2- مفهوم الحضارة في الرؤية الإسلامية:
لم يتفق الباحثون في دراسات الحضارة الإسلامية على معنى محدد للحضارة يكون جامعا مانعا. ولا تكاد هذه الدراسات تخلو إما من اقتباسها الحرفي للمفهوم الغربي المتضارب أو فهمها القاصر لدلالات المعنى العربي والقرآني. وعليه فسوف نتعرف أولا على هذا المفهوم عند الباحثين، ومن ثم نتحدث عن المفهوم القرآني للمصطلح.. ونشير هنا إلى الدراسة القيمة التي قدمها نصر عارف لضبط هذا المصطلح.
إذا أخذنا عينة من التعريفات لمفهوم الحضارة فإن "ابن خلدون" يرى أن الحضارة أحوال زائدة على الضروري "ثم إذا اتسعت أحوال هؤلاء المنتحلين للمعاش وحصل لهم ما فوق الحاجة من الغنى والرفه دعاهم ذلك إلى السكون والدعة، وتعاونوا في الزائد على الضرورة، واستكثروا من الأقوات والملابس والتأنق فيها والتوسعة من البيوت واختطاط المدن والأمصار للتحضر، ثم تزيد أحوال الرفه والدعة فتجيء عوائد الترف البالغة مبالغها في التأنق في علاج القوت واستجادة المطابخ وانتقاء الملابس الفاخرة... ومعالاة البيوت..... وهؤلاء الحضر، ومعناه الحاضرون أهل الأمصار والبلدان، ومن هؤلاء من ينتحل في معاشه الصنائع، ومنهم من ينتحل التجارة، وتكون مكاسبهم أنمى وأرفه من أهل البدو؛ لأن أحوالهم زائدة على الضروري، ومعاشهم على نسبة وجدهم" [1] . [ ص: 53 ]
واستخـدام ابن خلدون لمفهـوم الحضـارة متوافق مع المفهوم اللاتيني "Civilization" غير أن فهـم ابن خلدون لمفهـوم الحضارة اقتصر على المـدنية، ويكشـف قوله: "التمدن غاية للبدوى يجري إليها" [2] هذا الفهم.
إن فهم ابن خلدون جاء قاصرا لعدة اعتبارات، منها اعتبار شرعي يتعلق بالشريعة ذاتها، فهل مع وجود الضروري [3] وانتفاء الحاجي [4] والتحسيني
[5] ينعدم وجود الحضارات؟ فابن خلدون يرى أن الحاجي والتحسيني هما اللذان يوجدان الحضارة في حين أن الضروري أصل والحاجي والتحسيني توابع، فإذا اختل الضروري بإطلاق اختلا بإطلاق، وقد يلزم من [ ص: 54 ] اختلال التحسيني بإطلاق اختلال الحاجي بوجه ما، ومن اختلال الحاجى بإطلاق اختلال الضروري بوجه ما، فلذلك إذا حوفظ على الضروري فينبغي المحافظـة على الحـاجي، وإذا حوفظ على الحاجي فينبغي أن يحافظ على التحسيني [6] .
وهذه المصالح تتكامل لإحداث الحضارة. كما أن الترف "ليس قرينا حتميا للحضارة، أو نتيجة حتمية لرقيها. فالترف ليس حالة من حالات الحضارة، وإنما هو موقف من الحياة، فقد يكون هناك من هو واسع الدخل لكنه منتظم الإنفاق. بينما يكون هناك محدود الدخل لكنه مختل الإنفاق. وإنما يكون الترف في اختـلال ترتيب الأولويـات في وجوه الإنفاق" [7] ، أي أن الترف في حد ذاته ليس معيارا للحكم على الأشياء، وإنما موقف الإنسان من زينة الحياة الدنيا - الترف - هو المعيار.
