1- جمع الإسلام بين (الثبات) و (التطور):
الإسلام دين للأبد والخلود لكل بني الإنسان في مختلف مناطق الأرض؛ والخصيصة الرئيسة التي منحته القدرة على البقاء واستيعاب سائر الناس في شتى الظروف، هي جمعه بين الثبات في الأصول والكليات والمقاصد، والمرونة والتطور في الفروع والجزئيات والوسائط.
يقول جولن: "الإسلام ثابت من جهة، ومتغير ومتطور من جهة أخرى، فهو كشجرة باسقة أصلها في الأرض وفرعها في السماء، فقد ضربت جذورها في الأعماق، تعجز أي عاصفة مهما اشتدت عن اقتلاعها، وأغصانها ممتدة للجهات الأربع، تعطي في كل فصل أثمارا جديدة" [1] .
ولم يكف عن التأكيد على أن وطنه وأمته لا يمكن لهما أن يغادرا مراتع التخلف إلا بالعودة إلى القرآن، وقد أكد على هذا الأمر حتى في أسـوأ الظروف السيـاسية التي مرت بها تركيا، أثناء ليالي الشتاء العلمانية القارسة. [ ص: 118 ]
لكنه ظل يقرن هذه العودة بالوعي الذي لا يمكن أن يكون إلا ثمرة لتدبر القرآن، كما أسلفنا، وهذا يعني أنه يرى أن الإقلاع الحضاري لا يمكن أن يتم إلا بجناحي النقـل والعقـل، والنقل هو منبع الثوابت، والعقل منبت المتغيرات.
ومن وسائل تدبر القرآن - التي انحاز إليها حتى يظل القرآن جديدا، ويستمر كتابا للخلود، وتظل معانيه غير متناهية - شعور القارئ بأنه أنزل عليه في هذا الزمن، أو كما يقول جولن: "على الفرد أن يقول لنفسه: صحيح أني لست بنبي، ولكني أشعر أن آيات القرآن البالغة ستة آلاف ونيف وكأنها قد أنزلت علي" [2] .
وهذا ما كان يحث عليه مالك بن نبي أيضا، حتى أنه ذكر في أحد كتبه أن والد المفكر الباكستاني الشهير د.محمد إقبال، كان ينصحه وهو طفل صغير بأن يقرأ القرآن كأنه أنزل عليه هو!
وبالجمـع بين النص القرآني الثابت والعقل الإنساني المتجدد تكون طائرة الإقلاع الحضاري قد جمعت بين جناحي الأصالة والمعاصرة، حيث يقول جولن: "وعلينا في هذا السياق أن نواصل السير في إطار ديننا وتراثنا وأعرافنا وعاداتنا وتقاليدنا، مع أخذ ما يستجد من تفسيرات الزمان بعين الاعتبار، وبمرور الزمان ستكون قيمنـا الذاتية جزءا لا يتجزء من طباعنا. [ ص: 119 ] وما نقتبسه من الخارج سيصطبغ بصبغتنا وسنتبناه فيكون لونا مهما من ألوان الخطوط في نسيج أطلسنا الذاتي، الفكري والثقافي" [3] .
وبمثل هذه الوصفة، جعل من (الأصالة) موجها لارتياد (العصر)، وجعل من المعاصرة دافعا للمحافظة على الأصالة وأداة لإبراز تألقها.
وبالعودة إلى ما سطره عن الثوابت، يمكن القول: إن أثبت الثوابت النظرية عنده هي (الإيمان)، وأثبت الثوابت العملية هي (الإنسان).
فعلى مستـوى الإيمان فإنه لا يقدمه كأمر غيبي أو بصورة فلسفية مجردة، بل يراه ضـرورة فردية ووطنيـة وأمميـة وعـالمية، لعمارة الدنيا قبل الآخرة.
ومع الحرج الذي لقيه الإيمان في تركيا، فإن هذا لم يمنع جولن من تقديمه كحاجة وطنية ماسة يمكن أن يكتب به الوجود لتركيا أو يكتب عليها الفناء بغيابه، حيث يقول: "إن أساس حياتنا المعنوية قائمة على الفكر الديني والتصورات الدينية. ولقد حافظنا على وجودنا حتى اليوم بهذا الأساس، وكانت وثباتنا أيضا منطلقا منه، فإن جردنا أنفسنا منه، فسوف نجد أنفسنا متخلفين ألف سنة للوراء" [4] .
أما الإنسان فهو المخلوق المركزي في هذا الكون وهو أثمن ما في الوجود الإلهي، وقـد عـبر عن هذه الحقيقة بأساليب كثيرة، حيث يقول [ ص: 120 ] - مثلا -: إن البشر - وهم أعظم مرآة تعكس قدرة الله ومعجزة خلقه - "يمثلون مرآة لامعة، وهم إحدى ثمار الحياة الرائعة، ومصدر للكون بأكمله، وبحر يبدو كقطرة صغيرة، وشمس تشكلت كبذرة ضئيلة، ولحن عظيم رغم مكانتهم المادية المتدنية، وهم سر الوجود كله مجموعا في جسم صغير. إن البشر يحملون روحا يجعلهم يساوون الكون بأكمله بما يمتلكون من ثراء في شخصياتهم. وهو ثراء يمكن أن يتطور إلى تفوق" [5] ، بل وذهب إلى أن الإنسان يمتلك قيمة أكبر من قيمة الملائكة [6] .
ولهذا سخر كافة جهوده وجهود تلاميذه لخدمة هذا الإنسان، على المستوى الوطني والأممي والدولي، حيث يحاولون تقديم كل ما يستطيعون من أجل إسعاد الناس في الدنيا والآخرة.
ومن المفارقات العجيبة أن عنوان المتغيرات - وهو التجديد - هو إحدى الثوابت الأساسية في فكره، وهي في الحقيقة من أهم ثوابت الدين نفسه، إذ بها يستطيع الإسلام استيعاب حاجات الناس المتعددة والمتجددة، ويستطيع هضم النافع المفيد في كل الحضارات، وبذلك يكون الإسلام دينا عالميا ويكتب له الخلود إلى قيام الساعة. [ ص: 121 ]
وتشتد الحاجة للتجديد في هذا الزمن: فـ"إن المجتمع الإسلامي بحاجة إلى بعث ما بعد الموت، وإصلاح جاد في ملكاته العقلية والروحية والفكرية، وبإفادة دافئة، إلى "إحياء" ..إحياء يستجيب لمتطلبات أصناف البشر كلهم ويحتضن الحياة كلها، في كل زمان ومكان، بقدر السعة والعالمية التي تعد بها مرونة النصوص، ضمن الجد والجهد للحفاظ على صفاء أصل الدين" [7] .
لقد أجاد جولن العض على الثوابت بالنواجذ، وأبدى مرونة شديدة في التعامل مع المتغيرات، وهذا يؤدي إلى مفردة أخرى من مفردات الإقلاع الحضاري، وهي موضوع العنوان الآتي.