المعلم الثالث: إخضاع علم الجمال الإسلامي للعقيدة الإسلامية، تصورا وأهدافا:
نقصد بالتصور صدور هذا العلم عن خلفية عقدية واضحة، يفصح عنها العالـم والمبدع قولا في تصريحاته وكتبه وفي تواصله مع الناس، وعملا من خلال إبداعاته ومواقفـه وسـلوكاته، بحيث يجب أن لا يسجل عليه ما يناقض مقتضى عقيدته الإسلامية، وهو إذ يفعل ذلك، يفعله من قبيل الاعتزاز بانتمائه لهاته العقيدة، وإسهامه في الدعوة إليها عبر علمه وتنظيره للجمال فلسفة وتصورا، وإبداعه الجمالي إمتاعا للذوق وإبهاجا للأحاسيس المرهفة العاشقة للحسن والبهاء، وهنا تحقق الجمالية الإسلامية في ارتباطها بالعقيدة، أحد أهم أهدافها، وهو تبليغ رسالة التوحيد إلى العالـم، إفرادا لله بالعبودية، وتنـزيها له عن الشركاء والأنداد.
في هذا السياق، وجب التنبيه إلى مسألة مهمة، تتعلق بما ذهب إليه بعض الباحثين من استحالة الجمع بين الدين والفن، أو العقيدة والجمال، وحجتهم في ذلك أن الدين يبحث عن الحقيقة، في حين أن الفن يبحث عن الجمال، وعليه لا يـمكن في عرفهم القاصر الجمع بين الحقيقة والجمال في كفة واحدة.
هؤلاء المفكرون وأترابهم يصدرون في مواقفهم هاته، عن عقليات متخمة بالتناقض والنظر التبسيطي المجزئ للحقيقة، ونظرا لبدو تهافت [ ص: 148 ] ادعائهم هذا، أكتفي بطرح الأسئلة التالية: متى كانت الحقيقة نقيضا للحسن والجمال؟ ومتى فصل الفلاسفة على اختلاف توجهاتهم ومذاهبهم بين ثلاثية الحق والخير والجمال؟ أليس الجمال حقيقة من حقائق الوجود الكبرى؟ أليست الحقائق التي ينشدها الدين ذات جمال من نوع خاص؟ وأخيرا، من قال إن الفن لا يسعى إلى إبراز الحقيقة؟
نطرح هاته الأسئلة متورعين عن الإجابة عنها، ليقيننا أن بين سطورها عناصر كافية لـمن ينشد الحقيقة [1] ، ونستمع إلى كلام بليغ لرائد الرواية الإسلامية المعاصرة، الدكتور نجيب الكيلاني، رحمه الله، يشرح فيه علة الاضطراب الذي ساد المفهوم الجمالي، ويرى أنه: "راجع إلى اختلاف المنطلق العقدي الذي يبدأ منه المفكرون، وإن تزعزع القيم الدينية في الغرب، والموقف السيء الذي وقفه المفكرون والأدباء والفنانون عامة من التصورات الكنسية وتاريخها، قد ساعد على محاولة إقصائها عن الحياة والفكر والفن بصفة عامة، وهي ظاهرة خصام بين الكنيسة والفن، كما حدث بينها وبين السياسة والعلم، وقد أسهم هذا الـموقف في انحرافات خطيرة للفلسفات [ ص: 149 ] والآداب الأوروبية، ولـم يقف الأمر عند هذا الحد، بل انتقلت عدواه إلى بلدان العالـم الإسلامي والشرق بصفة عامة، على الرغم من عدم وجود مبررات حقيقية لهذا الخصام في إطار المفهوم الإسلامي. ومهمتنا هنا أن نقضي على ظاهرة الخصام المفتعلة التي يحـاول الضالون والمخدوعون الترويج لها في مجتمعنا الإسـلامي؛ فالإسـلام يعلي القيم الجمـالية، ويعلي من شأنها، ويحيطها بسياج من العفة والنقاء والطهر، ويفتح الباب واسعا أمام الإبداعـات الفنية والأدبية الخلاقة، ويزيد "الكلمة الجميلة" شرفا حينما يكلفها بأعظـم رسـالة، وأسمـى مهمة، وأرقى دعوة نزل بها الروح الأمين" [2] .
هذا ما يتعلق بالإسلام، أما المسيحية فقد عملت هي الأخرى على الإعلاء من شأن الفن والجمال، ومن الأمور المستغربة التي يقف عليها المتتبع لمسيرة انتفاضة المفكرين والأدباء والفنانين الغربيين على الكنيسة، رفضهم المطلق لكل المظاهر الثقافية والفنية ذات الصلة بالدين، حتى ولو كانت إيجابية، لذلك فإن ما روج عن الكنيسة من رفضها للفن والإبداع والجمال غير صحيح، كما يوضح ذلك الدكتور "محمد علي أبو ريان" في كتابه "فلسفة الجمال، ونشأة الفنون الجميلة"، حيث يقول: "وعندما توطدت سلطة المسيحية في القرون الوسـطى بدأ الفن يتخلى عن المسحة الدنيوية [ ص: 150 ] كما كان عند اليونان والرومان [3] وعاد مرة ثانية ليرتبط بالحياة الآخرة وحياة الفضيلة، ويصور النزعات السامية في الإنسان، والفضائل الدينية كالاستشهاد والتضحية والصبر، والأمل في حياة خالدة، وتـمجيد الله وإعلاء كلمة المسيح والترنم بسيرة العذراء وصدق إيـمان الحواريين وروعة تأثر القديسين وتصوير المواقف المسيحية بأسلوب ينضح بالإيـمان الدافق الملتهب وذلك كما سنجد فيما بعد في صور صلب المسيح والعشاء الأخير ويوحنا المعمداني، والقربان والخطيئة والملائكة، كما نجد فن البناء وقد اصطبغ بالصبغة الكنائسية، فقد تطور الفن الروماني في بناء الكنائس وأصبح فنا مسيحيا خالصا يعرف بالفن القوطي وهو يرمز إلى معان دينية كالتوبة والأمل في الخلاص، ونجد ذلك واضحا في كاتدرائية نوتردام في باريس" [4] .
نخلص إذن إلى تقرير الحقيقة التالية: إن إخضاع علم الجمال الإسلامي للعقيدة الإسلامية تصورا وأهدافا، يجعل كل ما ينبثق عنه من علوم وفنون في [ ص: 151 ] خدمة الدين، ومن ثم فهو يؤدي أدوارا و"رسالة مقدسة"، كما يقول علي عزت بيجوفيتش، رحمه الله [5] ، وهذا ما يضمن له التجدد والاستمرار، عكس الفكر الجمالي الغربي، الذي أسر نفسه في إطار مادي ضيق، فتعرجن إبداعه، وتقولبت رؤيته للذات والكون بأن صارت نمطية وأحادية الجانب، لا يرى منها إلا الإشباع المادي الصرف، فسقط بذلك في هوة فقدان اليقين، والعبث، واللاجدوى، واللامعقول، والتشرذم والتشظي.