يتفق المودودي وسيد قطب على أن الحضارة هي الإسلام ذاته. يقول المودودي: "إن هذه الحضارة جامعة بين الدنيا والدين، ولا يجوز أن يعبر عنها بكلمة الدين، حسب مفهومه الضيق. وإنما هي نظام متكامل يشمل كل ما للإنسـان من أفـكار وآراء وأعمـال وأخلاق، في حياته الفردية أو العائلية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية. وإنما هي مجموعة [ ص: 55 ] المناهج والقوانين التي قررها الله سبحانه وتعالى لكل هذه الشؤون والشعب والمناهج المختلفة لحيـاة الإنسـان، هي المعبر عنها بكلمة دين الإسـلام أو الحضارة الإسلامية" [8] .
أما سيد قطب فيذكر أن "الحضارة هي عمارة الأرض وترقية الحياة على ظهرها، إنسانيا وخلقيا وعمليا وأدبيا وفنيا واجتماعيا وفق التصور الإسلامي للكون والإنسان والحياة. وبناء عـلى هذا فإن المجتمع الإسلامي - وهو المجتمع الذي يطبق شريعة الله في كل جوانب الحياة - هو وحده المتحضر. أما المجتمعات الأخرى التي تنكر وجود الله أصلا أو تجعل له ملكوت السموات وتعزله عن ملكوت الأرض أو لا تطبق شريعة الله في نظام الحياة ولا تحكم منهجه في حيـاة البشر، فهذه كلها مجتمعات جاهلية أو متخلفة" [9] .
غير أن الحضارة "تفاعل، فالقول بأن الإسلام - كقيم ومفاهيم - حضارة دون ممارسة عملية يجعل من الإسلام ذاته مجرد تراث ليس إلا؛ والكلام المسطور لا يصح تسميته حضارة، من هنا يمكننا أن نفهم لماذا جعل الإسلام الإيمان به يقينا في القلب وعملا يدب في الحياة في آن معا.... وعلى [ ص: 56 ] هذا الأساس فإن الحضارة الإسلامية هي تفاعل الأنشطة الإنسانية للجماعة التي توجد خلافة الله في الأرض عبر الزمن وضمن المفاهيم الإسلامية عن الحياة والأكوان"
[10] .
وهذا لايمنـع أن يكون "لكل جماعة إنسانية حضارة مهما كان مستوى هذه الجماعة الثقافي أو العمراني، ومهما كانت أفكارها وعقائدها، ويبقى الفارق الوحيد بين تلك الحضارات مستويات الأفكار والقيم ذاتها. وتعريف الحضارة بمعزل عن أي خلفيات ومعطيات فكرية ومبدئية هو "تفاعل الأنشطة الإنسانية لجمـاعة ما في مـكان معين وفي زمان محدود أو أزمان متعاقبة ضمن مفاهيم خاصة عن الحياة". وهذا التعريف يجعل الناس سواء في صنع الحضارة وفي التنافس، ويعترف بالقيم محركا أساسيا لأنشطة الإنسان" [11] .
ومن المفـكرين الذين اهتمـوا بالدراسات الحضارية مالك بن نبي، وله أكثر من تعريف للحضارة، ففي كتابه "شروط النهضة" يذكر أن [ ص: 57 ] "مشكلة كل شعب هي في جـوهرها مشـكلة حضارته. ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية. وما لم يتعمق في العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها..... وأن الحضارة لا تظهر في أمة من الأمم إلا في صورة وحي يهبط من السماء ويكون للناس شرعة ومنهاجا، أو هي - على الأقل - تقوم أسسها في توجيه الناس نحو معبود غيبي، بالمعنى العام، فكأنما قدر للإنسان أن لا تشـرق عليه شمس الحضارة إلا حيث يمتد نظره إلى ما وراء حياته الأرضية أو بعيدا عن حقيقته، إذ حينما يكتشف حقيقة حياته الكاملة يكتشف معها أسمى معاني الأشياء التي تهيمن عليها عبقريته ويتفاعل معها" [12] .
وفي كتابه "آفاق جزائرية" يعرف الحضارة بأنها "مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقدم لكل فرد من أفراده في كل طور من أطوار وجوده منذ الطفولة إلى الشيخوخة المساعدة الضرورية له في هذا الطور" [13] .
