الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            العروج الحضاري بين مالك بن نبي وفتح الله جولن

            الأستاذ الدكتور / فؤاد عبد الرحمن البنا

            3- المزاوجة الدائمة بين (فقه الواجب) و (فقه الواقع):

            في عشرات المواضع من كتبه، وبأساليب متعددة، ولغة راقية، حث جولن على الجمع بين آيات الشريعتين القرآنية والفطرية، ومما يثمره ذلك الجمع وصول القارئ إلى ناصية التمكن من فقه الواجب: (القرآن والسنة)، وفقه الواقع: (الناس والكون)، إذ بهذا الجمع يتجنب المرء الوقوع في مزالق خطيرة وكثيرة، ويتحصل على مكاسب جمة وعظيمة.

            وقد أكثر من ذكر مـآسي العالم الإسلامي، رابطا إياها بمخالفة الشريعة الفطرية، حيث أوضح أن لهذه المخـالفة عقابا معظمه دنيوي وبعضه أخروي [1] .

            ومن العقاب الدنيوي: الخذلان، حيث يحدث التآكل الروحي والمعنوي في العالم الداخلي للمجتمع، مما يؤدي إلى انقطاع الأنعم الإلهية عنه، وأورد [ ص: 111 ] قول الله عزوجل: ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (الرعد: 11)، وعلق عليه بالقول: "هذه الآية الكريمة تذكرنا بقاعدة مهمة في الظهور والخذلان، أو العز والذل، وتحدد هذا الفراغ الهائل في مسلمي العصر الحاضر" [2] .

            وحذر من أن الجهل بالقوانين الاجتماعية، وعدم التعالج بشكل علمي، سيؤدي إلى انقلاب كل شيء رأسا على عقب، مؤكدا أن هذا الأمر مرتبط بمسألة البقاء أو الزوال [3] .

            وعبر عن هذه الحقيقة في مقام آخر بقوله: "إن الفطرة تقوم بكسر أرجل الذين لا يعرفونها، ولاينظمون سيرهم حسب قواعدها، وتسحق أرواحهم، بينما تكون لينة كالشمع في أيدي الذين يعرفونها، ويتناغمون مع روحها في سلوكهم وحركاتهم وسكناتهم ويكسبونها لحنا داووديا" [4] .

            ومن يتأمل في الفتوق الموجودة في حياة مسلمي هذا الزمان، سيتوصل إلى أن إحدى الثمار المرة لهذا الفصل بين الشريعتين القرآنية والفطرية، هي العلمانية، فقد تمكنت من الحركة في الفراغات التي صنعها هذا الانفصام، ولهذا ظل دائب التأكيد على اتفاق العلم والدين. وسجل في هذا السياق المقولة الشهيرة للعلامة (ألبرت أينشتاين): "العلم دون دين أعمى، والدين دون علم أعرج" [5] . [ ص: 112 ]

            وبعد التخـلية في هـذه القضـية، ببيان آثار وتداعيـات انفصال الشريعة الفطرية عن الشريعة القرآنية، شرع جولن بالتأصيل لضرورة الوصل بين الشريعتين.

            وكان في وصفه لوارث الأرض قد جعل الوصف الرابع: "إعادة النظر في ملاحظاته عن الكائنات والإنسان والحياة، وتمييز الصحيح من الخطأ فيها بميزان دقيق" [6] ، وأورد في هذا السياق ثلاث نقاط تنتصب كلها كجسور بين الشريعتين، عند التأمل العميق فيها [7] .

            وفي ذات السياق جعل الوصف السابع لوارث الأرض: الفكر الرياضي، معيدا نهضة المسلمين في العصر الذهبي، وكذا في الحضارة الغربية في هذا العصر، إلى هذا الفكر المكتظ بالقوانين الرياضية، وهي التي تصبح ثقافة صاحبها المتحلي بها "من الفيزياء إلى الميتافيزيقيا، ومن المادة إلى الطاقة، ومن الجسد إلى الروح، ومن الشريعة إلى التصوف" [8] .

            ولفت الأنظـار إلى منهج القرآن في مخاطبة الناس والذي ينبغي أن يتحلى به المؤمن، وهو مراعاة الفروق الفردية، ومخاطبته لمختلف المستويات من الناس [9] . [ ص: 113 ]

            ولهذا دعا إلى معرفة المخاطب، واستخدام الأسلوب المناسب للتفاهم معه [10] . وحث على الدوران حول المقاصد، والبدء بالكليات، وإتقان فقه الأولويات، مع الإشارة إلى أن هذه الأولويات نسبية، فما يقدم لشخص قد يؤخر على آخر [11] .

            ودعا إلى معرفة ثقافة العصر، وأبدى أساه على أحوالنا الحاضرة التي تدمي القلوب شبابا وشيبا، معيدا ذلك إلى ضحالة ثقافة من يتقدم إلى الإرشاد والتبليغ. وأوضح مداخل التغريبيين إلى أجيال المسلمين: "فلقد صرعوا جيلنا بالفيزياء، وأركعوهم بالكيمياء، وأنزلوا على رؤوسهم الشهب بالفلك"، داعيا المبلغ أمام هذا الموقف إلى أن لا يقف مكتوف اليدين، بل يأخذ بيد هذا الجيل، مستعملا نفس الوسائل [12] .

            وذهب إلى أن معرفة ما يحدث في الكون هو السبيل إلى فهم الآيات التكوينية، وأن من لا يفهم هذه الآيات يضرب عليه الذل والمسكنة، مؤكدا مرة أخرى أن القرآن الكريم يشرح هذه الآيات التكوينية ضمن آياته البينات: "ولا يعد تاليا للقرآن الكريم حق تلاوته من كان يسد أذنه عن هذه الآيات التكوينية ولو ختم القرآن يوميا. فلقد أرسل الله القرآن ليتدبر الإنسان ويفكر في آياته، وكل من ينصر القرآن عليه أن يفهم هذا الأمر" [13] . [ ص: 114 ]

            وفي ذات الدرب جعل من طرق فهم الواقع ومن صفات المبلغ: "النظر من زاوية العصر" إلى كل المسائل قبل أن يتطرق إليها [14] .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية