطلوبة من الدولة الإسلامية هي الحقوق، التي تنالها الدولة غير المسلمة منها، وتتلخص في عدة أمور:
الأول: واجـب مراعـاة دعائم العلاقات الإنسانية المستمدة من القرآن والسنة:
إن الوحدة الإنسانية أساس العلاقات الدولية في الإسلام، ومن مقتضيات ذلك: [ ص: 60 ]
- مبدأ التعاون الإنساني: يقول تعالى: ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب ) (المائدة:2).
- مبدأ الكرامة الإنسـانية: ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) (الإسراء:70) ...
وإن هذه الكرامة يستحقها الإنسان، ابن آدم؛ لأنه إنسان، بقطع النظر عن أي اعتبار آخر.
- مبدأ التسامح غير الذليـل: ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) (فصلت:34).
- مبدأ العدالة الإنسانية في حال السلم والحرب: ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) (المائدة:8).
وقـد توعـد النبي الأكرم ( الظالمين بسوء المصير يوم القيامة حين قال (: «الظلم ظلمات يوم القيامة » [1] .
- مبدأ المعاملة بالمثل: قال تعالى: ( الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) (البقرة:194). [ ص: 61 ]
وفي المعـنى يندرج ( قـول رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوته، وحرمت غيبته ) [2] .
- مبدأ المودة والبر الإنساني: قال الله تعالى: ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ) (الممتحنة :8)
وإن المودة الموصلة لا يقطعها الحرب، ولا الاختلاف، ففي أثناء الحرب تنقطع العلاقات بين المسلمين والمحاربين بالفعل وحكامهم، أما رعايا الأعداء الذين لا يشتركون في القتال فإن مودتهم لا تنقطع، وكان النبي، عليه السلام، لا يقطع البر حتى عند الاختلاف، وفي الحرب، وعند الهدنة.
الثاني: واجب الوفاء بالعهد: [3]
لقد عرف الإسلام المعاهدات السلمية في السنوات الأولى من تأسيس الدولة الإسلامية الجديدة في المدينة، إذ عقد الرسول صلى الله عليه وسلم اتفاقيات سلمية مع الجماعات غير الإسلامية. وقد اعتبرت معاهدة الحديبية قدوة ومثالا لدى الخلفاء والفقهاء عند عقد الاتفاقيات، وإجراء المفاوضات، ومدة المعاهدات السلمية مع غير المسلمين. عقدت معاهدة الحديبية بين الرسول صلى الله عليه وسلم ومشركي [ ص: 62 ] مكة، قريش، في عام (6 هـ/627م)، وكانت مواد المعاهدة تتضمن ضمانا من كلا الطرفين بعدم مهاجمة الطرف الآخر، فرسخت الأمن والسلام الذي كان الطرفان بحاجة إليه، بعد أن شهدت الجزيرة العربية صراعا عنيفا وحروبا ومعارك ضارية بين المسلمين والمشركين.
إننا بهذا نكون قد قاربنا إشكالية (الآخر) في القرآن الكريم والسنة النبوية العطرة والتجربة الإسلامية التاريخية بكثير من الاختصار، ووصلنا إلى قناعة أن الإسلام هو المنهج الوحيد، الذي يسمح بقيام مجتمع عالمي لا عزلة فيه بين المسلمين وأصحاب الديانات الكتابية، ولا حواجز بين أصحاب العقائد المختلفة التي يمكن أن تظلها راية الإسلام.
وبما أن (الآخر) المقصود ببحثنا هذا هو (الغرب)، فإننا سنحاول في الباب الموالي مقاربة (ماهية الغرب) في خطوة مدخلية رئيسة لولوج جوهر هذا البحث، بحول الله تعالى. [ ص: 63 ]