أما في كتابه "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي" فإنه يعرف الحضارة بأنها "جملة العوامل المعنوية والمادية التي تتيح لمجتمع ما أن يوفر لكل عضو فيه الضمانات الاجتماعية اللازمة لتطوره. فالفرد يحقق ذاته [ ص: 58 ] بفضل إرادة وقدرة ليستا نابعتين منه بل ولا تستطيعان ذلك وإنما تنبعان من المجتمع الذي هو جزء منه"
[14] .
ويذهب محمد فتحي عثمان إلى أن "الحضارة تحقيق للراحة الإنسانية في جوانبها المتعددة المتقابلة المتكاملة، جسدية وعقلية ونفسية وروحية. وهكذا تشمل الحضارة النشاط الإنساني في شتى مجالات الأدب والفنون والعلوم. كما تشمل أيضا صور الإنتاج المادي من عمائر وجسور وطرق وغيرها" [15] . وهذا هو رأي القائلين بأن الحضارة تتركب من عنصري الثقافة ( الأفكار والقيم) والمـدنية (المادة). والقائلون بهذا الرأي يشكلون تيارا توفيقيـا بين الذين يرون الحضارة هي الـ "Culture" والذين يرون أنها الـ"Civilzation".
إن الباحـث مهمـا يبحث في كتب الدراسـات الحضارية العربية فلن يضيف جديدا إلى تعريف الحضارة من حيث إنـها تعني الإقامة في [ ص: 59 ] الحضـر أو أنـها شاملة للناحيتين المادية والروحية، أي الثقافة والمدنية. فالذين نظروا للجـانب اللغوي للفظ "حضارة" عرفوها بأنـها الإقـامة في الحضر، أي سكنى المدن. أما الذين انتبهوا إلى قيمة الأفكار والقيم وتأثيرها في إقامة العمران والرقي فقد عرفوا الحضارة بأنها التقدم الروحي والمادي على السواء.
وهذه الفهوم للمفهوم لا تعطيه حقه من التوضيح، وإن من شأن استصحـاب المعاني القرآنية واللغـوية للمفهوم أن تعطى معنى أوضح لمفهوم الحضارة.
وقد أسهـب نصر عـارف في تحـليل الآيات القرآنية التي تتحدث عن الحضـور والشهود، ومن المفيد الرجوع إليها، وقد خلص إلى القول: "إن الحضـارة هي الحضـور والشهادة بجميع معانيها والتي ينتج عنها نمـوذج يستبـطن قيم التوحيـد والربوبية. ويكون دور الإنسـان تحقيق الخـلافة على الأرض وتحقيق تمـام التمـكين عليها منطلقا من هذا النموذج التوحيدي" [16] .
فالحضارة بهذا المعنى هي حضور الإسلام في الكون، أي أن الحضارة هي الإسلام باستصحاب دلالات الشهادة في القرآن الكريم. [ ص: 60 ]
وهذه النتيجة هي نفس النتيجة التي خلص إليها سيد قطب في دراساته الحضارية، حينما قال: إن الإسلام هو الحضارة وما عداه جاهلية وتخلف.
ومهما يكن من أمر فإن تعريفات غالبية المفكرين المسلمين المعاصرين لا تختلف كثيرا عن التعريف القرآني للحضارة، فهم قد عرفوها بأنها الاسلام ذاته، أي تفاعل الأنشطة الإنسانية للجماعة، التي توجد خلافة الله في الأرض عبر الزمن وضمن المفاهيم الإسلامية عن الحياة والأكوان، وهذا هوالحضور ذاته والشهود عينه، الذي يقتضي تقديم نموذج استخلافي يجيب عن التساؤلات النهائية عن الحياة والمصير وعلاقة الانسان بالإله والكون وبأخيه الإنسان؛ فالإجابة عن هذه التساؤلات هي التي تؤسس النموذج المعرفي، والنماذج المعرفية هي:
- إما نموذج معرفي علماني دنيوي، يحصر فلسفته في عالم الشهادة (الدنيا) ويتعامل مع المادة والسنن الجزئية، وهذا نموذج يؤدي إلى الفساد في الكون، ومصير الحضارة التي تتعامل به هو السقوط والدمار لتناقض حركتها مع قوانين الوجود.
- وإما نموذج معرفي توحيدي، يؤمن بالإله الواحد، ويربط عالم الشهادة بعالـم الغيب، ويتعامل مع السنن الجزئية والسنة الكلية الحاكمة وهي سنة الإيمان، وهذا نموذج من شأنه عمارة الكون وفق أوامر الله؛ ومصير الحضارة التي تتعامل به هـو التمكين والاستـخلاف التام، الذي وعد الله به المؤمنين. [ ص: 61 ]
وتلخيصا لما ذكرنا يمكن القول:
أولا: إن كل حضارة هي وليدة فكرة أو عقيدة لها تصوراتها وتساؤلاتها عن الإله والإنسان والعالم، وتلك التساؤلات والتصورات هي التي تشكل رؤية العالم. وتتحكم هذه الفكرة في نشأة الحضارة وفي تطورها وسيرورتها، وعلى هذا فإن دراسة الحضارة لا تتم بمعزل عن حقيقة الوجود وغاية الحياة.
ثانيا: إن من الخطأ البين محاولة الربط بين لفظ "الحضارة " والـ"Civilization" بحيث يتم تفسير الحضارة بأنها المدنية أو الرقي والتقدم [17] ، ومن ثـم يتم تغييب النسق العقدي، الذي يحدد طبيعة العـلاقة مع الله والغيب والكون والإنسان.
ولعل مصدر الخلاف الأساس في مفهوم الحضارة بين النموذجين الإسلامي والوضعي العلماني "يقوم على تفسير التقدم، فالنموذج العلماني يرى التقدم ماديا خالصا بينما يرى الإسلام أن التقدم معنوي ومادي، وأنه إنساني أصلا وتوحيدي أساسا، فكل تقدم في مفهوم الإسلام يحث على التحرر من عبودية غير الله" [18] . [ ص: 62 ]
وهذه النقطة تقود إلى نقطتين هما:
أ- هناك حضارات قامت على أساس استبعاد الله والبعد الغيبي وتعاملت مع عالم الشهادة، واقتصر علمها وقوانينها وتمثلاتها للوجود على المفاهيم الوضعية القائمة على الصراع: ( يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ) (الروم:7)، هذه الحضارة مآلها أن تحمل بذور فنائها من داخلها بحكم تناقضها مع النظام الكوني القائم على الحق، فتكون الأزمات الداخلية الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، وتكون الحروب وكافة أشكال إهلاك الحرث والنسل: ( يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون * أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون * أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون * ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون * الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون ) (الروم:7-11).
ب- كما أن "هناك حضـارات دينية قامت في أصل نشأتها على أسـاس ديني، وظـلت في تطورها التاريخي في ضعفها وقوتها مرتبطة ارتباطا جـدليا بمـدى التزامـها وابتعادهـا عن التوجيه الدينـي [ ص: 63 ] وحضـوره أو غيابه داخـل المؤسسات الاجتمـاعية، فـكل حضـارة لها منطقها الخاص" [19] .
ثالثا: إذا كانت الحضـارة تعـني الشهـادة، أو حضور النموذج الذي تكون فيه صبغـة الله هي الموجهة لعمـل الإنسـان، وتكون فيه غاية الحياة مربوطة بالآخرة، وعمارة الأرض - التي هي دائرة التكليف - سعي للإصـلاح فيهـا لا الإفساد، فإن الحضارة بهذا المعنى هي الإسلام أو حضـارة الإسـلام، وهي الحضارة الموعودة بالانتصار في مرحلة الظهور الكلي للدين. [ ص: 64 ]